منذ اثنان وثلاثون سنة وفي شهر ابريل نيسان كنت في سيارة صديق لي أراد ان يوصلني الى بيتي في العباسيين بعد تمارين الاحتفال بذكرى مجازر الارمن، وكان جهاز الراديو في سيارته يذيع موسيقى جنائزية من اذاعة العدو فسألته: ما هذه الموسيقى فقال: فرقة الفيلهارموني العائدة لهم تعزف موسيقى جنائزية بمناسبة ذكرى الابادة والمحارق اليهودية، قلت: وهل يحتفلون مثلنا في نيسان فقال: محض مصادفة.
وكنت مشبعاً بالفكر الآخر وقلت محارقهم كذبة كبيرة هي حجّتهم في استجداء المال وتعمقت في هذه القضية لأكتشف بأن هناك تجنّي من الفكر الآخر على قضيتهم، ولا يكمن الانكار بأنهم يمارسون نفس المحرقة التي مارسها الألمان ضدهم يمارسونها على الشعب الفلسطيني ولكن وللحقيقة فإن محرقتهم مروعة.
وتمرّ في هذه الأيام ذكرى ابادة 6 ملايين يهودي في افران الرايخناو في بولندا … وينتابني الحزن على هؤلاء خاصة وان الألمان تمرسوا على الابادة بالارمن تحريضاً وتنفيذاً في الحرب الاولى وتابعوا بابادة اليهود وقال هتلر محرضاً ضباطه على التصعيد في اقتراف المذابح وابادة اليهود وتذكيرهم بأنهم لن يكونوا تحت طائلة المسائلة… حيث قال في خطاب من خطبه النارية (من يتحدث اليوم عن ابادة الارمن)
في العام 1918 وعلى الرغم من التضحيات الجسام في غالي بولي وتشانا قلعة والمجندون الارمن على الخطوط الأمامية وقد قتل منهم الكثير ان لم يكن الجميع.
كانت جيوش فرنسا وبريطانيا تجوب شوارع اسطمبول بأحذيتها الثقيلة، فلقد ربح اليهود الصهاينة والمحافل الماسونية، وتم تمزيق الإمبراطورية وإسقاطها وإقتسام أراضيها.
وسقطت برلين وكان آدولف هتلر رقيباً في جيوش بسمارك، وكان يعرف تماماً الدور الذي لعبه اليهود لوصول ألمانيا العظمى إلى ما وصلت إليه من الانكسار بفضل الذهب اليهودي وبفضل المصارف اليهودية والسندات والأوراق المالية واللعبة المالية الكبرى ، واقسم على رد الإهانة، وفعل ذلك عندما وصل إلى الرايخستاغ… وزحفت جيوشه كالصاعقة فضربت بولندا ثم ضربت الغرب فدخل بلجيكا ثم فرنسا واستعرض جنرالاته كتائب جيوشهم تحت قوس النصر في باريس، وجرّ الفرنسيين في مذلة إلى عربة الترام ليوقعوا على وثيقة استسلام فرنسا الغير مشروط، ثم توجه إلى الشرق وحارب روسيا وروعها ووصل إلى أسوار موسكو وصار يداعب أجراس الكريملن بقذائف المدفعية.
وفي آوشفيتس برغناو بنى ثكنة هائلة حوت أفران الغاز والمحارق وسورت بسور مروع من الأسلاك الشائكة المكهربة، وزودت برصيف خارق وطويل للغاية دعي بالراميا ومحطة قطار امتدت قضبانها المعدنية إلى أقاصي أراضي الرايخ وبدأت القطارات ترجع بحمولاتها ونجمة داوود على صدور الضحايا وأغلبهم من النساء والأطفال، ويتم الفرز في آوشفيتس فقسم يذهب إلى كتائب السخرة وقسم يذهب إلى الحمامات ليتضح فيما بعد أنها خزانات غاز حيث يتم إقفال الأبواب على الضحايا ويمرر غاز سام تمت تجربته على الجنود الروس فتعلوا الأصوات ثم تخمد وتحمل الجثث إلى المحارق ليتم ذر الرماد في مستنقعات مجاورة، والمحرقة هي المرحلة النهائية لصناعة حربية متكاملة بامتياز تبدأها طائرات المسر شميت ثم الطائرات القاذفة، ثم أفراد كتائب ال إس إس بمدافعهم الرشاشة ومن خلفهم دبابات البانزر التي كانت تتكفل بحصد البشر والحجر، وتأتي قاذفات اللهب بخراطيمها المتصلة بالسيارات أو بخزاناتها المحمولة على أكتاف الجنود لتحيل الأرض إلى سعير، وتم باستعمال هذه الطريقة المتكاملة إبادة اثنان وعشرون مليون مواطن سوفياتي، وهو أعلى رقم خسائر لدولة شاركت في الحرب الكونية الثانية، وتم أيضاً إبادة معظم يهود أوروبا ويهود أوروبا الشرقية وخصوصاً يهود بولونيا والمجر وروسيا وبلغ عددهم الإجمالي ستة ملايين.
وكان هذا الحقد المروع عصيّ على الفهم، حيث لا تزر وازرة وزر أخرى فما هو ذنب الشعب العادي في لعبة الكبار، وما هو ذنب النساء والأطفال والشيوخ وحتى الشباب والرجال من خارج اللعبة، الذين اقتيدوا إلى المحارق دون أن تكون لديهم أدنى فكرة عن السبب ؟ وهذا يطرح ألف علامة استفهام وألف سؤال… فما هي أسباب كل هذا القتل والترويع. وبأي حق تتم إدانة الجميع ويحكم عليهم بالموت؟
في بداية القرن العشرين حدثت مجازر الارمن ولم يتم الاقتصاص من القتلة، فلقد كان العالم منتشياً بانتهاء الحرب العالمية الاولى، وربح هؤلاء الذين اجتاحوا وطننا وسلبوا ارضنا وزرعنا وضرعنا وسهولنا وجبالنا وارزاقنا ومحاصيلنا واشجارنا ومياهنا ومدارسنا وحقولنا وأديرتنا وكنائسنا وأسواقنا ومحلاتنا ونوادينا وبيّاراتنا وكروم العنب وأشجار المشمش، قتلو فرحنا ونحن نمجد اسم الخالق ونتعبده، قتلوا شبابنا ورجالنا في النفير العام وخدمة الوطن المهدد بالضياع، وكان الوطن مهدداً بالضياع بسبب مجونهم وخيانتهم لهذا الوطن، وليس لسبب آخر.
قتلوا 75% من مواطنيهم الارمن وقتلوا من بقي في البيوت من الشيوخ والنساء والأطفال، قتلوا رب البيت في الحرب والعوائل التي تعود الى رب البيت أمانة في رقبة السلطنة وكانت رقبة السلطنة قذرة، وهي اشد قذارة اليوم.
قالوا ان شرف نساء السلطنة من شرف السلطان وأولوا الأمر، فلم يتركوا شرف الا ولطّخوه ولم يتركوا عاراً إلا وارتكبوه.
قتلوا الشيوخ وضحكات الأطفال وسرقوا المصاغ وذهب النساء وعفافهن، سبوا الجميلات وسرقوا الصغار وبدّلوا أسمائهم وديانتهم، قتلوا الانسان، وقتلوا الروح والجسد.
ذهب المال الحرام الى الورثة وورثة اليوم يتقلّبون في النعم وينعمون بها وأصحابها يكابدون الأمر ويتابعون النزوح.
لا بد من قول كلمة الحق ومتابعة المسير…بقي ستة ايام على ذكرى المئوية الاولى للابادة الجماعية الارمنية التي كانت اول مجزرة تهدف الى التطهير العرقي لشعب مسالم هو الشعب الارمني بعد احتلال اراضيه واسقاط ممالكه وحقه في الحياة، وهذا يترافق مع ذكرى ابادة ستة ملايين يهودي من الناس البسطاء الذين لم يعرفوا سبب قتلهم، وبالتالي فإن الابادتين لطخة عار على جبين الانسانية، وابدي استنكاري الشديد للمجزرتين واتعاطف مع ذوو الضحايا أو من بقي منهم أو من يمثلهم، وآمل ان تتبدل طريقة التعامل مع الشعب الفلسطيني الذي اكرم وفادة الهاربين من المحارق النازية وقاسمهم الزاد ورغيف الخبز.
بأعين مليئة بالدموع نصلي لراحة النفوس الهائمة لمليون ونصف أرمني قتلوا دون ان يعرفوا سبب قتلهم.
بأعين مليئة بالدموع نصلي لراحة النفوس الهائمة لستة ملايين يهودي قتلوا دون ان يعرفوا سبب قتلهم.
بأعين مليئة بالدموع نصلي لراحة النفوس الهائمة لعشرات الألوف من الشعب العربي الفلسطيني الذين قتلوا دون ان يعرفوا سبب قتلهم.
بأعين مليئة بالدموع نصلي لراحة النفوس الهائمة للمعذبين في الارض ولكل ضحايا الإبادات بعد ان تم ضمّ السوريين اليهم مؤخراً وبنجاح … وستقرع اجراس كنائس الارمن حول العالم 100 مرة في ذكرى المئوية الاولى للإبادة الارمنية، هذه الذكرى التي تمثل الرمز الأوحد لكل الابادات لأنها فاتحة الابادات في العصر الحديث، الرحمة لكل القاتلين الذين قال يسوع المسيح في حقهم العبارة الآتية (يا أبتاه إغفر لهم لأنهم لا يدركون ما يفعلون)، والرحمة أيضاً لكل الذين قتلوا لأنهم يتوحدون في أمر مشترك وهو أنه تم قتلهم جميعاً دون ان يعرفوا سبب قتلهم.
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
19/04/2015