25033.jpg

الأرمن بين العروبة والإسلام.. والقومية اللبنانية: ما لهم وما عليهم

الأرمن بين العروبة والإسلام.. والقومية اللبنانية: ما لهم وما عليهم

أتلانتا، 24 أبريل 2024 — في ظلّ تقاعس المسؤولين وأولياء الأمر، جرت العادة منذ بضعة أعوام وعند كلّ حدث هام، أو وضعٍ أمنيّ خطير، أو تطوّرات إقليميّة لها انعكاساتها السلبية على لبنان، أن تكون الطائفة الأرمنيّة في لبنان في فوّهة المدفع عرضةً للانتقادات والسبّ والشتم والتمييز العنصري من دون أن يكون لها في وقائع الأمور لا ناقة ولا جمل. وما أحداث برج حمّود الأخيرة إلا خير دليل على ذلك إذ قام بعض الشبّان من اللبنانيين غير الأرمن من المنطقة بتهديد بعض السوريين ومَنعهم من التجوّل لأسباب عديدة لا مجال هنا للدخول في جدال حولها أو تبيان أحقيّتها أو عدمها إذ يخرج هذا الأمر عن نطاق هذه المقالة. الواقعة الثابتة أنّ الأرمن تعرّضوا لأبشع الانتقادات وأشنع النعوت وأفظع العبارات العنصريّة عن واقعة لا تمتّ إليهم بصِلة.

لذا ارتأيت أن أكتب هذه المقالة عملاً بالآية الكريمة من سورة النحل: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)،» لعلّ بعض الرؤوس الحامية تتعِظ وتتعقّل وترى الأمور على حقيقتها وبموضوعية لا كما خُيِّلَ لها أو صُوّر لها لغايات معيّنة. أضف إلى ذلك أنّ توقيت هذه المقالة يأتي قبل بضعة أيام من الإحتفال بالذكرى التاسعة بعد المئة للإبادة الأرمنيّة، بحيث تكسر هذه المقالة المعزوفة الكلاسيكيّة للاستعراض التاريخي لهذه الإبادة وتُقدّم وقائع جديدة عن الأرمن وتاريخهم إبّان الفتح العربي والإسلامي وفي تاريخ لبنان وتشكّل القومية اللبنانية، أي قبل واقعة الإبادة الجماعية، وكل هذا يعكس مدى تفاعل الأرمن وتأثيرهم وتأثّرهم بالتاريخ العربي والإسلامي والفارسي – الساساني، واللبناني. كما تعكس الإضاءة على الشخصيات الأرمنيّة الثلاث أدناه، الحضور الأرمني في الدول العربية والإسلاميّة وتفاعلهم معها وفيها في السياسة والجيش والاقتصاد وفي زمن ما قبل الإبادة الجماعية. لذا، إنّ توصيف الأرمن عند كلّ منعطف سياسي أو حدث أمني ذو أبعاد إقليميّة بأنهم غرباء وضيوف في الدول العربية ولاجئون فيها ليس سوى خطأ تاريخي، ومغالطة للواقع، وضرب للقوانين الدولية التي تحدد اللاجئين والمفاعيل القانونيّة لتلك الوضعية وللدستور اللبناني الذي يساوي بين جميع أبنائه ممّن اكتسبوا الجنسية اللبنانية. تُعرف هذه الظاهرة (ظاهرة تحميل أفراد أو شعوب المسؤولية عن أخطاء أو مشاكل الآخرين) في علم النفس السياسي (political psychology) بسياسة كبش المحرقة (scapegoating).

لذلك، أريد أن ألقي الضوء على ثلاثة أسماء أرمنية (فارسية وسنية وشيعية) من بين عدّة شخصيات أرمنيّة أدّت دوراً بارزاً في التاريخ العربي أو الإسلامي أو الفارسي-الساساني على الشكل التالي:

1 – رستم فرخزاد الأرمني: أصله من أرمينيا وكان القائد العام في الجيش الفارسي أيّام كسرى ويزدغرد الثالث. قاد رستم الجيش الفارسي الساساني (قبل دخول الفرس الإسلام) وعدة معارك ضد المسلمين أبرزها معركة النمارق في الحيرة في العراق بقيادة المثنَّى بن حارثة، وأشهرها معركة القادسيّة في العام 15 هجري (636 ميلادي) ضدّ المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقّاص في القادسيّة جنوب الكوفة والحلّة في العراق، والتي أسفرت عن مقتل رستم على يد الصحابي هلال بن علفة التيمي الذي أطلق صيحته المشهورة «قتلت رستم ورب الكعبة».

2 – بدر الدين الجمالي الأرمني: هو بطل مسلم في العهد الفاطمي في مصر إذ ولّاه المستنصر بالله الفاطمي إمارة دمشق العام 455 هجري الموافق 1063 م. ثم عيّن والياً على عكا وقائداً عاماً للبحرية المصرية. ومُنح الجمالي لقب تاج الأمراء وأمير الجيوش بعدما أعاد بناء سور القاهرة لتقويته ولزيادة مساحة القاهرة لِصد هجمات السلاجقة الأتراك. ويقول المؤرخ العربي ابن خلكان في كتابه «وفيات الأعيان» إن أبرز ما عُرف عن الجمالي هو دوره في «الشِّدة المستنصرية» في مصر الفاطمية الغارقة في مستنقع المجاعة والفوضى لسنوات، والتي على أثرها استدعي المستنصر الجمالي من دمشق لإعادة النظام والهدوء الى البلاد. وقد تم بناء حي الجمالية وهو أحد أقدم وأعرق أحياء القاهرة تخليداً لذكراه. لا نعلم الإسم الأرمني الحقيقي لبدر الدين الجمالي – باستثناء أصوله الأرمينية – لأنّه كان عبداً في خدمة جمال الدين بن عمار حاكم طرابلس الشرق – في لبنان حالياً – والذي منحه لقبه الجمالي على عادة ذلك الزمان في أن يحمل العبد المملوك لقب سيّده.

3 – بدر الدين لؤلؤ الأرمني: بحسب كتاب سِيَر أعلام النبلاء للحافظ أبو عبد الله شمس الدين الذهبي، كان بدر الدين لؤلؤ الأرمني يُعرف بـ»الملك الرحيم» وكان حاكم الموصل في النصف الاول من القرن السابع، ومن الشـيعة المعروفين في هذه المنطقة، وبَنى قبة يحيى بن القاسم. لا نعلم الإسم الأرمني الحقيقي لبدر الدين لؤلؤ أيضاً لأنه سُبي من أرمينيا واشتراه رجل خياط بدايةً، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان شاه.

أما بالنسبة لعلاقة الأرمن في لبنان وسوريا، فإن الوجود الأرمني يعود إلى العام 82 قبل الميلاد بعدما دخل الملك ديكران الثاني (ديكران الكبير من الأسرة الآرداشيسية) إلى سوريا ولبنان بحيث خضعتا لسيطرته ومكثَ فيها 14 عاماً تقريباً حتى العام 67 قبل الميلاد. يقول الدكتور وليد فارس في كتابه التعددية في لبنان انّ الأرمن ساندوا الحملة الصليبية الشرقية الأولى (التي كانت تهدف إلى الحفاظ على الهوية القومية اللبنانية) في القرن العاشر على لبنان وسوريا والعراق، «فجنّد الارمن أكثر من 10 آلاف محارب مع القوات النظامية الرومية، وحَمى الموارنة المردة ظهر الروم عند اجتيازهم سهل البقاع، وانضَمّت القبائل العربية التي دخلت المسيحية الى البيزنطيين ايضا وأغارت على المدن العربية الاسلامية…».

هذا ناهيك عن الشخصيات الأرمنية الكثيرة التي أثّرت في تاريخ وسياسات بعض الدول العربية، مِثل وهرام بهلفوني الأرمني، ذلك الأمير الأرمني الذي كان وزيراً للخليفة الحافظ (1130-1149) ومارس سلطات غير محدودة، وكان يلقّب بتاج الدولة، و«بوغوص بك يوسفيان» وزير التجارة والعلاقات الخارجية المصرية أيام محمد علي باشا والذي خلفه «أرتين بك شكري» حتى عام 1850، و«نوبار باشا نوباريان» أول رئيس للوزراء في مصر في 7 آب 1878 أيّام الخديوي إسماعيل و«أديب اسحق المعروف باسمه الأرمني أديب زالماتيان وهو إحدى الشخصيات البارزة في حركة النهضة العربية بين 1884 و1856، والمتصرفان العثمانيان على جبل لبنان خلال عهد المتصرفية «كارابيت أرتين باشا داوديان – والمعروف بأرتين أو داوود باشا» (1860-1868) و«أوهانس باشا قُيُومِجيَان» (1913-1915)، وآرام كارامانوكيان، القائد العام للمدفعية في الجيش العربي السوري في أربعينات القرن الماضي.

وهكذا، إنّ ما ورد أعلاه يفيد بما لا يقبل الشك، بل يقطع الشك باليقين، بأنّ الأرمن تفاعلوا مع محيطهم وفي مناطق تواجدهم وساهموا في كتابة تاريخ بعض الدول العربية والإسلاميّة واللبنانيّة كأبناء هذه الدول والأمم (لا كلاجئين أو مهجرين) سواء أكانوا مع هذا الطرف أم ذاك (ومن هنا أتى العنوان الذي اخترته لمقالتي: «ما لهم وما عليهم»). وبالتالي، كفى مزايدة على الأرمن بوطنيّتهم أينما حلّوا، سواء بلبنانيّتهم في لبنان أو سوريتهم في سوريا. واستطراداً، أختم ببيتَي شعر لإبن الوردي كان يرددهما مثلث الرحمات البطريرك مار نصر الله بطرس صفير:

لا تَقلْ أصلي وفصلي أبداً
إنما أصلُ الفتى ما قدْ حصل
قيمةُ الإنسانِ ما يحسِنُهُ
أكثرَ الإنسانُ منهُ أوْ أقلْ

ــــــ
بقلم: د. إسحاق أندكيان،
نقلا عن: صحيفة الجمهورية اللبنانية.

scroll to top