قبل الانتخابات التركية بأسبوعين تقريباً ألقى الرئيس رجب طيب أردوغان خطاباً في مدينة بنغول اتهم فيه مؤيدي «حزب الشعب الديموقراطي الكردي» بأنهم يستمدون سياستهم من اللوبي الأرمني والعلويين واللواطيين ووسائل الإعلام الأميركية.
واعتبرت صحيفة «نيويورك تايمز» أنها المعنية بذلك الانتقاد، وأن السفارة التركية في واشنطن لم تتردد في التهجم على مراسليها المنحازين للمعارضة.
والثابت أن ذلك السجال الحاد كان نتيجة حديث أدلى به وزير الخارجية الأميركي جون كيري لصحيفة تركية كشف فيه إحجام الحكومة التركية عن الانضمام إلى التحالف المناهض لتنظيم «داعش».
واستغلت صحيفة «وول ستريت جورنال» تعليق الوزير كيري لتكتب افتتاحية تقول فيها: «إن أنقرة لم تعد تتصرف كحليف للولايات المتحدة، ولأعضاء الحلف الأطلسي، وللدول الغربية عموماً».
لهذا السبب، اقترحت الصحيفة التي يملكها روبرت ميردوخ، ضرورة نقل القاعدة الجوية من إنجرليك التركية إلى كردستان. ورفضت الحجّة التي قدمتها أنقرة سابقاً بأن تحفظها كان مرتبطاً بمصير 46 مواطناً خطفهم «داعش» وهدد بذبحهم.
لكن السفير الأميركي في تركيا فرانك ريتشاردوني لم يقبل ذلك العذر، واتهم أردوغان بالتعاطف مع «جبهة النصرة»، إضافة إلى تأييده موقف «الإخوان المسلمين» في مصر، ودعمه حركة «حماس» في قطاع غزة.
ولم تتوقف الحملات الأميركية عند هذا الحد من الاتهامات، إنما تعدتها لتصل إلى فكرة طرد تركيا من عضوية الحلف الأطلسي بسبب دعمها الفاضح لتنظيم «الدولة الإسلامية»، وتوددها إلى بكين بغرض إضافة صواريخ صينية إلى ترسانتها الحربية.
ولم ينسَ الوزير كيري وصف كل هذه المخالفات بأنها خيانة لمبادئ الحلف، علاوة على السعي المتواصل لاضطهاد الأكراد، ومنع الجالية المسلمة في قبرص من ترميم العلاقة مع الجالية المسيحية في الجزيرة.
في هذا السياق، من المهم التذكير بأن رجب طيب أردوغان كان ممنوعاً من ممارسة السياسة، وأن فوزه في الدورة الانتخابية سنة 2002 كان تحت القيادة الموقتة لعبدالله غل. ولما رُفِع الحظر عنه ودخل البرلمان، تولى قيادة «حزب العدالة والتنمية» لمدة 13 سنة. في حين جرى تعيين عبدالله غل وزيراً للخارجية، المنصب الذي احتفظ به إلى أن انتُخِب رئيساً لجمهورية تركيا سنة 2007.
من أجل تحقيق طموحاته السياسية، قرر أردوغان الدخول في عضوية الاتحاد الأوروبي. وكان يهمه أن تفاخر بلاده بالانتماء إلى القارة الأوروبية العجوز من جهة الغرب، في حين تحتفظ بجنوبها وشرقها متداخلين مع حدود سورية والعراق وإيران. لذلك، لقبها المؤرخون بـ «جانوس» إله البدايات عند الإغريق الذي يملك وجهَيْن مطلين على مشهدين مختلفين. من هنا القول أن تركيا جغرافياً أضاعت انتماءها الحقيقي. ولما تحفّظ الغرب عن قبولها في العضوية الأوروبية، كتب منظّر الحزب، أحمد داود أوغلو، كتاباً يؤكد فيه انتماء بلاده إلى جذورها التاريخية المتغلغلة في آسيا والشرق الأوسط. وكان من الطبيعي أن يجد أردوغان في هذا الإخراج العزاء الذي يرضي ناخبيه، خصوصاً أن حصول التحوّل في العلاقات ملأ الخزينة بالأموال وحصّن النظام بالاستقرار الاقتصادي المتين.
والملاحظ أن أردوغان حافظ في غالبية خطبه الشعبية على لازمة مفادها أن أمجاد الإمبراطورية العثمانية سيُعاد إحياؤها بواسطة حزبه. واتخذ من هذا الشعار ذريعة لدعم حركة «الإخوان المسلمين» في مصر وتسهيل الخدمات اللوجيستية والعسكرية لإقامة دولة سنّية لدى جارتيه العراق وسورية.
يبرر أنصار «حزب العدالة والتنمية» تراجع شعبية أردوغان بعوامل داخلية وخارجية عدة، أهمها:
– أولاً: افتقار أحمد داود أوغلو إلى القيادة و «الكاريزما» وكل ما تتطلبه هذه المرحلة الخطرة من قدرة على ترميم زعامة أردوغان المفككة.
– ثانياً: الإقبال الواسع على الاقتراع (أكثر من 86 في المئة) الأمر الذي أربك منظمي انتخابات الحزب الحاكم، وأدى إلى انخفاض عدد نوابه من 327 إلى 253. علماً أن شعبيته ظلت ترتفع خلال الدورات الانتخابية الثلاث الماضية (2002 – 2007 – 2011).
– ثالثاً: قرر الأكراد إحداث نقلة نوعية في الانتخابات بحيث جمعوا المرشحين المستقلين في قائمة موحدة. وقد منحهم هذا التغيير فرصة الحصول على معارضين لأردوغان، من دون أن يكونوا بالضرورة أكراداً. وبالفعل، أكدت لجنة المراقبة أن الكثير من الأتراك صوّتوا للحزب الكردي بغرض منع أردوغان من الحصول على الغالبية المطلوبة في البرلمان.
– رابعاً: اتفاق الأكراد، خلال هذه الدورة، كان عاملاً مؤثراً في حصول «حزب الشعوب الديموقراطي»، بقيادة صلاح الدين دميرطاش، على النسبة المعطِلة لتمرير تعديلات دستورية تجعل من أردوغان «ملكاً» منتخباً مثله مثل رئيس الولايات المتحدة.
ويرى المحللون أن رجب طيب أردوغان قد تجاوز في طموحاته حدود المعقول عندما قفز خلال 13 سنة من رئيس بلدية… إلى رئيس حزب… ثم إلى رئيس يحلم بإعادة عصر السلطنة إلى تركيا.
عقب الإعلان عن نتائج دورة 2011، أرجع المراقبون حصيلة فوز أردوغان الباهر إلى الواقعية التي يتحلى بها. وقالوا أنه في الوقت الذي تواصل اليونان – جارة تركيا وخصمها التاريخي – الغرق في الأزمات الاقتصادية، يسجل الوضع التركي فائضاً في الموازنة. وقد تعاطى مع الهزات السياسية التي أفرزها «الربيع العربي» بواقعية أيضاً، بدليل أنه أيّد معمر القذافي وبشار الأسد في مطلع الانتفاضات. لكنه انقلب عليهما عندما خرجت الجماهير إلى الشارع.
بيد أن هذه الصورة الوردية بدأت تفقد رونقها ولمعانها بعد الانتخابات الأخيرة، خصوصاً أن معدل النمو انخفض من سبعة في المئة إلى ثلاثة في المئة. كذلك فقدت الليرة التركية استقرارها، الأمر الذي سيُبعد المستثمرين العرب والأجانب.
ويرى المراسلون أن الانحدار الذي تشهده تركيا حالياً هو نتيجة طبيعية لتظاهرات الاحتجاج التي أعلنتها الجماهير في «حديقة غازي». وكان المحتجون يرفعون لافتات كُتِب عليها: ليسقط أردوغان الطاغية… المناهِض للديموقراطية… القومي المتطرف… عديم التسامح.
واعتبر الإعلاميون هذه الأوصاف بمثابة دليل جديد لنموذج الحاكم الطامح إلى تقليد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لذلك، أمَر باعتقال الصحافيين المعارضين، والجنرالات المنتقدين أداءه، ومحاكمة الذين يتهمون نجله بلال بالفساد وجمع ثروة خيالية.
لكن الانتقام هذه المرة جاء من الأكراد الذين لم يغفروا له امتناعه عن مساعدتهم ضد «داعش» في سورية ومعارضته قيام كردستان مستقرة وآمنة.
«حزب الشعوب الديموقراطي» قام بنشاط استثنائي كي ينال نسبة الأصوات التي تؤهله لدخول البرلمان الجديد، أي أكثر من عشرة في المئة. ومع أن أساس تأييده جاء من المناطق الكردية، إلا أنه يعدّ للعب دور الأقلية المعطِّلة. علماً أنه حصل على أكثر من عشرين في المئة من أصوات الأتراك المقيمين خارج البلاد. فقد نال نصف أصوات المقترعين في ألمانيا وفرنسا والدنمارك والنروج ومعظم دول الشرق الأوسط بما فيها السعودية وإيران. وهذا دليل على تأثير سياسة هذه الدول في المهاجرين الأتراك. كما أنه دليل على ولادة حزب كردي شعبي لا يؤيد هيمنة الإسلام السياسي على الحكم… ولا القومية «الكمالية» الكلاسيكية.
وفي هذه الحال، يتوقع أردوغان أن تصبح تركيا دولة ثنائية القومية، يتدافع للسيطرة عليها الأتراك والأكراد. كما يتوقع أن البرلمان الجديد سيحدد مسار السياسة الخارجية للسنوات العشر المقبلة.
دول الخليج العربي تراهن على مستقبل مصر كدولة قادرة من حيث حجمها السكاني والجغرافي على تأدية دور تركيا المرشحة للنزاعات الداخلية وعدم الاستقرار. علماً أنها مثلت تجربة ناجحة عبر نضال مدني طويل الأمد… في حين شهدت المنطقة تجربة ثانية في إيران عبر ثورة حملت الإسلام السياسي إلى الحكم، تماماً مثلما حمل حزب «العدالة والتنمية» الإسلام السياسي إلى الحكم أيضاً.
ويدّعي أردوغان أن حزبه استطاع أن يعيد بناء الجمهورية بعد مرور تسعين سنة على تأسيس جمهورية كمال أتاتورك. وقد حقق في مساعيه المتواصلة نجاحاً نسبياً في علاقات بلاده مع الشعوب العربية. لكنه فشل في عملية صهر المكونات الداخلية، خصوصاً مع الأكراد الذي يمثلون 15 في المئة من عدد سكان تركيا (74 مليوناً).
في نهاية المفاجآت التي أحدثتها الانتخابات التركية الأخيرة، يتطلع أردوغان إلى اجتراح حل مرضٍ للمسألة الكردية، شرط أن يتخلى عن أحلامه في إحياء إمبراطورية انتهت سيطرتها سنة 1923.
بقلم: سليم نصار، كاتب وصحافي لبناني | نقلا عن صحيفة الحياة