كانت أراكسي بابازيان أرشايكان في الخامسة من عمرها عندما حدثت الإبادة التركيّة للأرمن في عام 1915. وقد شهدت وهي طفلة المجازر والتهجير القسريّ والترحيل الجماعيّ، وأخيراً السير في ظروف قاسية ممّا أدّى إلى وفاة المبعدين من خلال حرمانهم من الماء والغذاء. كان حظّها أن تبقى على قيد الحياة بعدما أجبرت مع مئات الآلاف من الأرمن على السير لمئات الأميال وصولاً إلى صحراء سوريا.
روت أراكسي لـ”نقاش” قبيل وفاتها بأيام -إذ توفيت بتاريخ 22 تموز الماضي بسبب التقدم بالسن- ظروف تساقط أفراد عائلتها بسبب المرض والجوع وغارات العصابات في طريق الموت فرداً تلو الآخر، ثمّ كيفيّة دخولها عبر صحراء سوريا إلى العراق عندما كانت تبلغ من العمر خمس سنوات ليلتقطها رجل من قبيلة الجحيشات العربيّة في منطقة ربيعة الحدودية مع سوريا، ظنّاً منه أنّها ولد صغير، وحين اكتشف أنّها ليست سوى طفلة صغيرة، تخلّى عنها لعجوز فضّلت تربيتها مع بناتها العربيّات الأكبر سنّاً.
أطلقت عليها والدتها الجديدة اسم فاطمة أو “فطّوم” وهي تصغير محبّب للاسم الأوّل، وتعلّمت “فطّوم” على يد والدتها العربيّة كلّ عادات البدو في حلب الأبقار والطبخ وطريقة سرد الحكايات، ولم تفارق اراكسي لهجة البدو العرب حتّى يوم وفاتها.
يرى الأرمن في قصّة أراكسي دليلاً على الكرم العربيّ بعد الإبادة التركيّة لهم، وهم يدعون إلى تعزيز العلاقات مع العرب في وقت تواجه المنطقة العربيّة تحوّلاً جذريّاً بعد ثورات الربيع العربيّ، وصولاً إلى اجتياح تنظيم “داعش” مناطق واسعة من العراق وسوريا.
يقول رئيس اللجنة الإداريّة لطائفة الأرمن الأرثوذكس في العراق ملكون ملكونيان لـ”نقاش” حول القضية “ما أشبه اليوم بالبارحة، قبل قرن من الزمن كانوا يقتلون الأرمن بطرق بشعة، أمّا الآن فـ”داعش” يعيد إنتاج ما فعله بنا الأتراك بالضبط، لم يتغيّر شيء سوى شكل القاتل وأسماء الضحايا أمّا طريقة القتل فواحدة والمصالح هي ذاتها تتلخّص في السيطرة على الموارد والثروة في المنطقة”.
يجتمع أبناء أراكسي وأحفادها حولها، وهم يستمعون إلى قصّة آخر ناجية على قيد الحياة من الإبادة التركيّة للأرمن واكبر معمرة أرمنية في العراق وهي تروي لهم عن إخلاص أمّها العربيّة وحمايتها لها بأيّ ثمن.
وتقول: “في أحد الأيّام أردت تقليد الفتيات العربيّات فوشمت وجهي وذراعي على طريقة البدو العرب، وحين اكتشفت والدتي العربيّة ذلك لطمتني على وجهي قائلة: “أنت أمانة في عنقي، يجب أن تحافظي على صفاء وجهك إلى أن أسلّمك إلى أبناء ملّتك، مثلما تسلّمتك نقيّة وطاهرة”.
كانت أمّها العربيّة تريد الحفاظ على عذريّة وجهها ودينها وانتمائها إلى ملّتها، ورفضت تزويجها إلى أيّ عربيّ مسلم تروي أراكسي أنّ أمّها العربية ابتهجت حين تقدّم شاب أرمنيّ في العام 1924 نجا هو الآخر من الإبادة إلى خطبتها، فقالت له: “الحمد لله، سأموت الآن وأنا مرتاحة بعدما زوّجت ابنتي الأرمنيّة”.
ملايين الأرمن لم يولدوا ويتمتّعوا بالحياة بسبب قرار سياسيّ لخلق هويّة تركيّة متجانسة، لكنّ شتاتهم المنتشر الآن في الشرق الأوسط وبقيّة دول العالم اندمج في المجتمعات الجديدة، في حين ظلّ رابط واحد يحافظ على هويّتهم، ألا وهو ذكرى الإبادة.
يقول كيفو تامر كالديجان وهو أرمنيّ سوريّ يعمل سائق أجرة في يريفان عاصمة أرمينيا لـ”نقاش”:انه يتوجب ان “يزور جميع الأرمن من مختلف دول العالم النصب التذكاريّ للإبادة في يريفان قبل أن يفكّروا في زيارة أيّ معلم دينيّ أو أثريّ في أرمينيا فذكرى الإبادة هي ما يجمع الأرمن في مختلف أنحاء العالم”.
وإذا كانت ذكرى الإبادة تمارس دوراً مركزيّاً في بلورة الهويّة الأرمنيّة المعاصرة، فإنّ الاحتفال بالذكرى المئويّة للإبادة أصبح فرصة لبلورة مطالب جديدة، مثل الاعتراف بالإبادة التركيّة للأرمن من قبل الحكومات التي يحلمون جنسيّات دولها، والمطالبة بمقعد يمثّلهم في البرلمان مثلما يحصل الآن في العراق.
إذ خرج الأرمن في تظاهرة سلميّة للمرّة الأولى في تاريخ الطائفة، انطلقت من أمام السفارة التركيّة في بغداد في الذكرى المئويّة للإبادة في 24 نيسان (ابريل) الماضي، وهي تحمل شعارات تؤكّد إحياء الذكرى من جهّة، وربطها بما يحدث من إبادات في العراق لاسيّما ما حصل للإيزيديّين وللمذبحة التي حصلت في معسكر سبايكر.
وفي هذا الشأن، أشار مطران الأرمن الأرثوذكس في العراق الدكتور آفاك أسادوريان لـ”نقاش” إلى أنّه “لا يمكن لذاكرتهم الجريحة أن تتوقّف عن المطالبة حتّى بعد مرور مئة عام”.
وأضاف: “هذا درس مهمّ نتعلّمه من مأساة الإبادة، والدرس الآخر يدور حول “الإنكار”، فهو يعمّق إحياء الذكرى ويغلق الطريق أمام أيّ شكل من أشكال المصالحة والتسوية”.
وفي خطوة غير مسبوقة قصد الأرمن النجف الأشرف لمقابلة آيات الله في نيسان الماضي للتعريف بالإبادة واستصدار فتاوى دينيّة من المراجع الكبار لغرض إدانتها، يقول المطران أسادوريان: “أبدى آيات الله الأفاضل من المراجع الكرام في النجف الأشرف، إسحق الفيّاض ومحمّد سعيد الحكيم وبشير النجفي تعاطفهم مع مطالب الأرمن بدءاً بالاعتراف بالإبادة وصولاً إلى منح الأرمن مقعداً في البرلمان العراقيّ”.
وعلى صعيد متّصل أقام الأرمن بتاريخ 23 أيار مؤتمراً دوليّاً في بغداد بمناسبة الذكرى المئويّة للإبادة قدّموا خلاله المطالب نفسها، الأمر الذي يعكس تحوّلاً في تحرّك الطائفة. فالمطالبة بمقعد خاصّ بالأرمن في البرلمان العراقيّ، باتت تعني أنّهم يقدّمون أنفسهم بوصفهم قوميّة متميّزة على الرغم من أنّهم يظلّون إحدى الطوائف المسيحيّة المعترف بها رسميّاً في العراق.
اراكسي التي أصبحت “فطّوم” تتناول تفاصيل حياتها بين البدو بعد مرور قرن من الزمن وكأنّها حدثت البارحة مفتخرة بوشومها ولهجتها البدويّة التي أصبحت علامة على هويّتها المركّبة، وحين تنظر ابنتها “ازادوهي ارتين ارشاكيان” إلى صورها وسط عائلتها المكوّنة من ثمانين شخصاً من الأبناء والأحفاد وأبناء الأحفاد، لا تملك سوى التفكير بهذه المعجزة، معجزة تحوّل الطفلة الناجية إلى عائلة بهذا العدد من الأطبّاء والمهندسين والتجّار.
تقول ازادوهي : “حين ننظر إلى صورة والدتي الناجية من الإبادة وقد تحوّلت إلى عائلة بهذا الحجم، لا نملك سوى التفكير في أمّتنا الأرمنيّة، كم كان سيبلغ عدد أفرادها لولا الإبادة”.
بقلم: سعد سلوم | نقلا عن: صوت العراق
الصورة: لاجئون ارمن في شارع ملاطية بانتظار ترحيلهم تم قتلهم لاحقا (المصدر: Wikimedia).