بيروت، 10 يناير 2024 — لفتني ما جاء من قِبل بعض «مجالس الرعيّات» الأرمنيّة في لبنان حول دعوة المؤمنين للمشاركة في نشاطات عدة لمناسبة عيد ميلاد سيّدنا يسوع المسيح. هذه الدعوات العامّة تضمّنت عبارة إستفزّتني، كما أنّني على يقين أنّها استفزّت الكثيرين ممّن يجيدون اللغّة العربية ويفقهون بالقوانين والأصول والأعراف من أبناء الطائفة الأرمنيّة، وهم كثر. بعض القيّمين على الكنائس الأرمنيّة وجّهوا هذه الدعوات مرفقة بعبارة «يتشرّف مجلس الملّة…»، وهنا أساس المشكلة.
فمصطلح الملّة له جذوره في الحكم العثماني. إذ أوّل مَن طبّق نظام الملّة (The Millet System) كان السلطان محمّد الفاتح. نظام الملّة (الجمع: ملل) طُبّقَ على المجموعات الدينيّة غير المسلمة، وهو يشير إلى حكم من ينتمون إلى نفس الدين (الطائفة) عبر زعماء هذه الطوائف. وحيث أنّ الأرمن كانوا جزءًا لا يتجزّأ من سكّان السلطنة العثمانيّة، خضعوا لنظام الملّة. نظام «الملل» هو نظام يعكس بعض التمايز والمرونة في إدارة كلّ طائفة لشؤونها الداخليّة داخل السلطنة العثمانيّة، وقد أُرسيَ هذا النظام بعد المفاوضات المكثفة بين السلطان العثماني ورؤساء الطوائف الدينية للمجتمعات اليهودية واليونانية الأرثوذكسية والأرمنية والسريانيّة، من خلال السماح لهم ببعض الاستقلالية في الأمور الشخصية، مقابل ضمان بقائهم تحت سيطرة الدولة. إذاً، نظام الملّة كان آلية للسيطرة على المجتمعات الدينية غير المسلمة، وإرساء النظام في الإمبراطوريّة العثمانيّة لقاء بعض المرونة في الحكم الذاتي، بقضايا تتعلّق بالدين والأمور الكنسيّة، كالزواج والأحوال الشخصيّة والإرث والوصيّة، على سبيل التعداد لا الحصر.
أمّا اليوم، وبعدما تفكّكت سلطنة «الملل» منذ ما يزيد عن قرن من الزمن، ثمّة مَن يصرّ على العيش في أغلال الماضي، على الرغم من زوالها إلى غير رجعة. هي أغلال نفسيّة أكثر منها ماديّة أو واقعيّة، ربّما نتيجة الصدمة (Trauma) التي عاشها الأرمن في ظلّ السلطنة العثمانيّة وما تعرّضوا فيها من إبادة جماعيّة.
إذا ما اعتمدنا المنهج القياسي العلمي، مسألة «الملّة» عند الأرمن تشبه مسألة «الزنجي (the “N” word)» عند الأميركيّين من أصل ٍ إفريقي مع فارق وحيد وشاسع بين الاثنين. فالأرمن هم مَن يطلقون كلمة «ملّة» على أنفسهم، في حين أنّ الأميركيّين من أصل إفريقي لا يقبلون أي إشارة لكلمة «زنجي» لا منهم ولا من أيّ فرد ينتمي لجماعات إتنيّة أو عرقيّة أخرى. أكثر من ذلك، مَن يطلق على الأميركيّين من أصل إفريقي هذه التسمية يتعرّض للمساءلة والتوبيخ والعزل الاجتماعي، لأنّها مسألة باتت غير مقبولة إجتماعيّاً في الولايات المتحدة الأميركيّة، ناهيك عن العواقب القانونية والسياسيّة والإجتماعيّة الأخرى. إذاً، المفارقة هنا، أنّه في حين لا تقبل فئة من الشعب في دولة ديموقراطيّة إطلاق لقب ما عليهم من قِبل الغير، نجد أنّه في دولة أخرى شبه ديموقراطيّة ثمّة فئة من الشعب تعرّف عن نفسها بعبارة ولقب ليس من المفروض أن تطلقها على نفسها ولا على أي فئة أخرى أن تطلقها عليها. وهنا يكمن بيت القصيد! إن كان الأرمن أو البعض منهم يعرّفون عن أنفسهم جماعيّاً بـ»ملّة» فهذه مصيبة، لما لهذه العبارة من آثار وتبعات سلبيّة تعود لعصور ولّت بلا رجعة. لكن يبدو، من حيث الشكل على الأقل، أنّ البعض ما زال متمسّكاً بأن يكون ذليلاً خاضعاً خانعاً ذمّيّاً على الرغم من إنعتاقه بالجسد لا بالفكر من هذه الأوصاف والحالات التي فُرضت عليه أيّام السلطان العثماني.
في وقت بدأ العالم يدرك حقيقة ما جرى في العام 1915 من إبادة جماعيّة عثمانيّة بحقّ الأرمن، وفي الوقت الذي بدأت هذه القضيّة تتلقّى تفاعلًا غير مسبوق في المحافل الدوليّة، بالرغم من الضغط الهائل الذي يمارسه أحفاد مرتكبي هذه الإبادة لطمس الحقيقة، تأتي خطوة ناقصة على شكل تبنّي عبارة «ملّة» للتعريف الجماعي عن الأرمن من الأرمن أنفسهم، لتنسف هذه الجهود في إبراز حقيقة الإبادة الجماعيّة، ولتعيد مسألة الحقّ والحقيقة والمحاسبة والعدالة إلى نقطة الصفر.
أتوجّه بكلامي للقيّمين على أمور هذه الطائفة في لبنان، ليصوّبوا الأمور ويضعوا القطار على السّكة الصحيحة. فلا نحن أهل «ذمّة» ولا نحن «ملّة». نحن مواطنون لبنانيّون نخضع للقوانين اللبنانيّة وللعادات والتقاليد المحليّة، دون أن ننسى أو نتغاضى عن عاداتنا وتقاليدنا الأرمنيّة، و«الملّة» ليست منها لأنّها صنيعة العثماني. علينا أن نتحرّر بالفكر بموازاة تحرّرنا بالجسد من نير الحكم العثماني. لذلك أتمنّى الإستعاضة بعبارة «مجلس الرعيّة» عن «مجلس الملّة»، لأنّها الترجمة الأقرب إلى واقع الحال باللغة العربية، والتي تتماشى مع التسمية المعتمدة لدى الطوائف المسيحيّة اللبنانية الأخرى.
عليكم المبادرة فوراً لاتخاذ هذه الخطوة التقدّميّة التي تعكس التحرّر من قيود الماضي التي فرضها العثماني علينا، لأنّه وكما ورد في الآية الكريمة (الرعد: 11): «لا يغيـّر الله ما بقـوم حتى يغيـّروا ما بأنفسـهم». بادروا بالتغيير.
بقلم: د. إسحاق أندكيان،
نقلا عن: صحيفة الجمهورية اللبنانية.