في متحف الماديناتاران في قلب العاصمة يريفان، تنحني سيدة على واجهة زجاجية تظهر خلفها مخطوطة باللغة العبرية تلتقط صورة لها في الوقت نفسه الذي تنحني سيدة أخرى الى جانبها لالتقاط صورة لمخطوطة ملاصقة باللغة العربية محفوظة في الواجهة نفسها. انهما سيدتان من بلدي الاضداد، جمعتهما أرمينيا التي شكل موقعها الجغرافي عبر التاريخ ممراً لغزاة وحضارات احتفظ الارمن بآثارهم على أرضهم، وحفظوها في مركز يلخص الثقافة الروحية الأرمنية.
في هذا المتحف يمكن لك أن تجد السائح الايراني مثلما تجد السائح الاسرائيلي، تماماً كما هذه الواجهة الزجاجية حيث تتجاور المخطوطات التي كتبت باللغات الاثيوبية واليونانية القديمة والسورية والعبرية ولغة التاميل.
وتعود أول مخطوطة في المتحف الى القرن الخامس باللغة الأرمنية القديمة «الكرابار». ويضم بين طوابقه الثلاثة مخطوطات ورسائل كانت احتفظت بها البطريركية ايشميادزين، الكنيسة الارثوذكسية الأرمنية الأولى في العالم، والخزينة الاولى لهذه المخطوطات.
ومن أبرز المخطوطات «تاريخ الكسندر الكبير» باللغة الأرمنية والمترجَمة من اليونانية، فضاعت النسخة اليونانية وبقيت النسخة الأرمنية. واللغة الأرمنية شهدت عبر التاريخ تجدداً لمرات أربع. ويبرز المتحف الألف باء الأرمنية الاولى في القرن الخامس (36 حرفاً وضعها ميسروب ماشتوتس) ثم لغة قديمة استمرت حتى القرن الثاني عشر وصولاً الى اللغة الحديثة التي وضعت في القرن الثامن عشر.
وكانت الأديرة والكنائس الأرمنية مصدر المخطوطات التي تم الاحتفاظ بها، وتحولت هذه المخطوطات الى مرجع لمراكز علمية وثقافية عن مؤرخين وجغرافيين وفلاسفة وعلماء في الحساب والفلك ورسامي المنمنمات وشعراء وقضاة، اذ ان بين المخطوطات ما يتعلق بالحساب والهندسة وعلم الفلك والقانون الى جانب القصائد والالحان الموسيقية.
ومثلما دمرت أرمينيا عبر القرون بعدما اجتاحها الغزاة الأجانب فإن الكثير من مخزونها الثقافي اصابه الدمار، ويظهر عبر مخطوطات محروقة احتفظ بها واخرى اعيد ترميمها ومخطوطات تم جمعها صفحة صفحة من اماكن مختلفة تبعثرت فيها وتحكي عن الاحتفالات الكنسية ووصل عدد صفحاتها الى 606.
ويعتبر القرن التاسع عشر زمن احياء هذا المخزون الارشيفي الثمين. وكانت أرمينيا الشرقية ضمت الى روسيا ومن ضمنها البطريركية والتي كانت تضم في ذلك الوقت 1809 مخطوطة. ووصل عدد المخطوطات عشية الحرب العالمية الاولى الى 4660، على ان الكارثة الكبرى حلت بعد الابادة الجماعية الأرمنية المنظمة على كل الاراضي التركية، اذ طاولت المخزون الثقافي الأرمني ومن ضمنه المخطوطات التي احرقت في اماكن وجودها في المكتبات والمدارس والاديرة والكنائس، فأتت النيران على آلاف المخطوطات القيمة في شكل كامل. وقررت الحكومة الأرمنية في العام 1921 تأسيس المعهد التاريخي الثقافي لأرمينيا السوفياتية وبذلت جهوداً مضنية لإعادة جمع المخطوطات من كل انحاء أرمينيا. ومن بين هذه الاماكن الكهوف، ومن المجتمعات الأرمنية في الاتحاد الروسي وأوكرانيا. ومن أجل توفير هذا المخزون الثقافي للمتخصصين تقرر نقل «ماتيناداران ايشميادزين» الى يريفان في العام 1939. وخلال الحرب العالمية الثانية تقرر تخصيص مركز له اختير ان يكون على احدى تلال يريفان القريبة من المعاهد التعليمية والبحثية، وأنجز ذلك في العام 1959.
وتضاعف عدد المخطوطات اربع مرات، وبينها ما وضعته منظمة «يونيسكو» على لائحة التراث العالمي، فيما تحتفظ متاحف ومكتبات عبر العالم بنحو 30 الف مخطوطة أرمنية، في القدس وبيروت وأصفهان وفيينا والبندقية وباريس ولندن وموسكو. وفي العام 2010 وصل عدد المخطوطات في المتحف الأرمني الى 17260 مخطوطة بينها 11178 مخطوطة قديمة كاملة و2127 مخطوطة من الفتات و497 تعويذة و2904 مخطوطات بلغات اخرى.
في المتحف الأرمني خرائط لأرمينيا الكبرى التي تمتد من البحر الاسود الى بحر قزوين، ومخطوطة بخط يد الطبيب الفيلسوف ابن سينا.
وفي المتحف أيضاً قسم مخصص للادوات التي استعملت في تدوين المخطوطات ومنها الاعشاب والبذور التي أخذت منها الألوان الزاهية (أكثر من مئة لون) التي لونت بها الرسوم المرافقة للمخطوطات الى جانب مادة الذهب، وحفظت كلها بفضل الزيت الذي كانت تطلى به المخطوطات في ختام العمل. ويعتبر الثوم من المواد التي استخدمت لإلصاق الالوان على الصفحات المستخدمة من رقائق الشجر وأنسجة بدائية. كما تعرض الزيوت التي كانت تستخرج من 70 نوعاً من الاعشاب وتخلط لتستخدم في عمادة الأرمن، وهو طقس يجري كل 7 سنوات مرة واحدة في الخريف ويحفظ بقايا الزيت الى العمادة التالية في دلالة الى استمرار الكنيسة.
وتتصدر المتحف خريطة لأرمينيا الكبرى وكيف جرى قضمها لتظهر أرمينيا الصغرى الحالية.
أخيرا لابد من التنويه أنه في الزمن السوفياتي وتحت شعار «تبادل الثقافات»، نقل السوفيات الكثير من الكنوز الأرمنية لمقتنيات ملوك قديمة عثر عليها في الاماكن الاثرية، الى موسكو واعطوا أرمينيا بعض اللوحات لرسامين من عصر النهضة.. لا يمكن القول انها غير ثمينة لكنهم احتفظوا بكنوز أرمينيا لديهم.