موفسيس خوريناتسي، شخصية فريدة بين كتاب الأرمن الأقدمين، تميز عن غيره بما ثار حوله من جدل استمر 14 قرنا من الزمان في مناقشة كتابه عن تاريخ الأرمن. انغمس في هذا الكتاب كثير من الأرمن وغير الأرمن ما بين منتقد ومؤيد حتى صار مرجعا مهما للدارسين ومصدرا ثريا للباحثين وكتابا مدرسيا يعتمد عليه في معرفة أصول الأمم ونشأتها وفروع الأقوام وتوزعها على الأرض. ولم يتردد الذين جاؤوا بعده من الاستفادة من هذا الكتاب في بحوثهم ومؤلفاتهم حتى أوصله هذا الصيت الحسن إلى حمل لقب “أبي التاريخ” و “هيرودوتس الأرمن”. وغني عن البيان أنه يحق للأرمن أن يطلقوا عليه هذا اللقب لأنه واحد من الأوائل الذين كتبوا عن تاريخ الأمم القديمة بعد الكتاب المقدس.
إلا أن موفسيس خوريناتسي تعرض في القرن التاسع عشر لحملة عنيفة شنها عليه النقاد صحبها نقد جائر وتشكيك بنزاهة المصادر التي أخذ عنها، يونانية كانت أو آشورية، واستمرت الحملة زمنا حتى جاء المنصفون في القرن العشرين ليردوا للكتاب قيمته واعتباره، فأضاءت شعلته من جديد وعاد خوريناتسي ليتبوأ بكتابه ههذا المكانة اللائقة به بين الكتاب المعاصرين على الرغم من مرور كل هذا الزمن عليه.
والواقع أن الدارسين لم يعرفوا كثيرا عن حياة خوريناتسي إلا ما تناولته الأساطير الشعبية وما ورد في كتابه نفسه وعلى لسانه هو مما لا يشبع فضول المهتمين به وبكتابه ولكن هذا القدر يكفي لمعرفة شيء عن حياته ولو كان ذلك قليلا.
لقد استنتج الدارسون من كنيته، أنه ينتسب غلى مدينة أو قرية في إقليم “دارون” اسمها “خورين”، نظرا لأن “تسي” بالأرمنية تقابل “ياء النسبة” بالعربية، لذلك يطلق عليه أيضا كنية داروناتسي في بعض الأحيان ولكن بمدى محدود جدا. أما كنيته الشائعة فهي “خوريناتسي”. ومع ذلك فإن بعضهم قد اقتنع أنه من قرية خورين في إقليم سونيك.
ولم يقتصر الغموض على كنيته، بل تعداها إلى مولده الذي أُستدل عليه من أقواله التي تناولت مؤتمر آفسوس الذي انعقد بين عامي 432 و437 للميلاد، وحضره خوريناتسي بصفة مطّلع، ويعتقد أنه كان آنذاك في الثانية والعشرين من العمر، وهذا يعني أنه ولد في العام 410م، حين كانت بلاده تعاني من أزمات شديدة، سياسية واقتصادية، تتحكم فيها الأمم المجاورة.
ويخمن أنه تلقى أوائل علومه في قرية خورين، وهي لا تتعدى القراءة والكتابة وقليل من الحساب وعلم الدين.. وثم انتسب إلى المدرسة التي أسسها ميسروب ماشدوتس – مبدع الأبجدية الأرمنية – في سونيك.
ولما بلغ الخامسة عشرة من العمر انتقل إلى مدينة فاغارشاباد القريبة والتي فيها المدرسة الأرمنية المركزية التي درس فيها مسروب نفسه مدة خمس سنوات. وخلال هذه المدة تعلم موفسيس خوريناتسي إضافة إلى العلوم المختلفة عدة لغات أجنبية هي اليونانية والآشورية والبهلوية المتفرعة عن الفارسية القديمة.
وهو في الثانية والعشرين من العمر حضر مؤتمر آفسوس، وبعدها، قرر الملك ساهاك والقديس ميسروب إيفاده مع لفيف من أقرانه إلى الإسكندرية الشهيرة بمدارسها المتقدمة وجامعاتها لدراسة الطب والفلسفة والفلك وغيرها من العلوم التي كانوا يرغبون في ترجمتها إلى اللغة الأرمنية بعد أن صارت لها حروف تعبر عن مضمونها.
بدأت الرحلة كما يبدو بعد مؤتمر آفسوس، أي بعد العام 437، أو قبل ذلك بقليل. بدأت بتوجههم إلى بلاد آشور، ومنها إلى فلسطين، ثم إلى الإسكندرية، حيث بقوا هناك ما بين خمس إلى ست سنوات.
ولما عزموا على العودة وقع اختيارهم على طريق البحر ولكن نوء البحر لم يساعدهم على اختيار طريق العودة بل اختارها هو لهم بأن رماهم في أرض إيطاليا، فاضطروا إلى النزول فيها والإقامة في روما بعض الوقت، ثم سلكوا الطريق البرية إلى اليونان، فبيزنطة، فأرمينيا التي فوجئوا – حين وصلوا إليها – بخبر موت من أوفدوهم. لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، بل وجدوا أزورارا عنهم واستخفافا بهم وحقدا بلغ حد المطاردة والتنكيل والاضطهاد! وكان هذا فوق ما يحتمله موفسيس، لأنه جاء يفتخر بعلمه وكله أمل في تكريس هذا العلم لمنفعة بلاده، وساءه أن يقابل هذه المقابلة، التي لم يجد مسوغا لها غير الجهل!
إلا أن الروح رّدت إليه بعد أن تولى الملك ساهاك باكرادوني المتعلم، وكلفه تدوين تاريخ الأمة الأرمنية. وبدأ يكتب ويبحث ويدون، إلى أن حانت منيته ومات حوالي العام 493 ميلادية.
ولكن وللأسف لم يصل من أعمال موفسيس خوريناتسي التي يعتقد أنها كانت كثيرة سوى عملين وهما: ترجمة قصة بيدو، وكتاب تاريخ الأرمن.
وآخيرا لابد من القول أن الدارسين اعتبروا خوريناتسي من ألمع كتّاب عصره وأغزرهم علما وأسلسهم أسلوبا.