استطاعت الشعوب التي ثارت على السلطنة العثمانية من تنظيم حركات المقاومة عدا الأرمن بسبب قربهم الشديد من اعدائهم، وتقاسمهم معهم لبعض المدن وتساويهم بالعدد في أماكن معينة، وتفوقهم في أماكن وتفوق عدد السكان من الأتراك في أمكان أخرى، فالذي يثور في ملاطية أو أنقرة أو أستمبول ليس كالذي يثور في مكة المكرمة أو بنغازي أو معان أو القدس، وبالتالي فإن سرعة قمع الثورات تتناسب طرداً مع القرب من العاصمة…وبالتالي فإن حركة المقاومة الأرمنية كانت على أشدها في المنطق المعزولة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فهناك نقطة محبطة وهي ندرة العامل البشري…والعامل البشري في كل ثورة هو الثوار، وشباب الأرمن يخدمون العلم على جبهات القتال وفي المعسكرات وأهلهم لا يعلمون بأنه كانت تتم تصفيتهم كتبة تلو الأخرى، في مخطط دناءة لم تعرف له البشرية مثيلاً لا من قبل ولا من بعد حيث لا توجد سلطنة ولا مملكة ولا دولة على وجه الأرض تقتل جنودها استناداً لتهمة غير مثبته لم يرتكبها القتيل ولم يسمع بها من قبل، لا هو ولا أهله.
هذا من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة، جرائم الجينوسيد تبدأ دائماً بإعدام الزعماء، وقد فعل الأتراك ذلك باقتدار عجيب وبإعجاز، فلقد وقع الاختيار على 600 سياسي ورئيس حزب وقيادي وطبيب ومثقف وعضو برلمان وشاعر ومؤرخ ومحامي ومهندس وموسيقي ورجل دين وتم قتلهم جميعاً بعد النفي في سائر جهات الأناضول، ويقصد بالنفي طرد المرشح للقتل إلى خارج مدينته بمرافقة الدرك وعند الوصول إلى القفر يتم اطلاق النار على جمجمته ورميه في الطريق، فكريكور زوهراب عضو مجلس المبعوثان كان يعتبر الصديق الحميم لطلعت باشا تم اعتقاله من بيته بعد لعبة نرد بينه وبين طلعت باشا ولا بد ان طلعت باشا كان قد أصدر أمراً مسبق قبل الزيارة بإعتقال النائب كريكور زوهراب بعد العشاء وبعد انتهاء لعبة النرد وبعد خروجه من دار ضيفه، وهذا أمر عجيب لا تفعله أكثر المخلوقات غدراً وعقوقاً على وجه البسيطة.
لقد تم اعتقال كريكور زوهراب وفارتكيس وتم خفرهما حتى ولاية حلب وكانت للقصة بقية ولا بد انها متابعة الترحيل ورحلة النفي ومن ثم القتل على الطريق…ولكن كريكور زوهراب حاول العودة إلى استمبول ومعه النائب فارتكيس لبذل المحاولة الأخيرة في ثني الأتراك عن تنفيذ الابادة، وكانت العودة المفاجئة قد اربكت الدرك وتبعوه بعد حصولهم على الاوامر الجديدة، وأنزلوه من العربة وسحقوا رأسه هرساً هو وفارتكيس بإستعمال حجارة كبيرة.
وفي ظل غياب الاعلام والتصوير وفي ظل التعتيم، فلقد عُرفت الحقيقة ولكن بشكل متأخر، فلقد بذل كريكور زوهراب محاولات عديدة لاستعادة تأييد اليساريين الاكراد أو لجعلهم على الأقل يقفون على الحياد دون فائدة وقد علم متأخراً بأن الاكراد أقدموا على خيانة الأرمن وسلموا لوائح بأسماء الثوار وجامعي التبرعات والتجار الذين قدموا السلاح…وقام كريكور زوهراب بتنبيه الاكراد إلى عواقب الخيانة وإلى أن العاقبة ستأتي على الاكراد ليذوقوا بدورهم ما أذاقوه للأرمن ولكن على يد الأتراك…وذهبت نصائح كريكور زوهراب أدراج الرياح…ووصل نبأ مفاده ان كريكور زوهراب تم شنقه مع رفيق دربه فارتكيس ليتبين وبعد فترة أن دركي تركي وبالتعاون مع آخرين وبأوامر سرية للغاية سحق رأس كريكور زوهراب وصديقه فارتكيس بإستخدام الحجارة الضخمة، وكان هذا الأمر سيبقى سراً لولا أن الدركي هذا تعرض لحادث أو مرِضَ مرضُ الموت فأسرّ وهو على فراش الموت لممرضة يعتقد انها من أصول أرمنية أو مختلطة (تركية من أم أرمنية) بالحقيقة وقال لها: ان الله ينتقم مني لكريكور زوهراب وفارتكيس فبيداي الآثمتين هاتين سحقت رأس كريكور وفارتكيس بإستخدام حجر كبير، ولا تزال عينا كريكور زوهراب العاتبتين ترافقاني في نومي وفي قيامي ليل نهار، وأدت هذه الشهادة إلى تبديل المعلومة التي تقول ان كريكور زوهراب أعدم شنقاً، فلقد أعدم ولكن بطريقة أشد وحشية، أعدم هو وصديقه فارتكيس هرساً بسحق رؤوسهم بالحجارة، وكانت هذه الاعدامات قد جرت على عجل وبشكل مفاجئ لدرجة أن الأرمن لم يتوقعوها ولم يصدقوها.
هذا ما جرى في ارمينيا الغربية أما في ارمينيا الشرقية فلقد كان الامر مختلف تماماً فعلى الرغم من أن أرمن الشرق لم يستطيعوا في البدايات تقديم يد العون لأخوتهم الذين كانوا يذبحون في الغرب فلقد تغير الحال ولكن في وقت متأخر جداً جداً وهو الوقت الذي انهى فيه الأتراك احتفالاتهم بإنجاز اول مجزرة تطهير عرقي مروعة في بدايات القرن العشرين، وعندما كان طلعت باشا يتدرج مع السفير الاميركي هنري مورغنتاو ويقول له مفتخراً لقد انجزت عملياً وببضعة شهور ما عجز السلطان عبد الحميد عن انجازه طيلة ثلاثون سنة!
لقد ادرك أرمن ارمينيا الشرقية الواقعين تحت الاحتلال الروسي…ادركوا أن النار ستمتد إلى ارمينيا الشرقية لتحقيق الحلم الطوراني بإزاحة الحاجز الذي يعيق تحقيق هذا الحلم، فتنادوا وجمعوا 180 ألف جندي متطوع من ارمن ارمينيا الحالية ومن جموع الهاربين من ارمينيا الغربية ومن ارمن جورجيا وارمن ناغورنو غاراباخ وارمن اذربيجان وشكلوا فرقاً عرفت بالوحدات الاربع وسلحوها بما تيسر من السلاح الخفيف وبما رشح من الروس من سلاح المدفعية الخفيفة، وتركت الخيول للقادة أما البقية فكانوا من المشاة وأعتمدوا جميعاً حرب العصابات.
والامر الذي لم يكن بالحسبان كان تراجع الروس عن جبهات القتال القوقازية بعد نجاح ثورة أكتوبر الشيوعية الاشتراكية في العام 1917 على الرغم من الهزيمة الماحقة التي لحقت بالأتراك وعلى الرغم من النصر المؤكد الذي رفع هامات القادة الروس ومعهم القادة الأرمن، هذا الانسحاب المروع أدى إلى بعثرة التحالف القائم ما بين أقاليم ما وراء القوقاز الروسية (أرمينيا الشرقية وأذربيجان وجورجيا) الذي فرض واقع جديد وهو الاستقلال المهزوز لهذه الكيانات الثلاثة والمتحدة اسمياً بواسطة برلمان غير فاعل دعي بالسيم، وتفاوض هذا البرلمان مع الأتراك بلا نتيجة لأن الأترك عرفوا أن هناك من دعمهم بالاتفاق المسبق وأحرق المراحل ليفرضوا شروطهم، وجاء الأتراك ليتصلبوا أكثر في شروطهم بعد معاهدة بريست ليتوفسك مع روسيا الشيوعية التي استقر لها الامر في روسيا بعد قتل القيصر وانتهاء الحقبة القيصرية بإبادة كل اسرة رومانوف في حفل قتل متفرد.
واستغل الأتراك الضوء الأخضر (وأصحاب الضوء الأخضر بتقديري هم الطبقة الثرية من حكام العالم الماسون ومعظمهم من غلاة المتعصبين الصهاينة الذين اشعلوا الثورة في روسيا لتأديب القيصر ومعه كل آل رومانوف وأجبروه على ترك كل شيء والعودة لروسيا لعله يستطيع المحافظة على عرش آل رومانوف بدون فائدة، وهم أيضاً من خططوا لبسمارك ألمانيا ومولوه لفتح السوق الاقتصادي الاستهلاكي في الشرق لجعل الشعوب الشرقية سوق استهلاكية لماكينة الانتاج الالمانية التي مولوها برؤوس أموالهم وأفقروها بسحب رؤوس الاموال هذه، ومولوا الجيش الالماني بذهبهم وكسروا الجيش الالماني بسحبهم لهذا الذهب، وهنا يكمن السرّ في نقمة هتلر وانتقامه المروع من اليهود هذا الانتقام العنصري البغيض الذي لم يحسب الحساب لملايين الأبرياء من اليهود الذين لا ناقة لهم بالذي حدث ولا جمل) واستغل الأتراك الضوء الأخضر استغلوا تعثر المفاوضات فواصلوا التقدم فواجههم فيلق ارمني جورجي أذري وأوقفهم ومع ذلك فلقد تخلى السايم وبإيعاز من اصحاب الضوء الأخضر عن قارص وأرداهان وباطوم لتركيا على الرغم من أن فاتورة تحرير هذه الاقضية كلفت الألوف المؤلفة من الشهداء ومع ذلك فلقد رفض التراك التوقف طمعاً بإستكمال ما بدؤوه في العام 1915 حتى ازالة الأرمن الشرقيين من الوجود وتحقيق الوحدة مع أذربيجان.
مع تواصل زحف الجيش التركي في العام 1917 نحو الشرق، وجد أرمن القوقاز أنفسهم وجهاً لوجه مع قتلة إخوانهم في ارمينيا الغربية، وادركوا انه قد تم الحكم عليهم وبشكل مسبق ان يلاقوا نفس المصير، وكان نداء الثأر وهو ما يطلق عليه بالأرمنية فريج ( Mer Vereje Hasnink ) ومعنى العبارة ان نحصل على ثأرنا…عن طريق الحكمة الآتية (لا يُدفع الموت إلا بركوبه) فركب أرمن الشرق الموت فكتبت لهم الحياة.
كانت وقفة رجل واحد وكانت صيحة ثأر واحدة “فريج” وكانت وحدة في المصير، ووحدة في الامل ، على الرغم من المجاعة والفقر والعوز، وعلى الرغم من تفشي الأوبئة، وعلى الرغم من وصول أربعمائة ألف من المبعدين المعوزين المرضى وأصحاب العاهات الجرحى من ارمينيا الغربية وعلى الرغم من غدر اوروبا كلها فرنسا وبريطانيا وألمانيا وايطاليا وروسيا وجورجيا وأذربيجان، أطلق آرام مانوكيان، أحد زعماء حزب الطاشناق، شعار (الكل إلى الجبهة) وتم اعلان التعبئة العامة التي شملت كل الأرمن الذين على قيد الحياة من الطفل الرضيع إلى الكهل المسن إلى الصبية والتلاميذ والاولاد والنساء والجرحى ومشوهوا الحرب واصحاب العاهات والمرضى ونظمت المقاومة المدنية وكثرت الاعمال الانتحارية وركوب صهوة الموت، وجرى التأمين الذاتي للتموين والاستشفاء والادوية والاسلحة في شيء يشبه المعجزة ودون أدنى مساعدة خارجية من أحد، ودارت في شهري نيسان وأيار من العام 1918 معارك خيالية لا يقبل بها أقل العسكريين خبرة لأنها ضروب من الانتحار المطلق، ولكنها كانت الحل الأوحد لشعب أراد البقاء فاتحد تحت قيادة آرام مانوكيان، الذي انتخب كحاكم وكقائد عام إثر استفتاء سريع مما مكن من انضواء خيرة الضباط والفدائيين الأرمن تحت قيادته فتوحد الصف وتوحد الهدف وتوحد المصير.
فخاض الأرمن معارك حاسمة في سارداراباد وغاراكيليسيه ـ اباران في أواخر أيار من العام 1918 مني خلالها الجيش التركي بهزائم مروعة لأنه لم يعد يجد الوقت للراحة ولا للنوم ولا لتناول الطعام، فكانت غارات الفدائيين مروعة وتصيب في مقتل فلقد قرر الأرمن ركوب صهوة الموت فهرب الموت منهم جزعاً ووجلاً…كان الشعب الأرمني يحارب منفرداً ويشعر انه معزولاً سياسياً ولا يعينه أحد، وبالمقابل فلم يكن يعنيه أحد إلا النصر، إذ أعلن الجيورجيون في 26 أيار من العام 1918 عن سياسة النأي بالنفس واعلنوا الاستقلال ودعمتهم ألمانيا بالمال والسلاح فغدروا بالأرمن وضربوا على نهج الروس وتركوا الأرمن في الجبهة وحيدين، وحذا الاذريين حذوهم على الرغم من ان مشاركاتهم من قبل كانت خجولة ولا يعوّل عليها خاصة وان الأتراك داعبوا خيال الاذريين بقصص الوحدة والمجد الطوراني الذي لا يزول وانصهار الشعوب التركية كلها في بوتقة واحدة، ومع ذلك فلقد فعل ركوب صهوة الموت بالأرمن فعله، وتوالت الانتصارات على الجبهة وانهار الجيش التركي عملياً ووصل إلى موقع لا يحسد عليه، فلقد كانت القناعة التي رسخت في قلب كل جندي تركي انه مقتول اليوم أو غداً لا محالة، وأعلن المجلس الوطني الأرمني أرمينيا كجمهورية مستقلة بتاريخ 28 أيار 1918 وسارعت تركيا بإبرام معاهدة سلام مع ارمينيا بتاريخ 4 حزيران 1918 لإيقاف القتال، واعترفت تركيا وفي خطوة هستيرية بإستقلال أرمينيا قبل كل دول العالم.
وعلى الرغم من ضياع القسم الاعظم من الشعب الأرمني بدءاً من العام 1894 مروراً بالإبادة الكبرى في العام 1915 ولغاية حروب الاستقلال التي انتهت بتاريخ 4 حزيران من العام 1918 فلقد نجح الشعب الأرمني في مواجهة الدول العظمى كلها وحارب خططها ودحر الجيش الذي يمثلها هذا الجيش الحائز على الضوء الأخضر، ودحر خطط اسياد العالم من الماسون الذين ملكوا الارض بما عليها، هؤلاء الذين قضوا على القيصرية واشعلوا الثورة البلشفية ودعموا بسمارك وقضوا عليه وعلى امبراطوريته في خطوة لاحقة وتركوا المارك الالماني على ارصفة برلين يدوسه المشاة بأقدامهم المتعبة ونعالهم المهترئة، فكانت النتيجة الحتمية لركوب صهوة الموت من قبل الأرمن، الحياة والانبعاث من جديد، وهو ما يرمز اليه بالحرف اللاتيني ***Z*** الشعب الأرمني الذي اتحد وتكتل تحت قيادة فذة حققت بحكمتها وصمودها استقلال دولة.
هذا النصر لم يكن نصر جيوش جرارة بل كان نصر يتامى كلف الكثير من الارواح والدماء، نصر يتامى ونصر شيوخ ونساء وأطفال جياع ومرضى حاربوا حتى الموت في ساحات القتال إلى جانب من بقي من شبابهم، فهزموا جيشاً دك أسوار من الشرق إلى الغرب في عمل لا يمكن ان يقال عنه بأنه يشبه المعجزة لأنه هو بعينه المعجزة بالذات.
وهكذا فلقد تم رفع علم ارمينيا المثلث الالوان في ساحات الوغى التي تحولت إلى ساحات النصر والاستقلال بهمة كل الشعب الارمني على مختلف طوائفه واحزابه من طاشناك وهنتشاك ورامغافار وشيوعيين… وآخرين لم يفرق العدو بين أحد منهم ووضع رقابهم فوق رقاب بعض وذبحهم بسيف واحد…. تم رفع علم ارمينيا المثلث الالوان بهمة كل الشعب الارمني وحركاته السياسية كلها التي توحدت في ركوب صهوة الموت فأعطت نتيجة مشرفة، لقد تم رفع علم ارمينيا المثلث الالوان في ساحات المعجزات، تم رفع علم ارمينيا المثلث الالوان في كل مكان وفوق كل قطعة من الارض رواها جموع والوانه من الاعلى إلى الاسفل الأحمر ويرمز إلى بحور دماء الشهداء من الطاشناك والهنتشاك والرامغافار والتشيدزوك والشيوعيون والليبيراليون والعلمانيون وآخرون الذين بذلوا ارواحم رخيصة من اجل بقاء الاصل والمجد والوطن والأمة، فالازرق ويرمز إلى سماء وبحر ارمينيا، والبرتقالي ويرمز إلى الارض وخيرات الارض والشعب المعطاء المنتج لثمرات الخير من تراب هذه الارض…وللحديث صلة ولا بد من ان تكون لمراحل الحوادث الجثام العظام من تتمات وبقية.
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني.
دمشق 21 05 2013