ثمة ما يثير الفضول، إزاء ما يجري من تراشق اعلامي وغضب شخصي واستدعاء «انتقائي» للماضي وبخاصة في مناسبة مرور مائة عام على «الإبادة» الأرمنية التي ما تزال موضع خلافات وتجاذبات واستثمار سياسي في المناورات والألاعيب الدبلوماسية وخصوصاً من قبل من يريدون تحصين مستقبلهم السياسي او الولوج الى عالم السياسة وصنع القرارات والجلوس على منصة الزعماء والقادة.
صحيح ان المسألة الأرمنية لم تُغادر جدول الأعمال الاوروبي وبخاصة الاميركي، بعد ان تكرس نفوذ اللوبيات الأرمنية في أكثر من محفل ومجلس نواب على مستوى عواصم الغرب الاوروبي والاميركي، إلاّ انها تكتسب أهمية اضافية في هذا العام، كون المئوية الاولى للمذبحة، فرصة للأرمن لتصعيد لهجتهم تجاه تركيا ودفعها الى الاعتراف بالإبادة كمقدمة للتعويض للمصالحة واخراجها من دائرة الصراع الآخذ بالاحتدام في المنطقة وبخاصة جمهوريات آسيا الوسطى (السوفياتية السابقة)، حيث النفوذ التقليدي لتركيا لاسباب ديموغرافية بحتة، ما تزال ترى فيها انقرة مجالها الحيوي، ما بالك وأن الصراع على نفط وغاز تلك المنطقة وخصوصاً مجموعة الدول المشاطئة لبحر قزوين ما تزال لم تحزم أمرها ازاء المعركة الدائرة على ثرواتها بعد ان دخل الاميركيون –كعادتهم– على خط «المعركة» ليس فقط بهدف الحصول على امدادات مضمونة ورخيصة من الغاز والنفط، وانما ايضاً في تحجيم الدور الروسي السياسي والاقتصادي في تلك المنطقة وايضاً في تقليل الاعتماد على الغاز الروسي الذي يتحكم بثلث واردات اوروبا الغربية من الغاز.
الى اين من هنا؟
لم تنفع دبلوماسية «كرة القدم» التي أقدم عليها الرئيس التركي السابق عبدالله غل عندما ذهب الى يريفان عاصمة ارمينيا لحضور مباراة بين فريقي البلدين الوطنيين، ولم تنجح محاولات الارتقاء بعلاقات البلدين في مجالات التجارة والسياحة التي حاول اردوغان (كرئيس للوزراء) اقامتها مع أرمينيا عندما وقّع والرئيس الأرميني اتفاقيات في هذا الشأن كان في ضمنها تشكيل لجنة من المؤرخين والاختصاصيين للبحث في وقائع المجزرة التي وقعت لأكثر من مليون ونصف المليون مواطن أرميني قبل أفول نجم السلطنة العثمانية، وعادت الأمور الى سابق عهدها بعد ان رفض البرلمان الأرميني التصديق على تلك الاتفاقات، وزاد من حدتها «الاعترافات» التي بدأت برلمانات اوروبية اقرارها بالإبادة الأرمينية وكانت ذروتها اعتراف الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) بالإبادة، ما أوصل العلاقات بين باريس وانقرة الى الحضيض، لولا تداركها في اللحظة الاخيرة بعد ان لم يصادق عليها الرئيس الفرنسي.. مؤقتاً.
الان وفي شهر «الإبادة» (نيسان 1915) تعود المذبحة الى الصدارة، وكان «الفضل» في ذلك الى بابا الفاتيكان فرنسيس، الذي قال في عبارة «فاقعة» الصراحة والوضوح: «أن اول ابادة جماعية في القرن العشرين وقعت ضد الارمن».
صُدمت انقرة واصابها الذهول، فالذي يتحدث بهذا الموضوع رجل دين مسيحي استثنائي، يختلف الى حد كبير و«نوعي» عمن سبقه من باباوات وخصوصاً عن البابا «البولندي» الذي تحالف مع عواصم الغرب الامبريالي لتقويض منظومة الدول الاشتراكية في مقاربة حقد غير مسبوقة، لم تكن سوى تصفية حساب شخصي وطبقي وانحياز للرأسمالية المتوحشة، ضد الاشتراكية التي تلتقي عند جذورها وأسسها، تعاليم عيسى ومحمد عليهما السلام.
البابا فرنسيس ذو شعبية طاغية حتى بين غير المسيحيين لبساطته وزهده وانحيازه للفقراء والمُهمّشين، ولهذا كان رد الفعل التركي عنيفاً تجاوز حدود الاعراف الدبلوماسية عندما استدعت الخارجية التركية ممثل الفاتيكان للاحتجاج على وصف البابا للاحداث بأنها ابادة جماعية، الى ما يمكن تسميته بالشطط الذي ظهر بوضوح في تصريحات الرئيس التركي اردوغان الغاضبة ووصفه اقوال البابا بأنها مجرد هذيان بالقول: «عندما يقوم السياسيون ورجال الدين بما ينبغي على المؤرخين القيام به.. تتلاشى الحقائق ويظهر (الهذيان) الذي نراه اليوم».
صحيح أن اردوغان جدّد دعوته لتشكيل لجنة مشتركة، مؤكداً على شفافية بلاده في فتح ارشيفها بالكامل، إلا انه ارفق ذلك بتوجيه «إدانة وتحذير للبابا من تكرار مثل هذه الاخطاء».. هنا يحضر النفاق الاميركي المعروف في «أبهى» تجلياته, عندما خرجت ماري هارف الناطقة باسم الخارجية الاميركية على العالم بدعوة تركيا الى الاعتراف «الكامل والصريح» بالوقائع المرتبطة بـ«المجزرة» الارمينية ابان الحرب العالمية الاولى ولكن (وهنا دققوا جيداً) دون استخدام كلمة (ابادة) التي استعملها البابا».
هكذا حصر الاميركيون المسألة كعادتهم بالمصطلحات، أي بالالتفاف على الحقائق والوقائع وعدم حسم الامور، لأن الخلاف واقع بين حليفين احدهما عضو في الاطلسي والاخر (وهو اللوبيات الارمنية وليس الدولة الارمينية) يتوفر على نفوذ سياسي قوي داخل الكونغرس وفي منظمات المجتمع المدني في الولايات المتحدة.. ما بالك أن الرئيس الاميركي اوباما وفي حملته الرئاسية الاولى في العام 2008 وَعَدَ علناً كل الفعاليات الارمنية ذات الحضور في الدوائر الانتخابية «بالاعتراف بالابادة الارمنية».
لم يعترف ولا يريد أن يعترف، فقد انتهى مفعول الصوت الارمني بالنسبة اليه بعد أن انهى وظيفته في البيت الابيض، لكن أن يصف اردوغان كلام البابا بالهذيان، فهي مسألة اخرى، لكنها في النهاية تصب في حال الانكار الذي يواصل الجاني العيش فيها، حتى لا يُنصِف الضحية، ولنا في النكبة الفلسطينية المثال الابرز والحيّ، تلك الابادة التي تتواصل لسبعة عقود… دون توقف.
نقلاً عن “الرأي” الأردنية