لم يكن إختيارى لكتاب « تركيا وشبح الأرمن»، لأسباب سياسية أو للسير فى ركب طابور الهجوم على تركيا، التى لايجب أن نختصر علاقتنا بها فى رئيسها رجب طيب أردوغان، الذى يبدو أن جنون العظمة والتشبث بالسلطة وحلم الامبراطورية وفشل طموحاته وتحالفه غير المقدس مع تنظيم الإخوان قد أفقده صوابه ، فارتكب حماقات كثيرة فى حق مصر، أساء بها إلى نفسه وتاريخه السياسى قبل أن يسيئ إلينا. لكن أردوغان سوف ينتهى حكمه إن لم يكن اليوم فغدا بينما تركيا باقية . علاقتنا بتركيا سياسيا وإقتصاديا وثقافيا كانت دائما طيبة وممتدة الى مئات السنين قبل أن يولد أردوغان ، ويجب أن تستمر هذه العلاقات التى ربطت الشعبين المصرى والتركى .
«تركيا وشبح الأرمن» هوالكتاب الأحدث بين الكتب التى نشرت حول «الابادة الجماعية للأرمن» ورغم أننى كنت أتحفظ على وصف الاعتداءات المتواصلة على الأرمن بأنها «إبادة جماعية» الا أن أى محلل للأحداث التى جرت للأرمن فى عام 1915 خلال حكم السلطان عبدالحميد الثانى ووزير داخليته طلعت باشا لايجد وصفا أدق منه لهذه الجرائم.
كتاب “تركيا وشبح الأرمن … الطريق الى الابادة الجماعية»، من الكتب النادرة التى تنقل القارئ الى موقع جريمة الابادة الجماعية للأرمن .المؤلفان هما : الصحفيان الفرنسيان لور مارشان مراسلة الفيجارو ونوفيل أوبزيرفاتور فى اسطنبول ، وجيوم بيرييه مراسل صحيفة الموند ومجلة لوبوان وهما يقيمان بصفة دائمة فى اسطنبول . الكتاب صدر باللغة الفرنسية عام 2013 وصدرت ترجمته الانجليزية فى منتصف أبريل من هذا العام فى ذكرى مرور مائة عام على المذابح الجماعية ضد الأرمن يوم 24 أبريل 2015 .
لايعتمد هذا الكتاب على الوثائق والكتب والأبحاث العلمية والتاريخية فقط ، ولكن المؤلفين بذلا جهدا مضنيا طوال سبع سنوات فى التنقل بين المدن والقرى التركية التى كانت يقيم بها جالية كبيرة من الأرمن بهدف لقاء بقايا الناجين من مذابح 1915 ومابعدها ، والتعرف على أبناء الضحايا وأحفادهم بعد أن حطم الآباء حاجز الصمت والخوف ونقلوا للأبناء وقائع القهر والقتل وانتهاك الحرمات ، وفتحواالخزائن السرية التى تمتلئ بوثائق ملكية البيوت والأراضى والمصانع التى استولى عليها شباب «الاتحاد والترقى» التى قامت على أكتافهم جمهورية أتاتورك.
الكتاب يعرض مرآة تعكس بوضوح الوجه الآخر للأتراك الملطخ بدم الأبرياء وتقدم صورة طبق الأصل وبلا رتوش لما ارتكبه جنود الامبراطورية العثمانية من مذابح جماعية ضد الأرمن لعل ضمائرأحفاد القتلة تستيقظ ويعترفون الآن بالذنب ، فشهادات أبناء الضحايا والأحفاد الموثقة تصرخ بالألم من الظلم الفادح الذى وقع على أجدادهم وآبائهم : فلماذا ترفض تركيا بعد مرور مائة عام على عمليات الابادة الجماعية ضد الأرمن الاعتراف بالجريمة ؟
ولماذا إعترفت المنظمات الدولية بمذابح القرن العشرين التى ارتكبها النازيون فى الحرب العالمية الثانية وإرهاب بول بوت فى كمبوديا وتدمير حياة الأكراد بواسطة الغازات السامة شمال العراق وعمليات الابادة الجماعية التى قام بها الهوتو ضد قبائل التوتسى فى رواندا ، والمذابح التى ارتكبت ضد المسلمين فى البوسنة وحوكم قادة هذه المذابح ومن ساعدهم فيها ؟ ولكن أول عمليات الابادة الجماعية فى القرن العشرين التى ارتكبتها الدولة العثمانية فى عام 1915 ضد الأرمن يفرض عليها ومع سبق الاصرار ستارا أسود من الصمت والسرية حتى لاتعترف الحكومة التركية بارتكابها وبتواطؤ مشين من المجتمع الدولى ؟. جميع المذابح التى إرتكبت ضدالأبرياء فى هذه الدول إنطبق عليها مصطلح «الابادة الجماعية» الذى جاء فى اتفاقية عام 1948 التى وقعها أعضاء الأمم المتحدة ، فلماذا لاتوصف المذابح التى وقعت للأرمن فى عام 1915 بـ «المذابح الجماعية» ؟.
الإحصائية التالية حول عدد السكان الأرمن وكنائسهم ومدارسهم فى تركيا فى عام 1914 قبل عام من جريمة إبادتهم وأعدادهم الآن ، تكشف حجم الكارثة التى وقعت لهم :
الكتاب رحلة ثقافية – وليست سياحية بالطبع – وتحقيق سياسى وقانونى عن أول مذبحة جماعية وقعت لشعب فى القرن العشرين ، فالمؤلفان يصطحبان القارئ الى جميع الأقاليم والمدن والقرى التركية التى كانت تقيم بها تجمعات الأرمن فى السنوات الأولى من القرن العشرين . بل تنقلنا صفحات الكتاب الى خارج تركيا إلى فرنسا حيث لجأت الأفواج الأولى من الناجين من الأرمن الى مرسيليا . ويتحرى المؤلفان بدأب على من بقى على قيد الحياه من الأجداد والأبناء والأحفاد الذين تحدوا القهر والبطش وأصروا على البقاء فى وطنهم ولم يغادروه ، فتتعرف ليس فقط على الضحايا وورثتهم ، بل أيضا على المؤسسات والحرف والأطعمة التى إشتهر بها الأرمن ، وعلى الكنائس والمطاعم والمعابد التاريخية والآثار التى تعود الى مئات السنين والتى دمرت معظمها قوى الشر والجهل . وتتعذب مع الضحايا من الرجال والنساء والأطفال والرضع الذين كان الجنود الأتراك يلقون بهم فى الأنهار بعد أن يختطفوهم من أحضان أمهاتهم بعد إغتصاب الأمهات . لكن وسط هذه البيئة المثيرة للخوف والدمار .
سؤال يبحث عن جواب !
المقدمة كتبها المؤرخ الأرمنى «تانر أكشام «يقول فيها إن المؤلفين يدفعان القارئ ليسأل : «لماذا نحن الأتراك نواصل إنكارنا للابادة الجماعية ؟ ويرد بأنه يبحث منذ عام 1990 أى منذ خمسة وعشرين عاما للإحابة على السؤال . وطوال هذه السنوات ظل هذا السؤال يطارده ويفرض نفسه على حياته . ورغم أنه سؤال يبدو بسيطا الا أن الاجابة تغيرت أكثر من مرة مع مرور الوقت . فى البداية حاول الباحث أن يشرح إنكار تركيا من خلال مفهوم «الاستمرارية» . لقد قامت الجمهورية التركية بواسطة «حزب الاتحاد والترقى» المخطط الرئيسى لمذابح الأرمن عام 1915 . كان طلعت باشا وزير داخلية السلطان عبدالحميد هو قائد عمليات الابادة وبتواطؤ مفضوح مع كوادر حزب الاتحاد والترقى الذى شكل أعضاؤه أول حكومة لجمهورية تركيا . وقد تبين أن العشرات من قادة الحزب وشبابه قد تحولوا بين يوم وآخر من معدمين إلى أثرياء بعد أن سرقوا ممتلكات وأموال الضحايا الأرمن .
يؤكد هذا التواطؤ من جانب الاتحاد والترقى قيام مصطفى كمال أتاتورك أول رئيس جمهورية فى تركيا بنقل رفات طلعت باشا فى عام 1938 إلى اسطنبول ، وقد أقام تمثالا له فى واحد من الميادين الكبرى بالمدينة تكريما له . وكان طلعت باشا الذى وعد السلطان عبدالحميد بأنه سوف ينهى مشكلة الأرمن الى الأبد ، قد إغتيل بواسطة شاب أرمنى اسمه سجومون تهلديان فى ألمانيا بعد أن شهد مقتل جميع أفراد أسرته بواسطة الجنود الأتراك .
المؤلفان يقولان فى المقدمة « لم نقم بزيارة القرى والمدن التركية التى كان يوجد بها الأرمن قبل وأثناء عمليات قتلهم ، كمهندسين معماريين نحفر فى الأرض وفى المقابر الجماعية التى إمتلأت بأكوام عظامهم ، ولكن لنتعلم أكثر عما تركه الأجداد من تراث ثقافى وفنى ودينى « . تحدث المؤلفان مع قلة من الناجين من المذابح ومع ورثتهم الذين إختاروا البقاء فى أرض آبائهم وأجدادهم . وأفشوا بمعلومات وأسرار تحاول حكومات أنقرة طوال القرن الماضى بكل دأب أن تحجبها عن الأتراك وعن الرأى العام العالمى وتفرض عليها سياجا كثيفا من السرية . ربط المؤلفان الماضى «المنسى» أو «الغائب» بالحاضر الذى يريد أن يفرض وجوده ويصرخ بأعلى صوته ، والذى قدر له أن يعيش حاملا ميراثا من المعلومات التى توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد و رسالة تنطلق من مقابر القتلى تطالبهم بأن يناضلوا لايقاظ الضمائر الى نامت أو ماتت فى تركيا طوال هذه السنوات .
الصفحة الأولى من الكتاب تعرض خريطة للامبراطورية العثمانية فى عام 1915 توضح الطرق الرئيسية التى استخدمت فى ترحيل الأرمن فى قوافل وطوابير داخل البلاد ، وتبين المسافات الشاسعة التى قطعها الضحايا سيرا على الأقدام بدون طعام أو شراب ، كما تكشف الخريطة عن بعض المواقع التى إرتكبت فيها الابادة الجماعية للأرمن ، أما الصفحة التالية فعبارة عن خريطة حديثة لتركيا اليوم تعرض أهم المدن والقرى التى زارها المؤلفان والتى نشهد بعضها فى المسلسلات التركية التى تستعرض جمال مدنهم وبيوتهم والطبيعة الخلابة التى تجذب السائحين . والصفحات الستة التالية تعرض صورالآثار وبقايا البيوت والكنائس والمعابد الأرمنية ، ثم مظاهرة فى ميدان تقسيم يوم 24 أبريل 2012 ليس فقط لتكريم ضحايا المذبحة بمناسبة ذكراهم السنوية بل أيضا لتكريم الجندى التركى الأرمنى «سيفاج شاهين باليكشى» الذى قتله الارهاب التركى قبل عام ، وأيضا وكالعادة لم يعثر على القاتل .
مرسيليا : أرمينيا الصغيرة
الكتاب يبدأ من مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا المطلة على البحر المتوسط والتى لجأ اليها آلاف الأرمن الهاربين من الموت والعذاب ، وليس من اسطنبول أو أنتوليا بتركيا – حيث كان يوجد أكبر تجمع للأرمن – الفصل الأول بعنوان : «مرسيليا : أرمينيا الصغيرة « والتى تبعد عن موطنهم الأصلى 2600 ميلا وتحولت فى أقل من خمس سنوات الى مستعمرة أرمنية … فلماذا كانت مرسيليا مقصدا لآلاف اللاجئين الأرمن الهاربين من الموت فى تركيا بعد مذابح 1915 ؟
هناك علاقات تاريخية منذ مئات السنين وقبل الابادة الجماعية للأرمن تربط تركيا بفرنسا ، وقد تحول الطريق البحرى التجارى الذى يربط بين ميناء اسطنبول وميناء مرسيليا منذ عام 1830 الى «طريق اللاجئين» بعد عام 1915 . وتحولت أيضا سفن نقل البضائع الى سفنا لشحن البشر ، واستمرت أفواج الأرمن تتدفق على مرسيليا طوال سنوات منذ عمليات إبادتهم ، وبينما أقامت السلطات المحلية الفرنسية فى المدينة الساحلية لهم مخيمات وملاجئ وقدمت اليهم الأطعمة بعد وصولهم نصف موتى أو بقايا أحياء ، الا أن هذا التكريم ومشاعر الود لم تستمر كثيرا . لقد خاف الفرنسيون والجماعات المهاجرة ممن سبقوا الأرمن على أرزاقهم وبدأو يشعرون بمنافسة الزوار الجدد . والواقع أن الأرمن عملوا كعادتهم بكد واجتهاد ، وأبرزوا مواهبهم والحرف التى يجيدونها ولاينافسهم فيها أحد ، وازدحمت قمة جبل فيردورون بالبيوت الصغيرة التى التصقت ببعضها تحت أشعة الشمس والتى تطل على الميناء المزدحم بالسفن القادمة من بنما وإيطاليا والجزائر .
لكن ضحايا مذابح 1915 لا يمثلون أول فوج من اللاجئين الأرمن لميناء مرسيليا الذى يزحم بالمهاجرين القادمين من عدة دول وينتمون لمختلف العرقيات . لقد سبق أن اتخذها عدد من التجار والناشرون الأرمن المعتمدون مقرا لهم . وأنشأ المهاجرون فى منتصف القرن التاسع عشر أول مركزا ثقافيا أرمنيا» . وفى عام 1896 قررت السلطات التركية ترحيل المتهمين باقتحام البنك العثمانى واتخاذ رهائن من العاملين الى مرسيليا والتى تعد أول عملية قامت بها « المنظمة الثورية الأرمنية» . وكان يتبع أية عملية اعتداء من جانب الجنود العثمانيون على الأرمن ترحيل الضحايا الى ميناء مرسيليا .
فرنسا واضطهاد الأرمن
والواقع أن فرنسا كانت من أوائل دول العالم التى أثارت قضية اضطهاد الأرمن فى تركيا على عدة مستويات ، ففى عام 1897 – قبل 18 عاما من عمليات الابادة الجماعية – قامت عاصفة من الاحتجاجات فى الجمعية الوطنية الفرنسية ، بعد أن حاول النائب الفرنسى الاشتراكى جان جوريه لفت أنظار زملائه الى المذابح التى ترتكب ضد الأرمن بقيادة السلطان عبدالحميد الثانى الملقب فى الغرب «السلطان الأحمر» لقسوته وتعطشه للدماء.
الكاتب الفرنسى البير لوندر فى كتابه «مرسيليا ، ميناء الجنوب» Marsceille, Port du Sud يصف المهاجرين بأنهم حطام انسانى حملتهم سفن البحر إلى ميناء مرسيليا وكان الجانب الأكبر من بين هذا الحطام آلاف من الأرمن .ويقدر الكاتب الفرنسى أن جيلين أو ثلاثة من هذا الحطام وصلوا إلى مرسيليا وقد تضاعف عدد الجالية مرتين وثلاثة خلال سنوات قليلة . ويبلغ عدد الأرمن فى مرسيليا الآن ثمانين ألف مواطن أرمنى يحملون الجنسية الفرنسية أو نحو 10% من جملة عدد سكان المدينة الساحلية .
موقف الأكراد من المذابح ضد الأرمن
الأكراد فى الدولة العثمانية ثم فى الجمهورية التركية هم أيضا أقلية غير مرحب بها فى تركيا ، وعمليات ضرب الأكراد وسجنهم وانتهاك حرماتهم مستمرة وحتى الآن ، لكن الحكومة فى أنقرة مهما بلغت قسوتها فى التعامل مع الأكراد الا أن هذه القسوة لا تقارن بالمذابح وعمليات الابادة الجماعية للأرمن . جميع الأقليات فى تركيا والتى من بينها الأكراد والأرمن والأشوريين والكلدانيين والزيدية يتعرضون بين حين وآخر للاضطهاد لكن ما يرتكب فى حقهم لايعد بكل المقاييس مذابح جماعية ، فالأرمن فقط هم الذين تعرضوا لويلات المذابح .
ولفهم العلاقة بين الأرمن والأقلية الكردية ، وموقف الأكراد مما جرى للأرمن فى عام 1915 ينتقل بنا المؤلفان الى مدينة ديار بكير التى كانت موطنا لأكبر جالية أرمنية فمذكرات طلعت باشا التى حصل عليها المؤرخ مورات برداكشى ونشرها فى كتاب تقول أن 56،166 أرمنى كانوا يقيمون بصفة دائمة فى دياربكير قبل عام 1915 وطبقا للأرشيف الخاص ببطريركية اسطمبول ، كان هناك 867 ،106 أرمن يقيمون فى قرى ومدن إقليم دياربكير ، وكان سوق دياربكير ينتعش بمحلات المجوهرات والأوانى والزخارف النحاسية الخاصة بالأرمن ، لكن هذا التواجد الواضح لهم إنتهى خاصة بعد المذبحة التى ارتكبتها الحكومة فى حقهم عام 1895 وقد تحول سوق المدينة الى رماد بعد أن احترق بالكامل ويطلق عليه الآن «السوق المحترق» .
عرض وتعليق: مصطفى سامي | نقلا عن الأهرام المصرية