هم بلا مبالغة جزء من تجربة النهضة في مصر الحديثة التي انتهجها، الوالى الطموح محمد علي، الذي تعلم فك الخط في سن الأربعين لكنه كان يمتلك وهجا فكريا وعبقرية، جعلته ينهض بمصر وينقلها من العصور الوسطى إلى براح الحداثة التي لم تعرفها إلا صدفة ومن خلال صدمة عنيفة ألمت بها حين جاءتها الحملة الفرنسية، فكان صدام المدفع والنبوت.. عرف محمد على أنه يحتاج في مشروعه هذا أهل الخبرة لا أهل الثقة، فكان الأرمن أهل الرأى والمشورة في بلاط الباشا.
وفى ظل تجربة محمد على بناء مصر الحديثة أدخلوا زراعة القطن طويل التيلة وأشجار الماندارين التي مازالت تعرف باسم من استجلبها يوسف أفندى الأرمنى” اليوسفى “، منهم جاء نوبار باشا أول رئيس وزراء لمصر.. ومنهم نظريت كالوسديان مترجم زكريا محى الدين والذي ساند الفدائيين في منطقة القناة، ومنهم صاروخان صاروخ السخرية اللاذعة ومبدع الكاريكاتير السياسي، ومنهم كابورك يعقوبيان أخطر جاسوس لدى مصر قبل 1967.
الأرمن تمصروا بقدر وجودهم التاريخى في مصر واندمجوا في الحياة السياسية فكانوا أول من أيد حركة يوليو وقام مطرانهم بجمع التبرعات من الأرمن لمساندة أهلي بورسعيد أعقاب العدوان الثلاثى.
أعدادهم الآن نحو سبعة آلاف نسمة موزعين على القاهرة والإسكندرية، وينبغى الإشارة إلى أن العدد في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين كان نحو 40 ألف نسمة ولأسباب اقتصادية واجتماعية هاجر كثير منهم إلى أوربا وكندا وأرمينية وأستراليا.
الأرمن هم أقدم جالية أجنبية وطئت أرض مصر مع الفاطميين الذين شهد عصرهم وزراء الأرمن العظام بدءا من بدر الدين الجمالى، وقد ظلوا من أكبر الجاليات الأجنبية في مصر لا ينافسهم في ذلك سوى اليونانيين حتى قال اللورد كرومى “كلما رفعت حجرا في مصر وجدت أسفله يونانيا “، وربما يرجع توافد الأرمن بكثرة إلى مصر لأسباب متباينة لكن أبرزها أن مصر وأرمينية وقعتا في معظم فترات التاريخ تحت حكم دولة واحدة كبرى مثل فارس والدولة العثمانية مما سهل حركة الانتقال بين البلدين وظهور الأرمن بشكل ملحوظ بدأ مع الفتح الإسلامى حيث اشترك بعضهم ممن أسلموا في الفتح العربي لمصر مثل القائد فارتان “وردان” الذي شيد سوقا في الفسطاط عرف بسوق فارتان، وقد ولاه الخليفة عثمان بن عفان خراج مصر واستشهد عام 673 ه أثناء غزو البيزنطيين البرلس بساحل مصر الشمالى، كما تولى بعض الأرمن إمارة مصر إبان الحكم العباسي وعاشوا أزهى عصورهم خلال الحكم الفاطمى، وعندما تولى بدر الدين الجمالى الأرمنى شئون البلاد، بدأ عصر الوزراء العظام وكان أغلبهم من الأرمن حتى سمى النصف الثانى من القرن الحادى عشر الميلادى ” العهد الأرمنى ” ولهذا السبب اضطهد صلاح الدين الكثير من الأرمن نظرا لإخلاصهم للفاطميين وسرح جندهم الذين كانوا يمثلون جناحا في الجيش الفاطمى.واستفاد الأرمن من تسامح سلاطين المماليك وتزايدت أعدادهم في مصر لكن عصرهم الذهبى الحقيقى كان في عهد محمد على الذي استعان بهم في بناء دولته وبلغت ثقته فيهم أن استعان بهم في الحرملك.
وازداد تدفق الأرمن إلى مصر وغيرها من الدول العربية في بداية القرن العشرين بعد المذابح الكبرى التي ارتكبها ضدهم الأتراك 1915، وبدأ بعدها الأرمن في تجميع الأيتام وساعدهم في ذلك ملك الحجاز الشريف حسين بن على وابنه الأمير فيصل ورغم أن العرب مسلمون مثل الأتراك فقد انحازوا إلى الأرمن المسيحيين من منطلق أن الإسلام لا يحض على العدوان ولا يحض على قتل النفوس البريئة.
وأصدر الأزهر الشريف فتوى للشيخ سليم البشرى تنكر ذبح البرياء باسم الدين وبهذا تحدت مشيخة الأزهر الشريف دار الإسلام العثمانية.
ليس ثمة حدود ثابتة لأرمينيا عبر تاريخها لأن حدودها دائمة المد والجذر تبعا لوضعيتها السياسية والعسكرية وأرمينية، والثابت تاريخيا أن أرمينية قد وقعت أغلب الفترات تحت سيطرة القوى الكبرى المهيمنة على المنطقة مما ألزم الأرمن أن يصارعوا باستمرار للحفاظ على لغتهم ودينهم وتقاليدهم ولم تمنحهم الصراعات الفرصة لإقامة دولة مستقلة بهم فاضطروا إلى الهجرة من آن إلى آخر وشكلوا مجتمعات متناثرة عبر أنحاء العالم ولذا أطلق عليهم ” أمة في المنفى “. وبعد كفاح مرير تأسست أول جمهورية لأرمينيا في العصر الحديث في مايو 1918 إلا أنها اضطرت عام 1920 إلى التحول إلى جمهورية شيوعية في إطار النظام السوفيتى حتى أعلنت استقلالها في سبتمير 1996.
والأرمن رغم هويتهم الخاصة تكيفوا مع المنظومة المصرية. فقد شاركت النخبة الأرمينية الإدارية خلال القرن التاسع عشر في إدارة العلاقات الخارجية المصرية ومنهم: بوغوص بك يوسفيان، ارتين بك تشراكيان، إسطفان بك دميرجيان ونوبار باشا وديكران باشا. وبغض النظر عن أن أول وزير لخارجية مصر هو بوغوص بك ” 1826 – 1844 ” ونوبار باشا أول رئيس لوزراء مصر ” 1878 – 1879 ” ومن الدلائل الرائعة على صورة نوبار باشا في الوجدان المصرى أن الشعب المصري منحه لقب ” أبو الفلاح ” علاوة على وجود شارع كبير باسمه في وسط القاهرة ونوع من القطن ” القطن النوبارى ” ومنطقة كبيرة تسمى النوبارية. وهناك يعقوب آرتين الذي لقب بالأستاذ الكبير نظرا لدوره في إرساء قواعد وزارة التربية والتعليم وهناك شارع في مصر الجديدة يحمل اسمه. وبوغوص ابن نوبار باشا ساعد البارون إمبان في بناء حى مصر الجديدة.
إضافة إلى هذا شارك الأرمن كحرفيون ومهنيون وتجار في الحياة المصرية. ومعظم الأرمن خصوصا الذين ولدوا في مصر يعرفون اللغة العربية جيدا. ولا يوجد حى خاص للأرمن فهم يعيشون جنبا إلى جنب مع المصريين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين ودائما تفاعل الأرمن بحرارة شديدة مع طموحات وآمال القاعدة العريضة من الشعب المصري على نحو ما فعلوا إبان ثورتى 25 يناير و30 يونيو.
للأرمن الأرثوذكس كنيستان إحداهما في القاهرة وهى الكائنة في شارع رمسيس والأخرى في الإسكندرية. وكانت هناك كنيسة ثالثة في منطقة الزيتون وقد تم إهداؤها للإخوة الأقباط مثل كنيسة البروتسانت حيث لا يتبع هذه الكنيسة من الأرمن في مصر حاليا سوى عائلة واحدة. أما الأرمن الكاثوليك فلهم كنيسة في منطقة وسط البلد وأخرى في مصر الجديدة.
تتمركز عائلات الأرمن حاليا في القاهرة والإسكندرية بالقرب من أعمال الاقتصاد والتجارة والإسكندرية ميناء مهم ومعظم اللاجئين الأرمن نزلوا بورسعيد ثم اتجهوا إلى الإسكندرية. ومازالت في بورسعيد حتى الآن مقابر اللاجئين الأرمن.
نقلا عن: البوابة نيوز
تحقيق: سهير عبد الحميد