في أواسط الستينات من القرن الماضي كانت هناك صداقة تجمعني مع الأستاذ فخر الدين الصاحب وهو محامي لامع كان والدي يعتمد عليه في النواحي القانونية وإبرام العقود والترافع أمام المحاكم وفي الشاردة والواردة، وكنت أنا في المرحلة الابتدائية وكان هو محام قدير، وكان والدي يصحبني إلى مكتبه الكائن في المرجة بناية النفوس، تلك البناية التي تطل على ساحة المرجة والتي كان فيها مكتب المحامي الشهيد شفيق بك المؤيد العظم، الذي اعدم في السادس من أيار مع قافلة الأحرار على يد الجبان جمال باشا السفاح الذي اقتحم مكتب شفيق بك وراقب عملية تنفيذ الإعدام كمتخفٍ جبان من خلف زجاج الشرفة.
كنت أجلس في المكتب وأسمع الجدال المحتد دوماً ما بين والدي والأستاذ فخر الدين الصاحب وأصاب بالملل فينتبه الأستاذ فخر الدين للأمر ويفتح صندوقه الحديدي الكبير ويعطيني ظرف جمع فيه الطوابع المستعملة مع المستلزمات فأنشغل عن الجدل وعن المحامي وضيفه.
هواية جمع الطوابع هي الهواية التي كانت تجمعني بالأستاذ فخر الدين الصاحب على الرغم من العقود الأربعة التي تفرقنا فكنت في العاشرة وهو في الخمسين.
كان هناك إناء زجاجي يتم فيه نقع الطوابع فتتحرر عن الظرف فيتم التقاطها بملقط خشبي وتوضع على إسفنجة خاصة ثم ترفع وتوضع على صفحة ورق لا يلتصق بها شيء، ثم تغطى بقماشة خاصة ويتم وضعها على وسادة من الكتان الصلب ويمرر فوقها أداة تشبه المكواة الكهربائية وهي مخصصة للطوابع، فتجف الطوابع ويتم تحريرها وصفّها في الألبومات، وكانت تأخذ هذه العملية وقتاً طويلاً، أما نصيبي من العملية فهو على الغالب كل الطوابع المحلية وكنت أقبل فرحاً بأيّ شيء وصارت لي ألبومات خاصة وفيها طوابع نادرة.
انتهى الاجتماع ولم أنته فطلب الأستاذ فخر الدين الصاحب مني أن آخذ الطوابع معي إلى البيت لمتابعة المهمة ففرحت بذلك وشكرته، خاصة وانه عندي نسخة مشابهة للمستلزمات.
في نهاية الاجتماع تم الاتفاق على موعد للسفر إلى اللاذقية لتخليص مواد أولية وحديد ومستلزمات تخصّ معمل والدي من المرفأ ولم يكن لسوريا وقتذاك إلاَّ مرفأ واحد أما مرفأ طرطوس فلم يكن معروفاً بعد، على أن يكون السفر بسيارة والدي وفي يوم الجمعة ويتم الوصول في المساء للإنطلاق إلى المرفأ صباح اليوم التالي وهو السبت، وطلبت من والدي أن يصحبني معه والتمست من الأستاذ فخر الدين أن يتدخل لصالحي ففعل وانطلقنا.
كانت سيارة والدي بويك 1955 اشتراها في العام الذي ولدت فيه 4/11/1955 وكانت كحلية اللون وجميلة وقوية للغاية ورائحة مقاعدها الجلدية، بعد أن تدخلها الشمس تدعوا إلى النوم فجلست في المقعد الخلفي واستسلمت للنوم، واستيقظت في اللاذقية، وعلى البور رأيت السفن وأضوائها تلمع على سطح الماء وكان المنظر بديعاً ولكن الرطوبة عالية والحرارة أيضاً مع احتباس الهواء.
وضعنا أغراضنا في الفندق وقصدنا مطعم قريب صاحبه أرمني وكان كبيراً في السن وتربطه بوالدي صداقة قديمة، وجلسنا على طاولة صغيرة، وكانت الخيارات محدودة وهي في مجملها اللحومات المشوية المعروفة، وكانت بيني وبين اللحومات عداوة فلقد رفضت تناول الطعام فاقترح صديق والدي صندويش قال أنه يحوي شيء خاص لا علاقة له باللحم وهو مفاجأة، فقلت له: موافق على أي شيء عدا اللحم، وانهمك الرجل في إعداد الصندويشة وكان يضع فيها شيء يخرجه من إناء يتصاعد منه البخار… سألني هل تعرف الأرمنية … أجبت نعم، فسألني عن إسمي فقلت له: اسمي آرا، قال كنيتك قلت: سوفاليان، قال لي: ما اسم مدرستك قلت آليشان، قال لي : لماذا لا تحب اللحمة، قلت: هكذا، قال طيب ولكن لماذا؟ قلت له: لا أعرف، قال : لماذا لا تعرف ؟ قلت له :لا أحبها وكفى… عليك أن تكتفي بهذه الإجابة فحسب.
نظر الرجل إلى والدي وقال له بالأرمنية ابن أبيه… ابن أبيه، وضحك الرجل وابتسم أبي وضحك الأستاذ فخر الدين الصاحب مع أنه لا يعرف حرف أرمني واحد!
وصدرت عن صاحب المطعم صيحة استنكار خفيفة… وقال: اللعنة وضعت الشطة الحارة في الصندويشة عن طريق الخطأ، فأجابه أبي: تدبرّ صندويشة جديدة، فنهضت عن الطاولة وقلت للرجل بل اعطني الصندويشة فأنا أحب الشطة، فأجابني: نعم كل الأرمن يحبون الشطة الحارة، وأكلت وطلبت كأس من الماء ثم إبريق من الماء في جوار الكأس وكانت دموعي تنحدر لتسقط على الصندويشة وفي كأس الماء، قال لي والدي توقف وخذ واحدة جديدة فقلت له: لا أبداً … أريد هذه بالتحديد… وانتهت الصاندويشة وهي نار على نار على شرار والبخار يتصاعد منها فطلبت غيرها ووقفت على يد الرجل لأتأكد أنه لم ينس إضافة الشطة الحارة في نهاية الصندويشة الثانية، وكان والدي يدفع الحساب، فاقتربت من الرجل وقلت له: ماذا وضعت في الصندويشة؟ فسألني: هل أحببتها، قلت نعم كثيراً، قال لي: كانت تحوي رقائق لحم الحجل، قلت لأبي هل لحم الحجل لحم، قال لي: نعم ولكن لحم طيور وليس لحم خروف، فنظرت إلى الرجل معاتباً وقلت له: لقد أطعمتني اللحم إذاً فقال: نعم لقد أطعمتك اللحم فنحن الأرمن لا يوجد عندنا أن نحب هذا الطعام ونكره ذاك … كل الطعام نعمة من عند الله.
بعد أربع واربعون سنة بالتقريب أي منذ يومين اثنين، اتصلت والدة زوجتي وقالت: سأحضر لأطبخ لك أكلة طلبتها مني منذ سنين طويلة ولم أطبخها لك، قلت لها: هل أحضرت الباذنجان المحفور معك، قالت: نعم، واللحمة الكباب المفرومة ناعم ناعم ناعم مثل كريم النيفيا قالت:نعم … لقد اتفقت مع زوجتك التي حضّرت لي كل المستلزمات من بندورة وبرغل ورب البندورة ودبس الحد والشطة الحارة والليمون ودبس الرمان والسماق والبصل ولكن هناك نقص فإن اللحمة برير بمعنى لا تحوي دهنة بالمطلق ! قلت لها: حسناً فعلتي… قالت: ولكن ستكون ناشفة … قلت لها أضيفي قليلاً من الزيت النباتي وتدبري الأمر… قالت وهل كانوا في أرمينيا المحتلة يضيفون للدولما زيت لوسيور… قلت لا… ولا حتى زيت أونا… كانت الدولما تسبح تحت سطح من الدهنة الذائبة ولكن أجسامهم كانت فولاذية، بعكس أجسامنا البلاستيكية، قالت لي: من سيفتح لي الباب الحديد وأنت في الجبصين، قلت: آني أو كارني فهما في المنزل… السبت عطلة والأحد عطلة والأثنين أيضاً، فقالت: والأثنين؟… قلت: نعم لأن هناك ثلاثة مناسبات تقع يوم الاثنين 8 آذار 2009 على ذمة الروزنامة الأول هو عيد المولد النبوي الشريف والثاني هو عيد الثورة والثالث هو ذكرى استقلال سوريا وهذا لا علاقة له بعيد الجلاء.
وأثناء تحضير الطعام طلبت آني من جدتها لأمها وهي أرمنية ومن صاصون ومن آل تيغليريان واسمها روزي أن تطبخ لها طعام آخر غير الباذنجان المحشي بالبرغل واللحمة والشطة الحارة، أما كارني الصغيرة فطلبت شيء ثالث، وكانت المائدة تذخر بثلاثة أنواع من الأطعمة لأن جدتهم لا ترفض لهم طلب… مهما كان، وهي مهادنة ومسالمة ورقيقة إلى أبعد الحدود بعكس جدتهم الثانية أم آرا التي وعدتهم بالحضور من كندا في نهاية شهر آذار الحالي… وقد بدأوا بضرب ا لأخماس بالأسداس منذ الآن مع العلم بأن جدتهم لأبيهم تنزل في بيتها وتأتي ضيفة لا أكثر ولكنهم لا يملكون أن يكونوا أمامها إلاَّ على شاكلة الساعات السويسرية.
وجاءت الجدة في مرحلة إعداد الدولما وفي يدها صحن صغير فيه ملعقة كبيرة من الشطة الحارة وقالت لي: هل هذه الكمية تكفي فقلت لها: لطالما أن الجميع لا يريد مشاركتي في هذه الوليمة التي انتظرتها اثنا عشر سنة ميلادية، وأنتي أولهم فارجوا مضاعفة الشطة الحارة ليتحول الأمر إلى نار وشرار… قالت: أنا لا أستطيع مشاركتك الوليمة لأن معدتي تؤلمني بدون برغل ومرقة بندورة و شطة فكيف مع البرغل ومرقة البندورة و الشطة.
وجاءت أم البنات من عملها الذي لا يتضمن عطل ولا أعياد ولا أي إجازة حتى ولو كانت مرضية، لأن المرض ممنوع والعتب مرفوع … وجلست معنا لتناول طعام العشاء… عفواً الغداء المتأخر… فاستبعدت النار والشرار مباشرة من أمامها وبحثت عن شيء آخر… ولم يبق في الميدان غير حديدان.
ووضعت باذنجانة في الصحن وفوقها المرقة الحمراء المتضمنة النار والشرار وزيت المازولا بدلاً من الدهنة السائحة… وبدأت بالتطييب للجدة الساحرة روزي (حماتي) وطعامها الرائع…وقلت لها: كل مطابخ اسطمبول وأنقرة وبعدهم مطابخ البوسفور ومرمرة تحلم بإعداد طبق دولما يصل إلى ربع ربع ربع الطيابة والطعمة الشهية التي اتحفتينا بها اليوم يا روزي… يحاولون ويحاولون ويذهب جهدهم بلا فائدة، لو أن مهند ذاق صحن مما أعدت يداكي لترك تركيا و نور والبيتزا والهامبرغر والسوفلاكي… وجلس حداكي!
أما ابنتي الصغيرة آني التي طاب لها التطييب فطلبت صحن نظيف ووضعت فيه باذنجانة صغيرة فقلت لها: انتبهي يا حبيبتي بالنسبة للنار والشرار… فلم تهتم للأمر وطار ما في الصحن الأول بسرعة تشبه سرعة البرق فوق بحيرة فان وأديرتها الأرمنية… وبعد قليل طلبت باذنجانة ثانية ونهضت لتتأكد من أن جدتها قد وضعت على الباذنجانة الثانية قليلا من الشرار والنار، بعد أن حاولت الجدة عدم تنفيذ هذا الطلب.
ونظرت بدوري إلى عينيها الدامعتين بسبب الشطة الحارة أو بسبب مصطلح النار والشرار، فتذكرت ما حدث لي في اللاذقية عندما كنت في عمرها بل وفي عمر أصغر من عمرها…لقد كانت تتصرف كنسخة طبق الأصل عن والدها… أما عيناها الدامعتين فلقد أكدتا لي أن هناك عوامل تنتقل بالوراثة وتصحبها صفات مأخوذة من الوالدين تكاد تكون أقوى من كل قوانين الوراثة، قوانين الدولما والشطة الحارة ومحبة الأرمن للإثنين رغم النار والشرار.
بقلم: آرا سوفاليان
[email protected]