صباحٌ آخر تشرق فيه الشمس على أرضٍ يعنيها الماضي لكنها تفكّر في الغد. نوضّب الأمتعة بعد ليلٍ مرّ سريعاً وننطلق نحو نهار جديد يحرّض ربما على التمسّك بالحياة. هنا، في أرمينيا، لا تلتقط العين ضحكات الأشجار تحت سماء صيفية فحسب، وإنما أيضاً وخصوصاً شغف الأرمن بالنهوض وإرادة البقاء.
لن يعاني المرء أرق البحث عن تفصيل يميّز المشهد، فالتفاصيل تأتيه من تلقائها، لها وجهٌ وابتسامات وبريقٌ يحاكي البعيد. على أنغام مقطوعة مذهلة لآرام خاتشادوريان، نصل إلى متحف مانتاداران، وفي البال تلك الرمانة التي يتخذها الأرمن رمزاً لعمرٍ لا ينطفئ. رمانٌ عملاق يرسم الشوارع حاملاً بين الحبّات عزماً يستحيل قهره. يرى فيه الأرمن دليلاً إلى الخصب والاستمرار مهما اشتدّ البُعد وقست المسافات.
لم تختلف حرارة الطقس كثيراً بين بيروت ويريفان، الصيف قاسٍ أينما حلّ، حمداً للطبيعة أنّ الرطوبة هنا مقبولة. نصل إلى المتحف، وكان الظنّ أنّ عادة المتاحف بَعْث الملل، لكنّ الأرمن يتقنون جَعْل أبسط الأمور عِبرة تستحق التمعّن. يستوقفنا النَفَس الأرمني الدائم الحضور في الكليات والجزئيات والانشراح والزوايا. يطغى البُعد الديني على المتحف، والمخطوطات في جلّها أناجيل وترجمات من قرون مضت، لكنّ أسلوب الشرح وكيفية العرض يضيفان إلى الماضي زخماً فوق زخم. فاتنا أنّ الحماسة وارتفاع الصوت قد يتسببان بإزعاج الزوّار، إلى أن تذمّر أحدهم وسأل راجياً بعض الهدوء. استجابت الشابة الأنيقة المنشغلة بتفاصيل المتحف، وتابعت الشرح بصوتٍ يشبه التمتمات عن مخطوطاتٍ بعضها نجا من الإبادة وحُفظ في مانتاداران، وبعضها محفوظ في خزائن الدولة، نشاهد ها هنا نسخاً منه.
يحلو للأرمن سرد قصص التاريخ، يستحضرونها كما يُستَحضر الأثر الخالد. متحفٌ يحفظ نسخاً من أناجيل نادرة، ومخطوطات تحاكي الماضي والجغرافيا والقانون وعلم الحساب. بماذا تُثبّت الألوان ويُصان الحرف؟ بالثوم! يُستعمل كمادة لاصقة تحفظ عُمر المخطوطة وفرادة ألوانها. صدِّق ولا تضحك.
العذاب والانبعاث مروراً بشارع بيروت
تبتسم صاحبة الدعوة الصحافية إلى أرمينيا، مديرة العلاقات العامة والإعلام في جمعية “100 حياة”، زارا نازاريان، حين نمرّ في شارع بيروت، ويباشر مساعدها استيبان شرح العلاقة العميقة ما بين اللبنانيين والأرمن. نتحسّر على شارع بيروت الهادئ والنظيف في أرمينيا، وشوارع بيروت الجرح والاختناق في لبنان.
صحافيون من وسائل إعلام لبنانية وأرمنية، لبّوا دعوة الجمعية (تُعنى ببثّ الروح الأرمنية في أرجاء العالم وتعريف الآخر إلى الذاكرة والثقافة) لاكتشاف أرضٍ، أجدادها معذّبون وأبناؤها يعبرون من العذاب إلى الانبعاث. طرق طويلة تفصل مَعْلماً عن آخر، لكنّ الموسيقى الآتية من حناجر العباقرة تمرينٌ على الارتقاء بالوقت، والأشجار في كلّ مكان جمالٌ لا متناهٍ كالآفاق. أرمينيا أرضٌ تشبه روح بوذا، تشاء لو تَسْعد لتُسعِد، فتبلغ بالفرد والمجموعة لحظات النيرفانا. مساحاتٌ من السلام، والحاجة أبدية إلى الطمأنينة. شوارع لا تعرف الازدحام ولا الحُفر، تشكّل التماثيل جمال تفاصيلها، فيعبرها المرء من دون القهر اليومي وساعات الانتظار داخل السيارات.
إننا الآن في غيتشارنس (وادي الزهور)، مجمع كنسي مدهش. أرمينيا أولى الدول التي اعتنقت المسيحية، وأتشميازين، أقدم كنيسة في العالم، بمثابة قِبلة الربّ. يدرك استيبان حكاية كلّ شبر تحطّ أقدامنا عليه، فنمضي وقتاً في الإصغاء إليه شارحاً دلالات الصليب الأرمني ورمزيته مسيحياً. بإنكليزيةٍ يُرفقها بالأرمنية لمن يطرح سؤالاً بلغته وينتظر إجابةً باللغة عينها، يفسّر كيف جعل الرومان الصليب أداة للقتل وسفك الدم، ثم جاء المسيح وجعله رمز القيامة. يبشّر الصليب الأرمني بدوّامة الحياة والاستمرار الأبدي. كنائس الأرمن ماضٍ توقّف في المكان وأبى الاندثار، والجدران اختزالٌ لحضارة تحتفظ بنقوشها وتمدّ الأجيال بأساطير ومعتقدات يحلو لبعضهم سماعها، ولبعضهم الآخر الإيمان بها ونشرها.
على تلك التلة الهادئة هدوء الغابة من حولها، يرتفع صليبان في أعلى دير هاغاردزين حيث نصل الآن، كأنهما، كالمكان بأسره، يرحبان بالقادم. يستمرّ استيبان في تفسير أسباب وجودنا هنا، مستعيداً رواية كل مَعْلم وحقبته.
نصغي ونترك العين تُذهَل، فيخبرنا أنّ الدير رُمّم بمساعدة خليجية بعدما كاد أن يصبح منسياً. كنائس تعود بنا إلى القرون الغابرة، ولعله من حُسن الحظ أن نصادف قداساً يُقام لعابري السبيل في هايرافانك من دون ضرورات يوم الأحد، فنشاركهم المناجاة. تطلّ الكنيسة على بحيرة سيفان (الوحيدة في أرمينيا، الباردة حتى في الصيف)، وتشكّل محجاً روحياً لزوّار المكان بعد قَطْع المسافات الهائلة. كارافانسراي، استراحة أخرى طالما وطئها التجار القدماء وأحصنتهم التي اجتازوا بها السهول والجبال. حدث ذلك في القرن الثالث عشر، واستيبان يشرح: هنا نام التجار، وهنا استراحت الخيل، أما هنا فقضى الجميع حاجاته!
كما الكنائس، تُبنى الحضارة الأرمنية على رمزية المدافن القديمة والصخور المُعمِّرة وتلك المنقوشة فيها الصلبان كدليل إلى الخلود. للمدفن والصخرة قصة، ويصحّ اعتبار أرمينيا بلد الكنائس والصخور التي تتحلّى بذاكرة. نحن في كاراهونج، وفي الخلف سهل قمح شاسع يشبه سهول لبنان. أرض الصخور هذه، لجأ إليها الأقدمون لاحتساب حركة النجوم وإدراك موعد الحصاد قبل التوصّل إلى علمي الحساب والفلك. روايات مُنكَّهة بالخرافة الجميلة، ينقلها استيبان، كالقول إنّ آدم وحواء داسا الأرض الأرمنية والمسيح أيضاً مرّ من هنا. يبتسم الجميع فيما سنابل القمح تتمايل وشمس تلك الظهيرة تترك على الوجه حمرة تُذكّر بوجوه الأطفال السعداء.
المدرسة الحلم والتأسيس للبعيد جداً
كنا لنستغرب أن يتضمّن برنامج الرحلة زيارةً لمدرسة. مدرسة؟ ألا توجد مدارس في كلّ الأوطان، ولا فرادة تُذكر في الأمر؟ لكنّ UWC Dilijan College ليست كالمدارس التي نألف. يتراءى المبنى قصراً لرؤساء الجمهورية، لا بدّ أن يلفت الانتباه من حيث الترتيب والنظافة. يؤسس الأرمن للبعيد جداً، وما المدرسة هذه سوى نموذج.
افتُتحت في العام الفائت، وتضمّ تلامذة من 63 بلداً بينها لبنان وسوريا ومصر. تتميّز بنظامها المنهجي أولاً (الشهادة تخوّل الدخول إلى أبرز جامعات العالم)، ونظامها الداخلي، حيث لا يعود التلامذة (16 و17 عاماً فقط) إلى منازلهم بعد ساعات الدرس، بل إلى مخيّم في المبنى عينه. المعلّمون أيضاً على خُطى تلامذتهم في العيش داخل المدرسة. لن يُعتبر ذلك قصاصاً البتة، فالمبنى مجهّز، إلى مختبرَي الفيزياء والكيمياء، ببركة للسباحة وقاعة للرياضة وهواء لا يُعوَّض. معلمون من دول عدة أتوا إلى أرمينيا رغبةً في التجربة، يتكلّمون لغات بلدانهم ولغات أخرى، ويتركون للتلامذة حرية اختيار اللغة الأنسب. يتباهى الأرمن بأنّها المدرسة الوحيدة بهذه المواصفات في الشرق الأوسط والمنطقة، لها فروع في دول أوروبا وأميركا. أما الراتب، فذلك قد لا يُعدّ مصيبة: ثلاثون ألف دولار سنوياً فقط لا غير.
بقلم: فاطمة عبدالله | نقلا عن صحيفة النهار اللبنانية
[email protected]
Twitter: @abdallah_fatima