8700.jpg

الشرق الأوسط الذي لم يكن.. بقلم: نيك دانفورث

في عام 1919م، أرسل الرئيسُ الأمريكي (وودرو ويلسون) كلًا من عالم اللاهوت (هنري كينج)، ورجل الأعمال (تشارلز كرين) لبحث كيف سيتم تقسيم الشرق الأوسط الجديد، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية على إثر الحرب العالمية الأولى. كان مستقبل الشرق الأوسط وقتها غير واضح على الإطلاق، وبدا أن الرجلين يمثلان التركيبة الممتازة لحلّ هذه المشكلة: حسّ رجل الأعمال المحنّك، وعلم الإنجيل المقدّس. تلخّصت مهمة الرجلين في معرفة الكيفية التي يرغب سكان الشرق الأوسط في أن تُدار سياسة دولهم بها، ومثّل هذا تحديًا كبيرًا لإيمان ويلسون بحق تقرير المصير؛ الفكرة التي تقول بأن كل شعب يجب أن يحظى بدولة مستقلّة واضحة الحدود.

أمضى الاثنان ثلاثة أسابيع في حوارات مع القيادات الدينية والمجتمعية بسوريا، لبنان، فلسطين وجنوب تركيا، وخلصا في النهاية إلى أن الإمبراطورية العثمانية يجب أن تقسّم بهذه الكيفية:

لا حاجة للقول أن هذه الخريطة لم يُعمل بها بالطبع. فطبقًا لاتفاقية سايكس بيكو التي مرّرتها بريطانيا وفرنسا سرًا عام 1916م، استحوذ البلدان على المنطقة تحت اسم الانتداب أو حق الوصاية، لتفرض فرنسا نفوذها على لبنان وسوريا، بينما تأخذ بريطانيا فلسطين والأردن والعراق.

يرى البعض أن كل هذا العنف والاضطراب الذي شهده الشرق الأوسط بالقرن الماضي، والذي بلغ ذروته هذه الأيام متمثلًا في الدولة الإسلامية ومحاولاتها الوحشية لإزالة حدود سايكس بيكو، كل هذا كان يمكن تفاديه إن كان الشرق الأوسط قد مُنِح استقلالًا حقيقيًا بعد الحرب العالمية الأولى. لكن على صعيد آخر، وكما كشفت لنا مهمة كينج وكرين، فإن الطوائف الدينية والعرقية لم تكن تتقبل فكرة تقسيمها إلى دويلات منفصلة. بل إن أعضاء الطائفة الواحدة لا يشتركون بالضرورة في رؤية واضحة لنظامهم السياسي الذي يريدونه.

مازال تقرير كينج وكرين محوريًا حتى يومنا هذا، لا لأنه يرينا كيف كان الشرق الأوسط ليكون لو تمت الموافقة على المقترح، ولكن لأنه يصوّر المعضلات الجذرية المتعلقة برسم – أو عدم رسم – حدود لدول الشرق الأوسط. وقد تضمّن التقرير إصرارًا على إجبار فئات معيّنة على التعايش المشترك عن طريق اتفاقيات قانونية معقّدة، أصبحت شكلًا أوليًا لمقترحات واتفاقيات جاءت فيما بعد.

كان من الاستنتاجات التي خرج بها التقرير، أن تقسيم العراق إلى دويلات عرقية هو مقترح من السخافة مجرّد مناقشته. يقول التقرير إن اليونانيين والأتراك يمكن وضعهم في بلد واحد لأن “العرقيْن يدعمان بعضهما البعض”. أما المسلمون والمسيحيون بسوريا فهم في حاجة إلى تعلّم “التعايش المشترك بشيء من الرقيّ”، لأن “الدرس الذي يعلمه لنا الوعي المجتمعيّ الحديث يشير إلى ضرورة تفهّم ‘النصف الآخر’، وهو شيء لا يمكن تحقيقه إلا بالتقارب والعلاقات الحياتية”.

لكن الرجليْن أدركا أيضًا أنه لا يمكن أن تحشر طوائف متناحرة – عرقية أو دينية – مع بعضها في بلد كبير، وأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى نتائج دموية. لذا فقد عملا على اقتراح شتى أفكار التقسيم، سواء بإنشاء مناطق نفوذ متداخلة، أو مقسّمة فيدراليًا، ليخرجا برؤية يمكن رؤيتها كتأخر عن مبدأ الوطنية والاستقلال، أو تجاوز له إلى آفاق أرحب. اقترح التقرير تحويل القسطنطينية (إسطنبول الحالية) إلى إقليم دولي تديره عصبة الأمم، حيث إنه “لا يوجد دولة على قدر المهمة”، أي مهمة إدارة المدينة والمضايق المحيطة بها، “خاصة تركيا التي لها سجل مُخزِ في سوء الإدارة”. ورغم أن مهمة الرجلين كانت مقتصرة على رسم الحدود، يبدو أن اقترابهما من كمّ المشاكل والمعضلات التي تواجه تقرير المصير، جعلهما يتخذان مسلكًا أكثر مرونة من ناحية الوطنية والهوية.

ساعد على مثل هذه الرؤية حجم الاختلاف بين ساكني الشرق الأوسط حول تقرير مصائرهم. سافر الرجلان من مدينة لأخرى، مستطلعين الآراء والشهادات، ليجمعا سجلًا نادرًا عن آراء سكان المنطقة في تلك الحقبة. بعض هذه الآراء اتفقّ، وبعضها كان بينها بُعْدُ المشرقين.

حوالي 80% ممّن أدلوا برأيهم فضّلوا تأسيس “سوريا متحدة”. لم يتطرق المقترحون إلى كيف سيكون شكل تقرير المصير السوري، ولكن هذه النتيجة أجبرت البعثة على التفكير فيما سيحلّ بالأقليات في “سوريا المتحدة”. فالعديد من المسيحيين ممن ستشملهم هذه الدولة المتحدة، وخاصة في منطقة جبل لبنان، رفضوا بشدة أن يكونوا جزءًا من كيان كبير بأغلبية مسلمة. طالب عديد منهم بلبنان كبرى مستقلة، بمساحة تقترب كثيرًا من لبنان التي نعرفها حاليًا.

لهذا اقترحت البعثة حلًا وهو إعطاء لبنان “قدرًا من الحكم الذاتي المحلي” لكيلا “يتزعزع استقرار وأمن السكان هناك”. ولكن البعثة فضّلت أن تكون لبنان جزءًا من سوريا أيضًا وغير مستقلّة بالكامل عنها، لأن “لبنان ستكون في وضع أقوى وأكثر تأثيرًا داخل الدولة السورية، تتشارك مشاكلها واحتياجاتها مع الحكومة السورية”.

ما وصلت إليه البعثة عن العلاقات الإنسانية يتعارض مع مبدأ تقرير المصير، وكان هذا فتيلًا أشعل العديد من نقاشات القرن الحادي والعشرين عن الحدود الحقيقية للشرق الأوسط. كتبت البعثة في تقريرها:

“لا شك أن الحل الميكانيكي السريع لمشكلة الاختلاف العقدي والعرقي هو تقسيم الشعوب إلى دويلات صغيرة مستقلّة. ولكن بنظرة عامةّ، فإن الفصل الكامل لا يؤدي إلا إلى زيادة حدة الخلافات والصراعات”.

كانت هناك بعض الاستثناءات بالطبع، فقد أكد التقرير على ضرورة وحتمية انفصال الأرمن عن تركيا، بعد المذابح المروعة والجرائم التي لا توصف، على حد قولهم. ولكن حتى هنا يشدد الفريق على أن الانفصال يتضمن مشاكل حقيقية وصعبة، ويمكن أن يؤدي بسهولة إلى نتائج عكسية غير محمودة.

بوجه عام، اعتمد تصور كينج وكرين على الإشراف الأوروبي أو الأمريكي، من خلال نظام الوصاية، في فرض درجات مختلفة من السيادة والاستقلالية، وضمان حقوق الأقليات في الدول متعددة الشعوب. فحين تضع عدة دول تحت وصاية نفس الجهة، فإنك تفصل بينها بسهولة وفي ذات الوقت تُبقِي على الصلة الإدارية بينها جميعًا: سوريا وبلاد بين النهرين مثلًا يمكن وضعها تحت الوصاية البريطانية، أما تركيا وأرمنيا فتشرف عليهما الولايات المتحدة. هناك بالطبع ازدراء واضح للشرق الأوسط في افتراضِ أنّ الوصاية الخارجية هي الطريقة المثلى لفرض “تقرير المصير”، ولكن هذا كان نابعًا من الاعتقاد السائد وقتها في الحاجة إلى هيئة فوق وطنية، مثل عصبة الأمم، لتشرف على الدول وتضمن حقوق الأقليات فيها.

لا يختلف هذا كثيرًا عن سايكس بيكو، التي ساهمت في استمرار الحكم الإمبريالي معتقدة أنه ضروري لتسوية الخلافات الإقليمية والمحلية. لكن الخلاف هنا بين الاستعمارية الأنجلو فرنسية وبين بعثة كينج وكرين؛ أن الاستعمارية اعتمدت على التحكم وقمع تقرير المصير في مناطق نفوذها، أما البعثة فحاولت أن تجد توازنًا بين هذا وذاك لتحقيق جميع الأهداف.

لم يتحقق هذا التوازن بعد. يرى البعض اليوم أن العراق من الأفضل تقسيمها إلى دويلات أصغر، ناهيك عن سوريا التي على وشك الانقسام. بينما يرى آخرون – منهم الدولة الإسلامية – أن الحل هو التخلّي عن الحدود الترابية، كالتي بين العراق وسوريا، وتأسيس دولة كبرى. كلها اقتراحات تفكّر في إعادة رسم الحدود بدلًا من السمو فوقها. ومن الجدير بالذكر أنه لا تقسيم سوريا، ولا الوحدة بين سوريا وبلاد ما بين النهرين كان اقتراحًا تحمّس له الكثير من الناس في استطلاع البعثة.

يشير كل هذا إلى ضرورة التفكير خارج النموذج الحالي للحدود كما نعرفه. فالشعب الإسكتلندي مثلًا فضّل مؤخرًا أن يحتفظ بعلاقة هي مزيج من الاستقلالية والتبعية، بدلًا عن الانفصال الكامل عن لندن، أو التبعية الكاملة لها. وربما يكون الحل في سوريا هو نظام فيدرالي يحكم السيطرة على المنطقة من دون أن تتفتت، بدلًا من الانتصار الشامل لجانبٍ على الآخر.

لابد بالطبع من أن ندرك حجم الصعوبات التي تواجه مثل هذا الأمر. كان من الصعوبة بمكان أن ينتقل العرب من الاستعمار العثماني مباشرة إلى الوطنية الأوروبية الحديثة. مازالت العوامل التاريخية تلعب دورها في عرقلة إيجاد حلول لمشاكل الشرق الأوسط منذ التفكك العثماني وحتى الآن. لكن الضبابية التي يعاني منها الشرق الأوسط حاليًا تحتاج إلى رؤية مشابهة لرؤية كينج وكرين في بعثتهم. بعد قرن من البعثة، ما زالت الطريقة المثلى لفرض التعايش في الشرق الأوسط علامة استفهام كبيرة صعبة الإجابة.

المصدر: TheAtlantic.com | ترجمة: sasapost.com

scroll to top