24403.jpg

بين منطق القوّة وقوّة المنطق: يحقّ لروسيّا ما لا يحقّ لغيرها

بين منطق القوّة وقوّة المنطق: يحقّ لروسيّا ما لا يحقّ لغيرها

تابعت بكثَب خطاب الرئيس بوتين للأمّة الروسيّة على أثر إجتماعه بمجلس الأمن الروسي بشأن التصعيد مع أوكرانيا اليوم والتي ظهر خلالها بمظهر المحاضر بالتاريخ والجغرافيا والسياسة والأمن والإستراتيجيا.

على الرغم من بعض المغالطات التي تطرّق لها الرئيس بوتين , والتي لَن أناقشها أو أفنّدها هنا, أعجبني السّرد التاريخي لإقليم الدونباس وشبه جزيرة القرم. فالرئيس بوتين ذكّر في خطابه اليوم أن الزعيم السوفياتي خروتشوف اقتطع شبه جزيرة القرم وإقليم الدونباس من روسيّا في العام 1954 وضمّها إلى أوكرانيا. وحسب منطق الرئيس بوتين, يجوز لروسيّا إسترجاع هذه المناطق لعدّة أسباب منها على سبيل التعداد لا الحصر أنها كانت أراضٍ روسيّة قبل العام 1954 ومعظم سكّانها من الروس ويتكلّمون اللغّة الروسيّة. لا أريد مناقشة مدى صحّة وصوابيّة وعقلانيّة وقانونيّة هذا المنطق بمشتملاته لكن أريد , وانطلاقا ً من المنهج القياسي , تطبيق هذا المنطق من حيث الشكل على وضع ٍ شبيهٍ بحالة الدونباس لحدٍّ كبير.

فعلى سبيل المثال إذا طبّقنا منطق الرئيس بوتين على إقليم ناغورنو كاراباخ المعروف بـ أرتساخ لكثرة الشبه بين قضيّة الإقليمَين (أي الدونباس وأرتساخ), نرى أن ّ من حقّ أرمينيا إسترجاع إقليم ناغورنو كاراباخ (أرتساخ) بالقَدَر الذي يحقّ لروسيّا استرجاع إقليم الدونباس. فإقليم أرتساخ كان جزءاً لا يتجزّأ من أرمينيا حتّى العام 1924 عندما سلخها وزير القوميّات في الإتحاد السوفياتي آنذاك , جوزيف ستالين , عن أرمينيا وضمّها لأذربيجان في محاولةٍ من السوفيات لاستمالة تركيّا بقيادة مصطفى كمال أتاتورك كي تنضم للإتحاد السوفياتي. طبعا ً أراد السوفيات من خلال ضمّ أرتساخ لأذربيجان إرضاء وجذب تركيّا إلى معسكرهم الشيوعي. فتركيّا تربطها بأذربيجان القوميّة الطورانيّة واللغة والثقافة المشتركة على الرغم من أن معظم الأذربيجانيّين هم من المسلمين الشيعة في حين أن معظم الأتراك هم من المسلمين السّنّة. هذه المحاولة باءَت بالفشل لأن الأتراك لَم ينضمّوا للإتحاد السوفياتي على الرغم من الحوافز التي قدّمها لهم السوفيات على حساب الأرمن وأرمينيا. إذا ً , كما اقتطع خروتشوف شبه جزيرة القرم وإقليم الدونباس من روسيّا وضمّها إلى أوكرانيا في العام 1954 , كذلك فعل ستالين قبله و اقتطع أرتساخ من أرمينيا وضمّها لأذربيجان في العام 1924. وكما أن معظم السكّان في الدونباس هم من الروس والقوميّة الروسيّة ويتحدّثون اللغة الروسيّة في إشارةٍ لأصولهم الروسيّة, كذلك الأمر في أرتساخ بحيث أن معظم سكّانهم من الأرمن ويتبعون القوميّة الأرمنيّة ويتحدّثون اللغّة الأرمنيّة في إشارةٍ لأصولهم الأرمنيّة.

ظلّت أرتساخ تحت سيطرة أذربيجان من 1924 لغاية 1992 بعد أن اندلعت مواجهات بين أرمن أرتساخ وأذربيجان لإعلان إستقلال الإقليم عقب إنهيار الإتحاد السوفياتي. أعلن الأرمن الإنفصال عن أذربيجان واستقلال أرتساخ رسميّا ً في 6 كانون الثاني العام 1992 إثر إستفتاءٍ شعبي طبقا ً لمبدأ حق ّ الشعوب في تقرير مصيرها. عَقَبَ ذلك هجوم أذربيجاني على أرمن أرتساخ لإستعادة السيطرة على الإقليم تحت سيادة أذربيجان ودامت المواجهات من كانون الثاني من العام 1992 لغاية 12 أيّار من العام 1994 والتي إنتهت بسيطرة الأرمن على قرار أرتساخ. طبعا ً هذا الأمر لم يرق لأذربيجان التي اعتبرت أن أرتساخ أرضا ً محتلّة من قبل الأرمن في حين إعتبر الأرمن أنّ أرتساخ أرضهم وأرض أجدادهم وأنهم إستقلّوا عن أذربيجان إنطلاقا ً من حقّهم في تقرير مصيرهم.

في الحرب الأخيرة التي شنّتها أذربيجان على كاراباخ وأرمينيا في العام 2020 والتي بموجبها إحتلّت أذربيجان ثمانين بالمئة من أرتساخ وأودت بحياة الآلاف من المدنييّن الأرمن , باركت روسيّا نتائج الحرب التّي صبّت في مصلحة أذربيجان. بالإضافة إلى أن روسيّا فرضت شروطا ً على أرمينيا لمصلحة أذربيجان التي تتضمّن على سبيل التعداد لا الحصر, إعطاء أذربيجان حقّ إنشاء ممرّ جنوب أرمينيا تربط أذربيجان بتركيّا عبر إقليم ناخيتشيفان.

إذا ً السؤال الذي يطرح نفسه بعد السرد المختصر أعلاه هو: لماذا يحقّ لروسيا “إسترجاع” شبه جزيرة القرم والدونباس من أوكرانيا ولا يحقّ لأرمينيا إسترجاع أرتساخ من أذربيجان على الرغم من التشابه الكبير بين الحالتين؟

هل بتنا نعيش في زمنٍ يغلب فيه منطق القوّة على قوّة المنطق , وبالتالي , يحقّ لروسيّا ما لا يحقّ لغيرها؟

بقلم: د. إسحاق أندكيان
أكاديمي وخبير في إدارة النزاعات الدوليّة

scroll to top