تحلّق النسور في سماء غوريس آخذةً العين نحو الإحساس بالأعلى، قُبيل الوصول إلى خنزوريسك، أو قرية التفاح حيث سكن الأرمن في الكهوف حتى العام 1916. نتوقّف على مسافة في الوسط بين أعشاش النسور من جهة، والكهوف في كلّ مكان من جهة أخرى. كان ذلك قبل الاتجاه الى تاتيڤ، مشروع ضخم يختزل العزيمة الأرمنية والعين التي تغفو لتحلم. “أنتم! إننا نفعل كلّ هذا من أجلكم”، يخاطب الدليل السياحي أجيال أرمينيا المقبلة، بينما يتحدث عن الهدف من إنفاق ملايين الدولارات على بنية المنطقة وجذب الناس. في تاتيڤ، تلفريك هو الأطول وفق الأرمن وكتاب “غينيس”، وثلاث عشرة دقيقة تفصل الانطلاق عن الوصول. يُفتح الباب بعد ارتفاعٍ يُقدّس الطبيعة، ويترجّل راكبو التلفريك في اتجاه ديرٍ، جذوره في الأرض كأرمني لا ينسى.
تُعشَق أرمينيا ككلّ أمّة لم تُبنَ بالحجر بل بعظمة الانتماء. تكثر في الأرجاء الأديرة والكنائس، تتشابه لوهلة بالقدر عينه الذي تتراءى فيه مختلفة. بلد متجانس على رغم تناقضات أفرادٍ عازمين على التحليق عالياً كنسور غوريس، فيما هم متمسكون بالرواية الخرافية، لا يقوون على التخلّص منها. إن رميتَ حجراً وأصاب زاوية الصخر، فلن يصيبكَ سوء الحظّ. وإن مرّغَتْ سيدةٌ بطنها فوق هذه الصخرة، فستُرزق بالمولود المنتظَر. وإن كسر ولدٌ خائف الزجاجَ على مدفن قديم، فسيستفيق والخوف قد تبدّد. نفوسٌ قوامها تلك الجسور ما بين الأرض والسماء، لا تجد من الغرابة أن تُبقي التعلّق بالأسطورة والتمسّك بها. كنائس في نوراڤانك وكيغارت ومعبدٌ في غارني، وإن شئتَ الإحصاء فلن تتوقّف. إلى أن يحطّ الباص في تاتيڤ فتبدو أرمينيا كمن تصنع من الجراحات أحلاماً وزقزقة. مؤسسة “آيديا”، وعبرها مؤسسة “100 حياة”، تحوّل تاتيڤ حيث المساحات البعيدة أرضاً تخفق بجذورها وترابها. مشاريع تكلّف ثروة، تتولاها المؤسسة (غير حكومية)، الغرض منها كفّ يد القهر عن أرمينيا ومسح دموعها.
الى الذين ساعدوها لتحيا
في مبنى المؤسسة، شبانٌ عازمون على مجابهة الماضي بالتذكّر والعِبرة. يضرب الجميعَ إحساسٌ بالهيبة في انتظار ظهور أحد مؤسسي المشروع، روبن ڤارادنيان، عبر الـ”سكايب” للقاء حول تاتيڤ ومدرسة ديليجان (راجع مقالنا الأول عن أرمينيا) واصرار أرمينيا على التحوّل مثالاً يُحتذى. “أننا ناجون متفوّقون، نفعل كل هذا لشُكر الذين ساعدوا أرمينيا لتحيا. إننا أمّة مقاوِمة. “سرڤايڤل!”. لسنا نحن مَن يخسر. إننا لا ننفك ننهض”. تُنفق “آيديا” الملايين على مشاريع، بعضها أنجز وبعضها قدي الانجاز. شبانٌ عاملون في المؤسسة يتحدثون عن نحو 154 ألف سائح وطئت أقدامهم تلفريك تاتيڤ وجالت عيونهم في سمائها وطبيعتها. ويُلمح من علوّ 350 متراً جسرٌ يسمّيه الأرمن “جسر الشيطان”، ثم يتقلّص الارتفاع، بيد أنّ أرمينيا ستظلّ هامَة عالية لا تعرف الهبوط. يظهر ڤارادنيان بصورة الشخص الجدّي الليّن والمتجهّم الضاحك، على شاشة تلفزيون موصولة بكومبيوتر في قاعة الاجتماعات داخل “آيديا”، متحدثاً عن مساهمين من المسلمين والمسيحيين واليهود والبوذيين يؤمنون بالمشروع. نسأله عن موقفه إن شاء رجل أعمال تركي المساهمة في مشاريعه، فيجيب أنّ الجنسيات لا تهمّ، والصعود بأرمينيا إلى المجد هو الأهم. يحدّق في الشمس ليستعير منها وهجاً، ثم يقول إنه يريد أرمينيا على خُطى إبداعات سنغافورة. سبق ذكر طموحات مدرسة “UWC College” في ديليجان لبناء فرد لا يرى التعليم عقاباً، بل متعة. تؤمن المؤسسة بأنّ الجيل المثقّف يولّد أجيالاً خلّاقة تفكّر وتتخيّل، وأنه لا بدّ من بقعة ضوء تنير الترسّبات المرّة. ليست هذه قصة ڤارادنيان وحده، بل قصص جميع الأرمن عن البقاء والتجذّر وربما الرغبة في العودة. جيء من أجل المشروع بوجوهٍ تملك إمكان التأثير، منها جورج كلوني وزوجته أمل علم الدين التي خُصصت باسمها مِنحٌ لتلامذة من دول العالم يستحقون مقعداً في مدرسة ديليجان، والجيب لا يسمح. يتمسّك الأرمن بالتذكّر كسبيل إلى بقائهم أمّة لا تفتتها الشرذمة. تقدّم المؤسسة “جائزة أورورا” (أرمنية دفعت باهظاً ثمن الإبادة) للأعمال الإنسانية تخليداً لأفراد يُستعصَى وجودهم خارج الذاكرة. “لتكون أرمنياً، عليك فقط أن تحيا”، يقول الأرمن داخل أروقة مؤسسة “آيديا”. مدرسة ديليجان، تلفريك تاتيڤ، ومشاريع “100 حياة”، اختزالات لقدرة الناجين على توليد حيواتٍ لن تُهزَم.
أنا الصورة الحزينة أنقذوني من العذاب
تبدو الطريق طويلة تحت الشمس الحارقة، وعلى رغم ذلك نسير نحو اللهيب الذي يحرّك تلك الشعلة. تجمّع أرمنٌ في أيديهم وردة تنشر في الشتات عطراً، وفي ذاكرتهم صورة تستدعي صوراً. نحن في متحف الإبادة (تأسّس قبل 20 عاماً)، أمام شعلة عملاقة لا تخمد، يتخذها الأرمن درساً في صيرورة الأبد. ترافقنا وجوهٌ في نظراتها تكمن الآلام بأسرها، تأبى البقاء معلّقة على جدران المتحف، فتتمسّك بالزائر عساه يحرّرها من العذاب. يصوّب الدليل السياحي رأس مسطرته النحيفة على خريطة اعتمدها العثمانيون آنذاك مرجعاً، مُبيّناً، بغصّة، كيف اعتبروا أرمينيا “أرمينستان”، وكيف مهّدوا لإبادة أمّة. الصور معلّقة على الجدران، تنعكس عليها إنارة حزينة، في جانبها وثائق تُثبت أنّ الأرمن كانوا شعباً في وطن، لا أقليات. العيون في الصور ثانيةً: الطفل عاتب، الأم شاردة، والأب عاجز. يوثّق المتحف معالم الإبادة كأنّ إزميل نحّات يحفر عميقاً تعابير وجه بلغ المئة. دقائق تجمعنا بمديره هايك ديمويان، فيتحدّث عن روايات ناجين لم تُحفَظ وأخرى تُترجَم بغرض جمعها، وعن معارض ونشاطات ستُقام في لبنان حول أوجاع الإبادة وضرورة التذكّر. تأخذنا الصور، وما كنا لنلاحظ انحدار الأرض لولا صوت الدليل السياحي، مرافقنا، شارحاً أنّ النزول صُمِّم عن قصد ليشعر المرء بالعتمة والهاوية. نحن في “الداون” جداً، وحنجرةٌ من الداخل تصدح بأشجان تشبه الجلجلة. نتساءل عن كثافة الحزن، وعن الشعور بالأعباء الثقيلة. مَن صاحب هذا الصوت؟ مَن هذا المتألّم إلى حدّ التشبّه بالمِزَق؟ إنه كوميتاس الذي لم يقوَ على التحمّل فضربه الجنون. رُفعَت له صورةٌ في المتحف، وظلّ صوته يصدح، لكن مصاب الأرمن أودى به الى اليأس. سنغادر، إلا أنّ صورة صبي رافع اليدين تستوقفنا. كأنّ له أصابع تنادي وأظفاراً تطلب النجدة. صلبه العثمانيون ولا أحد يعلم كيف فرَّ ونجا. صبي آخر في صورة أخرى تاه وحيداً في الصحراء، فسلبه الذعر عقله وراح يقلّد سلوك الذئب وهيكلية بدنه. كلاهما له عينان من دون دمع. ونظرات متجمّدة. من هنا تنظر الأمّة الأرمنية إلى العالم. من هنا تفترسه. ومن هنا تتفوّق.
بقلم: فاطمة عبدالله | نقلا عن النهار اللبنانية
[email protected]
Twitter: @abdallah_fatima