ضاق البريطانيون، محتلو العراق في أوائل عشرينيات القرن الماضي، بالمئات الثمانية أو أزيد من الأطفال الأرمن اليتامى الذين كانوا جزءا من جيل كبير ممن فقدوا آباءهم وأمهاتهم خلال سنوات التهجير القسري قبيل وبعد سنة 1915. للتخلص من أولئك الأيتام قررت الإدارة البريطانية نقلهم إلى القدس وتركهم يواجهون مصيرهم مع مسيحيي الأرض المقدسة.
لا نعرف بماذا فكر من اتخذ القرار آنذاك، وهل كانت الوجهة الفلسطينية والمقدسية مرتبطة بفرضية اعتناء مسيحيي القدس بإخوانهم القادمين من المجهول أو فم الموت، أم ماذا.
على كل حال ذلك ما حدث، إذ فتح دير مار يعقوب أبوابه للأيتام الذين فرضت عليهم الأقدار أن ينفوا من وطنهم الأصلي، ثم يلفظوا من مكان لآخر. فلسطين والقدس احتضنتهم على تراتيل القيامة، وأنامتهم على صدر الصليب.
أيتام الأرمن الذين وصلوا العراق كانوا واحدة من النتائج الفظيعة لتلك الإبادة التي تعرض لها أهلهم في تلك السنوات، وفي الهزيع الأخير من عمر الامبراطورية العثمانية المتهاوية.
آنذاك قتل الأتراك مئات الألوف من الأرمن ونفوا مئات ألوف آخرين ورموا بهم في صحارى الأناضول وصحارى العراق وسورية، بأمل أن يفنوا تحت الشمس ويقضي عليهم الجوع والعطش. شهدت تلك الصحارى قصصا مريعة عن عشرات الألوف ممن التهمهم القيظ وضراوة البيداء الممتدة بلا نهاية. المحظوظون من أولئك المهجرين وصلوا شبه أحياء إلى المدن والقرى والأمصار السورية والعراقية، وبعضهم جنوبا إلى لبنان وفلسطين. خلال هذه الأوديسة توزع أيتام الأرمن في كل الاتجاهات، وكان لفلسطين منهم نصيب. عائلات أخرى أرمنية كانت قد سبقت «ترحيل الأيتام» إلى القدس، واتخذت لها مساكن بسيطة في هوامش الحي الأرمني الشهير في قلب القدس القديمة.
بيد أن أرمن القدس كانوا هناك منذ القرن الرابع الميلادي، سكنوا المدينة المقدسة، وامتدت حارتهم لتحتل سدس المدينة القديمة، وكأنهم كانوا يستعدون ليوم قادم سوف يأتي فيه إخوة لهم مثخنون بكارثة الفقدان وهاربون من مجازر الموت. جاء الأرمن الجدد وأحسوا بدفء المدينة ودفء الحضن المقدسي. إخوانهم أرمن الحارة الشهيرة كانوا قد صاروا جزءاً من جغرافيا المدينة وتاريخها وثقافتها، كانوا قد سبقوا الجميع في تشغيل واحدة من أولى المطابع في فلسطين سنة 1848. كان أرمن القدس، وعلى قلة عددهم، فئة نابضة في شرايين المدينة: تصدروا الصناعات الزخرفية والنحاسية، وبرعوا في الخياطة وصياغة المجوهرات، ثم كانوا الرواد في التصوير في فلسطين كلها، كما في كل بلاد الشام.
أرمن فلسطين يتجاوزن في عددهم وتوزيعهم أرمن القدس، رغم أن غالبيتهم قطن مدينة القيامة بسبب أهميتها الدينية، إذ سكنوا شمال فلسطين وخاصة في الناصرة وعكا، وسكنوا مدنا أخرى مثل بيت لحم وغزة. وبحسب إحصاء نظمته الإدارة العثمانية العام 1893 كان في القدس 847 أرمنيا (أي قبل وصول بعض العائلات الناجية من الإبادة سنة 1915). وكان يسكن مدينة يافا في نفس سنة الإحصاء تلك 92 أرمنيا. قبل النكبة بثلاث سنوات، أي في العام 1945 كان في القدس وحدها ما يزيد على خمسة آلاف أرمني، لكن هذا العدد ظل يتراجع بعد النكبة ثم الاحتلال الإسرائيلي الكامل لمدينة القدس سنة 1967 وما بعدها.
كنيسة ومكتبة ومتحف مار يعقوب تمثل المعالم الأشهر للوجود الأرمني في القدس، وفيها كنوز من تاريخ المسيحية في المنطقة، وكلها قامت حول كنيسة القديس يعقوب والتي يعود تاريخ تأسيسها إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وتقع في قلب حارة الأرمن. لعبت هذه الكنيسة دورا تاريخيا في ربط الأرمن في كل مكان (وخاصة من موطنهم الأصلي أرمينيا) بالقدس. بعد دخول المسلمين القدس منح مسيحيوها الأمان من قبل الخليفة عمر بن الخطاب، وهو أمان ظل يتجدد من عهد إلى عهد، وأحد تمثلاته ممهور على نقش حجري في مدخل الكنيسة، يعود إلى السلطان المملوكي الظاهر اب سعيد محمد، يقول فيه: «ملعون ابن ملعون وعليه لعنة الله تعالى من أحدث ضمانا أو جدد مظلمة». ولا يقل الدور والمكانة التي تحتلها المكتبة الملحقة بالدير عن أهمية الدير نفسه، إذ تعتبر ثاني أكبر مكتبة مخطوطات أرمنية أصلية في العالم.
لعبت بطركية الأرمن وأهلها دوراً وطنيا بارزاً في الحفاظ على العقارات الأرمنية وصيانتها، وكذا في حماية وصيانة كنيسة القيامة بحسب نظام الحماية والرعاية المتفق عليه مع اللاتين والأرثوذكس. وكانت البطركية الأرمنية قد وقفت ومع بقية كنائس القدس بصلابة بارزة ضد قرار التقسيم العام 1947، وأصرت جميعها على عروبة فلسطين، وبقائها تحت السيطرة العربية. وفي أوائل الانتفاضة الأولى قدم الأرمن واحدا من أوائل الشهداء، هاروت كولزيان. تقول واحدة من الأساطير الأرمنية الجميلة إن مسافة الكيلومترات الثلاثة لم تكن لتثني الفتى الأرمني العاشق عن قطع المساحة من الساحل الشرقي لتركيا كي يسبح ويلتقي تامار حبيبته الأميرة في تلك الجزيرة الصغيرة في عرض البحر. كل ليلة من الليالي، صيفا أو شتاء، وكما تقول الأسطورة، تشهد كيف يلقي الشاب المتيم بجسده القوي في المياه السوداء ويسبح نحو الجزيرة، بكل عنفوان المُحب.
كانت تامار العاشقة تحمل ضوءا لحبيبها كي يهتدي به أثناء سباحته ويصل إليها. المعشوقة العاشقة كانت أميرة والعاشق المعشوق كان من عامة الناس، لذا لما علم أبوها بالحكاية وتفاصيلها غضب واتخذ قرارا مهولا. في إحدى الليالي والعاشق يرمي نفسه في البحر باتجاه الحبيبة يذهب الأب إلى ابنته ويهشم النور المنبعث من يديها وقلبها، فيفقد العاشق دليل الوصول إليها. يضيع في البحر الأسود فاقد الاتجاه، ثم تخونه قواه ويغرق، عندما عثر الناس على جثته ملقاة على الشاطئ في صباح اليوم التالي وجدوا شفاهه مضمومة على كلمتين «أخ تامار»، وهو يعني بالارمنية «آه يا تامار». من يومها أطلق الناس والتاريخ اسم «اختامار» على الجزيرة وصارت تعرف بذلك دوما (Aghtamar او Akhtamar).
بيد أن الجزيرة صارت من أملاك الامبراطورية العثمانية وانضمت إلى بقية الآهات الأرمنية من يومها وحتى الآن.
في الهزيع الأخير من عمر الامبراطورية وبزوغ الطورانية المتطرفة ومشروعها في «التتريك» غير الأتراك اسم الجزيرة وصار يعرف بـ «Akdamar» أو «العصب الأبيض». لن تهدأ روح تامار ولا عشيقها الأسطوري الرهيف إلا إذا تحولت «الآه» الأرمنية التي تحملها القصة الجميلة إلى أغنية فرحة بالمستقبل، وتنتصب على أرض الإقرار بمذابح القتل والتهجير التي تعرض لها آباء وأجداد الفتى العاشق وفتاته التي انكسر قلبها، وعاد اسم الجزيرة الذي خلداه إلى ما كان عليه. في القدس أمن الأرمن على أرواحهم، ولعل روح تامار وحبيبها تأخذ قسطا من الراحة والأمان.
بقلم: د. خالد الحروب | نقلا عن صحيفة الايام