“أيد هيرتزل قسوة السلطان العثماني بحق الأرمن، طمعا في أن يعطيه عبد الحميد الثاني فلسطين”
تشابكت المسألة الأرمنية مع الحركة الصهيونية منذ عملية الإبادة الأولى التي ارتكبتها السلطنة العثمانية بحق الأرمن في منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وقد حدث ذلك قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول. كانت فكرة هيرتزل تتأسس على المنفعة المتبادلة، “يدفع اليهود كافة ديون السلطنة العثمانية مقابل إعطائهم فلسطين” وتأسيس دولة يهودية فيها وبإجماع القوى العالمية الرئيسة آنذاك. لقد بذل هيرتز أقصى جهده في إقناع السلطان عبد الحميد الثاني بقبول المقترح، لكن دون جدوى.
وبدلا من عرض المال على السلطان، اقترح ممثل هيرتزل الدبلوماسي (ميخائيل نفيلنسكي) أن يسعى هيرتزل إلى إظهار تأييد للسياسة السلطانية في أرمينيا، حيث توقع أن يلقى الشكر وقبول الاقتراح حتى لو كان قبولا جزئيا. فقد انتقد الأوروبيون المسيحيون سياسة وأفعال الأتراك في أرمينيا وبالتالي فإن موقفا من هيرتزل بتأييد السياسة التركية سوف يفك عزلة عن السلطان، فقد تشكلت في أكثر من دولة أوروبية جمعيات متضامنة مع الأرمن، كما عرضت دول أوروبية على قادة الأرمن اللجوء اليها، الأمر الذي جعل من الصعب على تركيا الحصول على قروض من البنوك الأوروبية.
أخذ هيرتزل بالنصيحة من تلميذه، فمن الضروري “الاستفادة من كل تجربة ممكنة” لأجل الشروع في تأسيس الدولة اليهودية. هنا بدأ هيرتزل العمل كأداة للسلطان من خلال سعي لدى قادة الارمن بالاستسلام للسلطان مقابل تحقيق بعض مطالبهم.
كما حاول هيرتزل أن يبين للغرب أن تركيا تهتم بالمواقف الإنسانية، لكنها لا تملك خيارا في التعامل مع “التمرد الأرمني” إلا بالطريقة التي تسلكها في ذلك الوقت. وبالتالي حاول هيرتزل دفع الأوروبيين للضغط على الأرمن لوقف إطلاق النار ووضع ترتيبات سياسية ، الأمر الذي دفع السلطان عبد الحميد الثاني لمقابلته في 17/5/1901.
أمل السلطان في صحفي أوروبي مثل هيرتزل أن يقوم بتغيير الصورة السلبية عن السلطنة العثمانية في أوروبا، وطلب منه ذلك، فشرع هيرتزل في حملة مكثفة لتلبية رغبة السلطان معرفا نفسه كوسيط سلام، وقد بنى علاقات وعقد لقاءات سرية مع قادة الثورة الأرمنية في محاولة لوقف العنف، لكنهم لم يثقوا به ولا بوعود عبد الحميد الثاني.
لم يستشر هيرتزل كعادته، قادة الحركة الصهيونية في نشاطه، وحافظ على سريتها، وحينما حاول أن يعين “ماكس نورداو” مساعدا له، حيث راسله بذلك، رد عليه نورداو ببرقية من حرفين “لا”. لكنه وتحت ضغط الرغبة في الوصول إلى طريق سلس لبناء دولة اليهود عبر تعهد من السلطان، جاهر هيرتزل وبعد المؤتمر الصهيوني السنوي باعجابه بسياسة السلطان كما ثمن جهوده، برغم معارضة بعض المندوبين في المؤتمر.
كان المعارض الرئيس لهيرتزل في ذلك صحفي وناقد أدبي يهودي فرنسي مثقف ويساري، هو بيرنارد لازاري، الذي تبنى الدفاع عن والوقوف ضد محاكمة الجندي (دريفوس)، فقد أبدى عدم إعجابه بنشاط هيرتزل في المشكلة الأرمنية، وقدم استقالته من المنظمة الصهيونية ليتنازل بعدها عن الفكر الصهيوني.
كتب لازاري رسالة مفتوحة إلى هيرتزل يسأله فيها ” كيف يجرؤ أولئك الذين كتب تاريخهم بالدم ويدعون تمثيل شعب قديم على تأييد المجازر والقتلة الذين يرتكبونها؟ ولماذا لا يجرؤ أحد في المؤتمر الصهيوني على الاحتجاج على هذا السلوك؟؟
هذه الدراما جعلت من هيرتزل قائدا طوح بالاعتبارات الإنسانية لخدمة السلطنة التي طمح بهديتها وهي دولة اليهود، لقد عبر سلوكه هذا عن الصدام المتكرر بين القيم الإنسانية الأخلاقية والأهداف السياسية الواقعية، وقد ورثت إسرائيل بعدها هذه القيم حيث واجهت بشكل مستمر الصراع بين السياسة والأخلاق وغالبا ما تغلبت السياسة الواقعية، إنها معضلة إسرائيل الآن بدليل عدم اعترافها حتى الآن بمجازر الأرمن.
نقلا عن صحيفة هآرتس الإسرائيلية | ترجمة: جبريل محمد، لصحيفة الوطن