7532.jpg

الطريق إلى مرقدة.. بقلم: آرا سوفاليان

وقعت في يدي صورة لمخطوطة كتبها احد الناجين من مذابح مرقدة التي نفذها الاتحاديون بالأرمن عام 1915، فرسخت القصة في ذهني وسببت لي صدمة هائلة، خصوصا ان الصورة وقعت في يدي بداية السبعينات، وكنت وقتذاك في مرحلة الشباب، ولدي اهتمامات كنت اعتقد ان لها المقام الاول، لاكتشف في ما بعد انني كنت على خطأ، اما هذه الصورة المخطوطة فانها لم تبرح مخيلتي. لقد كتبت بالارمنية ويتحدث صاحبها عن رحلة الافناء التي سار في ركبها هو وابناء قريته في اتجاه الصحراء السورية. ويتحدث عن العطش ومصارعة الموت، والحظ الذي حالفه فنجا من هجمات الاكراد والشتاء وقطاع الطرق الذين دفعوا للحرس بدل الاغارة على افراد “السوقية” لاخذ ما يمكن اخذه وخصوصا الجميلات والقاصرات صغيرات السن والاطفال، وهو يراقب المرحّلين في سوقيته والسوقيات الاخرى، والموت يحصدهم حصدا فيتناقص عددهم بعد كل حادث وكل تعرض وكل منعطف على الطريق، وكان يحسب الساعات والدقائق التي تفصله عن الموت، لا يعرف هل سيكون الحظ بجانبه حتى النهاية؟

علم ان وجهة السوقية النهائية هي مرقدة، وهي قطعة قاحلة من الصحراء السورية قريبة من دير الزور، وظن ان رحلة الشقاء ستنتهي فيها، وكان يسأل الحراس كم بقي لنا للوصول الى مرقدة؟ وكان لا يحصل على اي جواب فلقد استنفد كل ما معه، وتحول هيكلا عظميا يجر نفسه جرا، وكان ينهض بسرعة وان وقع حتى لا يعاجله احدهم بضربة سيف تفصل رأسه المتعب عن جسده الهزيل.

وفي النهاية وصلت السوقية الى مرقدة، وسارع بعض الفرسان الى الانسحاب في طريق العودة فلقد تم انجاز المهمة الصعبة. وكان لا بد من الايعاز الى السوقية التالية بالتوقف والتريث، ريثما يتم ابادة افراد السوقية الحالية.

وطلب من الجميع الخلود الى الراحة وافتراش الارض حتى ينبلج الفجر، ونظر صاحب المخطوطة الى الافق ووصف المكان بدقة مذهلة، فلقد كانت السوقية تتوقف بعد انتهاء الطريق المستوي، وعلى الحد الفاصل حيث تتغير ملامح الارض فتصبح منحدرة تتوسطها الصخور.

وانبلج الفجر وارتفع صوت الاذان من مكان قريب لا بد انه تجمع لمساكن طينية تعود الى احدى القرى العربية القريبة، والبعض غارق في النوم، وآخرون يعلو انينهم بسبب المرض، واطفال يبكون في حضن امهاتهم من الجوع والعطش والاعياء. وفجأة وباندفاع جنوني اعملت الخيول حوافرها في بطون الاطفال وصدعت السيوف جماجم الكبار وانطلقت من البنادق بضع طلقات اجهزت على الذين حاولوا الفرار. اما صاحب المخطوطة فلقد اصيب ولكن اصابته لم تكن قاتلة ونزف، ونزفت فوقه اجساد متعبة لم تلبث ان تحولت الى جثث، وتصنَّع الموت ورأى بأم عينيه المزايا التي يقدمها المنحدر الذي تتوسطه الصخور، فلقد تناوب كل جنديين على حمل ضحية من اليدين والقدمين، حيث تتم الارجحة ثم الرمي الى المنحدر. وتم رمي صاحب المخطوطة فوقع فوق الجثث والقيت جثث اخرى وقعت فوقه، فنام قرير العين ونهض في منتصف الليل وزحف وهو يتحامل على جراحه، وايقن انه ابتعد قدر مسافة مناسبة بحيث لا يراه احد، ورأى عيون الضواري وهي تلمع ليلا وكان لا يخشاها ويمني نفسه بأنه ان هو استقر في بطونها فهي تفعل ذلك مدفوعة بعذر مقبول وهو الجوع، وبالتالي فان هو مات الآن فإن ميتته مبررة، بل وبارة.

كان لا يريد الموت تسديدا لتهمة الصقت بشعبه، وكانت هذه التهمة المقرفة تدعوه الى التقيؤ، بعكس رائحة الدم ورائحة الموت التي عششت في الخرق البالية التي التصقت بجسده، والاثمال الممتلئة بالدم المتيبس، كانت هذه التهمة لا تنطلي على احد ولا على نملة واحدة من السرب الذي اشفق عليه فأرشده الى الوكر، حيث دارت محاورة بينه وبين النمل اعتذر في نهايتها عن اضطراره لنبش وكر النمل للوصول الى بعض الحبوب التي يدخرها اصحابها للشتاء، واعتذر عن تصرفه الذي هو السبيل الاوحد للبقاء على قيد الحياة، فتفهم النمل دوافعه، اما التهمة التي ألصقت بشعبه فهي تتعلق بالأرمن الذين يعيشون في ظل روسيا وقيصرها والذين انخرطوا في جيوش القيصر على قلة عددهم وساروا في ركب الجيش لمحاربة السلطنة العثمانية.

حيث طلب من ارمن تركيا الايعاز الى هؤلاء بالتمرد على قيصرهم والانضمام الى ارمن تركيا ونقل انفسهم الى الموقع الآخر، وكان هذا المطلب صعب التحقيق ولا طاقة لأحد به، وهذا هو حال الدول الصغيرة التي يضيع استقلالها فيقع شعبها في ظل تبعيتين متخاصمتين، فتكون النتيجة وخيمة، عند اول بارقة حرب او عداوة بين الدولتين الكبيرتين.
شكر صاحب المخطوطة النمل، لانها منحته متابعة الحياة دون ان تشنّف اذنيه، بكلمة كافر، على رغم انه اتى على مدخراتها كلها، وودعوته منصرفة الى العمل من جديد فهو في نظرها انسان يدفع عن نفسه الموت، وبالتالي فانها جمعت في قلوبها كل الانسانية التي فقدت في قلوب الغير، الذين اضافوا الى قلوبهم الخاوية كلمة كافر.

وتوفى الكافر في فريزنو في الولايات المتحدة واخرج اولاده مخطوطته وسيرته الذاتية للعلن، فأرهقني ذلك ايما ارهاق. وذهبت الى مرقدة مع الذاهبين بعد تسعة وسبعين سنة من اغلاق هذا المسلخ، 1994 وعلمت ان هناك وفودا جاءت من حلب ومن اللاذقية ومن لبنان والاردن. ذهبت لأعيش مشاعر صاحب المخطوطة عن قرب وبعد انصراف الجلاوذة، فأدركت سخف المقارنة وتفاهتها.

كان الطوز يحيط بالبولمن الذي يقلنا فيحجب الرؤية من النوافذ دون ان يتمكن من اختراق عيوننا، وكنا نسخر من هواء الصحراء الملتهب ونكسحه بمكيفات البولمان التي كانت تعمل بالطاقة القصوى، ونضع امامنا كل الطعام والشرب والماء المثلج، بعكس صاحب المخطوطة الذي كان يتقلب على الجمر في هذا السعير، يهرب من قاتليه وهو يحمل جراحه، يتنمى ان يحصل على رشفة ماء يغلي.

في دير الزور دخلنا كنيسة الشهداء وهي كنيسة جميلة تخفي تحتها مقبرة، وقد ارسلت ارمينيا التي كانت سوفياتية وقتذاك، هدية متميزة بمناسبة بناء هذه الكنيسة والهدية هي شاهدة قبر حجرية نقش عليها الصليب وهو شعار عذابات المسيحيين، مسيحيو الشرق عام 1915 وخصوصا الارمن ومثلهم السريان والكلدان والآشوريون الذين اجبروا على الاشتراك في وليمة تحوي طبقا واحدا مترعا بالسم الزعاف.

في القبور زرنا المتحف وفيه واجهة ارضية محاطة بالزجاج والسلاسل المعدنية وفيها نباتات مزروعة لن تعيش ابدا الا في قلوبنا، نباتات تسقى بدموعنا وبالصلاة وبالبخور والدعاء، لأن يتغمّدها الله بواسع رحمته بعدما استكثر عليها القتلة حفنة من التراب فتركت هكذا في العراء جماجم محطمة بعضها مثقوب اثر طلقات نارية وبقايا فكوك واسنان محطمة وقفص صدري وعظام السواعد وفقرات ظهرية وحرقفية وعجزية، وعظام الاقدام وعظام فخذ وسلاميات اصابع، حتى جاءت سيول الصحراء فغمرتها بالطين والاوحال في محاولة خجلة ترتعد لها الفرائص لفظاعة قلوب مرتكبيها وقسوتهم.

في المتحف صور وثائقية التقطها بعض الضباط الالمان وكانوا حلفاء للاتراك في الحرب العالمية الاولى، تصور الأرمن هذا العدو الخارق الذي لم تنفع معه الا الابادة، تصور الاطفال الذين تحولوا هياكل عظمية، تصور الجريمة المروعة التي يندى لها الجبين.

التقطت بعض الصور، وكانت هناك لوحة مكتوبة بالعربية، ومذيلة باسم فائز الغصين، الكاتب والمفكر الذي كان قائمقام منطقة دير الزور وجاهر بمحبته للأرمن وطالب بانصافهم وتحدى اوامر الباب العالي ووقف قدر طاقته في مواجهة القتلة، وقدم الى الارمن الملجأ والحماية.

خرجنا من الكنيسة ومررنا بالفرات الذي له قدسية في قلوب الارمن، لانه تحول نعشا ضم عشرات الالوف من اجساد شعبي، دخلنا ارضا زراعية وشوارع فرعية وتحويلة، واتجهنا الى مرقدة، والتقينا الوفود التي جاءت للزيارة ولم نتوقع ان العدد سيبلغ هذا الكبر، تركنا البولمانات وانطلقنا كل واحد في جهة، وفضلت ان اقتفي اثر صاحب المخطوطة فصعدت الى الاعلى، ونظرت الى المنحدر فعشت الحالة نفسها التي عاشها صاحب المخطوطة، بحثت عن المغاور التي اتخمت بالكفار وسدت مداخلها بالحطب والقش والاعواد اليابسة واضرمت فيها النار، وهي نار الخلاص التي اتت على الناس في الداخل وحولتهم جثثا متفحمة، نزلت حيث القي صاحب المخطوطة، كنت في اخدود عميق والعظام البشرية تحيط بي، رأيت قفصا صدريا وعمودا فقريا عالقا في الطين اليابس، رأيت جمجمة تنظر الي، تحاول ان تقول شيئا، قربت اذني لعلي اسمع شيئا، اقتربت اكثر فسمعت عبارة عتب، انطلقت عبر طبقات العظم المحطم، وتأكدت انني سمعت وبنبرة منكسرة هذه السؤال: لقد وصلتم ولكن متأخرين جدا… صلوا لأجلنا.

بحثت عن وكر نمل فعثرت على واحد، فانحنيت لتقديم واجب الشكر والعرفان بالجميل، اخذت بعض سنابل القمح، وقطعا عظمية صغيرة واسنانا بشرية، معي الى بيتي، لان سنابل القمح هذه ارتوت بما ارتوت به هذه الارض من دماء شعبي في الايام المروعة، وقطع العظم والاسنان ضممتها الى صدري بحنان لتعويضها ولو بقدر يسير، لتبقى في بيت ارمني احاط بجزء يسير من قصص هذه المذبحة المروعة عندما ادار العالم كله ظهره لشعبي.

آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
دمشق 24/04/2009

scroll to top