سكاي نيوز عربية، 3 سبتمبر 2020 — كلما فُتِحَ ملف “المذابح العثمانية بحق الأرمن” سارع العثمانيون الجدد وأتباعهم باتهام من يفعل ذلك بالتآمر على التاريخ الإسلامي والانقياد لـ”افتراءات” يروجها “أعداء الإسلام والمسلمين”!
فإذا واجهتهم بالواقع التاريخي سارعوا بتبرير الجرائم العثمانية ضد الأرمن بأنها “مجرد رد فعل” على قيام الأرمن بـ”خيانة الدولة” وارتكابهم جرائم ضد المسلمين!
والواقع أنها “حجة البليد”، فلو فرضنا أن بعضًا من الأرمن قد انحازوا لأعداء الدولة العثمانية، فهل في ذلك مبرر للعقاب الجماعي والتنكيل بحق فئة إثنية وعرقية كاملة؟ هل هذا ما يقره الإسلام الذي يدعي هؤلاء الدفاع عنه؟
إن الأمر يقتضي العودة بالزمن إلى ما قبل ظهور العثمانيين بقرون والتقاط طرف الخيط من هناك..
الأرمن في التاريخ القديم:
قبل الإسلام بقرون كان الأرمن-الذين وُجِدوا تاريخيًا في منطقة تتوسط كلاً من الأناضول وجورجيا وأذربيجان وفارس وجبال طوروس- يعيشون بين قوى متصارعة، ويشقون طريقهم ببطء نحو إقامة الدولة المستقلة، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا دائمًا ما يجدون أنفسهم تحت تسلُّط واحدة من الدول العظمى..
فمن الحيثيين، ثم الأشوريين، فالميديين ثم الفُرس وأخيرًا بعد هزيمة دارا الفارسي على يد الإسكندر المقدوني استطاع الأرمن إقامة مملكة شبه مستقلة في القرن الرابع قبل الميلاد..
ولكن المملكة بقيت تحت وصاية السلوقيين-ورثة الإسكندر في الشام وآسيا الصغرى، ثم من بعد سقوط السلوقيين تحولت إلى ساحة قتال للقوى العُظمى، فقوات الغولين الكبيرين الفارسي والروماني كانت تتقاتل على أرضها، وكذلك شهدت قتال الرومان ومملكة تَدمُر السورية، ثم تعرض الأرمن أنفسهم لمحنة الحرب ضد فارس من ناحية وروما من ناحية أخرى حيث طمعت كل منهما في احتلال أرمينيا.. وفي خضم ذلك اعتنق ملكهم درطاد الثالث المسيحية وأعلنها دينًا رسميًا للدولة لتصبح أرمينيا أول دولة مسيحية في التاريخ.. وبعد قيام الإمبراطورية الرومانية الشرقية المعروفة بالبيزنطية عادت الدولة الأرمنية تعاني تعرضها لفرض الوصاية تارة من بيزنطة وتارة أخرى من الفُرس، وإن تخللتها انتفاضات أرمنية عنيفة خاصة عندما حاول الملك الفارسي يزدجرد الثالث-آخر ملوك الفُرس-إجبار الأرمن على الارتداد عن عقيدتهم المسيحية.. ولكن أرمينيا في النهاية فقدت استقلالها عندما أبرم كل من الفُرس والروم اتفاقية تقاسما بموجبها أرض أرمينيا التي حاز الفُرس نصيب الأسد منها..ولكن بزغت قوة جديدة أزاحت النفوذان الفارسي والبيزنطي عن الأرمن.. هي القوة العربية الإسلامية التي أقامت إمبراطوريتها بسرعة مذهلة..
الأرمن والعرب المسلمين:
في عام 640م-في عهد الخليفة عمر بن الخطاب-توغل المسلمون بقيادة عيّاض بن غنم في أرض أرمينيا ليضموها للدولة وعادوا بعد أن فرضوا عليهم الجزية (وتصحيحًا للمفهوم الخاطئ عن الجزية أنها مقابل لبقاء غير المسلم على دينه أو أنها غرامة لرفضه اعتناق الإسلام، فالجزية في حقيقة الأمر مجرد مقابل حماية ولم يبتكرها المسلمون بل سبق تطبيقها قيام دولتهم بقرون)
وفي عام 642م تجددت الحملة العربية على المنطقة بقيادة سراقة بن عمرو.. وفي عام 653م تم إبرام معاهدة بين المسلمين والأرمن نصت على الآتي:
-إعفاء أرمينيا من الجزية لثلاث سنوات ثم يُدفَع منها المستطاع فحسب
-تعهُد العرب المسلمون بحماية أرمينيا من أعدائها خاصة بيزنطة
-يحق للأرمن تشكيل جيش من 15000 فارس مقاتل وتكون نفقتهم من الجزية التي يتلقاها المسلمون، وأن يحاربوا عند اللزوم مع المسلمين عدا في الشام ..
كما تُرك للأرمن اختيار قيادتهم الخاصة ونظامهم الخاص، فكان يتولى حكمهم حاكم عام منهم يختارونه ومعه والٍ عربي يقتصر عمله على جمع الضرائب وقيادة الحامية العسكرية العربية التي تتولى الدفاع عن الأرمن.. وتولى منصب “الوالي العربي” صحابة مشهورون كحذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبة
وفي العصر الأموي توطدت العلاقات العربية الأرمنية خاصة مع استقبال دمشق-العاصمة آنذاك-زيارات رسمية من بعض الحكام الأرمن، أو علاقة المودة بين الخليفة عمر بن عبد العزيز والبطريرك الأرمني، وكذلك عندما تعرضت أرمينيا لهجمات البيزنطيين وقبائل الخزر التركية فتصدى لها الجيشان العربي والأرمني، بل عندما تعرض العرب في أرمينيا لهجوم من الخزر سارع الأرمن بمد يد العون لهم.
في العصر العباسي لعب البيزنطيون دور “صناع الفتنة” بين العرب والأرمن، واستطاعوا استقطاب بعض هؤلاء لإعلان العصيان، ولكن سرعان ما كانت الفتنة تبرد بتعامل الخلافة بحزم وصرامة.. ولكن بعض هذه الفتن كانت ناتجة كذلك عن سوء تصرف بعض الولاة العرب أو استغلالهم مواقعهم في الخروج عن الخلافة..
وبضعف الدولة العباسية وحركات الانفصال التي شهدتها من قيام دويلات لا تمنح الخليفة من الولاء سوى الاسم والدعاء على المنابر، أعاد الأرمن إقامة مملكتهم المستقلة ولكن بموافقة الخليفة العباسي الذي طلب منه بعض أمراء الأرمن منح كبيرهم “أشوط” لقب “الملك” مكافأة له على بعض خدماته للعباسيين، فمُنِحَ اللقب وأعاد إحياء المملكة الأرمنية..
ولكن بالتزامن مع صعود نجم السلاجقة المسلمون، وتأسيس إمبراطوريتهم، تفككت وحدة أرمينيا إلى عدة ممالك طلب أغلبها من البيزنطيين الحماية ضد السلاجقة الذين حاولوا غزوهم، بل إن بعضهم قد تنازل عن مملكته لبيزنطة لعدم وجود وريث لعرشه.. ولكن في خضم ذلك هب الوطنيون المؤيدون لوحدة واستقلال أرمينيا يعيدون توحيدها ويطردون البيزنطيين منها، ولكن بيزنطة سرعان ما عادت لاجتياحهم، ثم ما لبث السلاجقة أن سيطروا على الأراضي الأرمنية في خضم حربهم ضد الدولة البيزنطية..
بسبب تلك الظروف هاجر الأرمن بأعداد كبيرة إلى إقليم “كيليكيا” الواقع شماليّ سوريا وجنوبيّ الأناضول، حيث أقاموا دولتهم المعروفة بـ”أرمينيا الصغرى”.. ولكن انهماك ملوكها في لعبة السياسة والحرب بين الفرنجة الغزاة المعروفين بـ”الصليبيين” من ناحية، والمغول من ناحية، ودولة المماليك القوية من ناحية أخرى، قد أضر بالدولة حيث انقسمت إلى حزبين أحدهما لاتيني كاثوليكي يدعم الفرنجة وآخر أرثذوكسي يدعم التحالف مع المسلمين.. ونتيجة تعاون الملوك الأرمن مع الفرنجة تعرضت أرمينيا الصغرى لضربات المماليك الموجعة، حتى سقطت دولتهم وخضعت للحكم المملوكي في عام 1375م..
الأرمن في ظل الدولة العربية الإسلامية كان لهم وجود كعنصر بشري.. فالقارئ في التاريخ الإسلامي يجد شخصيات أرمنية كالوزير الفاطمي بدر الجمالي وابنه “الأفضل”، أو كـ”شجر الدر” التي تعد أول سلاطين دولة المماليك والتي اختُلِفَ في أصلها فقيل أرمني وقيل تركي.. بل قد وُجِدوا محاربين في الجيش الفاطمي..
الأرمن تحت الحكم العثماني:
عندما قامت دولة العثمانيين تحولت أرمينيا إلى مسرح للعمليات بين الدولتين العثمانية والبيزنطية، ثم من بعد ذلك لعبت نفس الدور خلال الحروب العثمانية الصفوية بل فيما بعد عندما نشبت الحرب بين العثمانيين وروسيا..
وعندما أخضع السلطان العثماني محمد الثاني “الفاتح” مدينة القسطنطينية وحولها إلى عاصمة لدولته، عمل على نقل 40000 من الأرمن إليها للاستفادة من مهاراتهم وخبراتهم..
فالأرمن كانوا مشهورين بالتميز في المجالات المختلفة، فأراد العثمانيون الإفادة من هذا التميُز فقام الفاتح بالإجراء سالف الذكر ليؤسس لفئة منافسة لليونانيين في عاصمته، وأسس لهم بطريركية أرمنية في العاصمة وجعل بطريركها مسؤولًا عن الموظفين والخدمات والتعليم والمؤسسات الدينية للأرمن..
رحب الأرمن بالتعاون مع العثمانيين وأخلصوا لهم بشدة إلى حد أن العثمانيين أنفسهم قد لقبوهم بـ”الملة الصادقة”، وأخلص أهل “الملة الصادقة” للدولة فتولى آل دوزيان دار السكة “ضرب العملة” واشتهر آل يراميان بصناعة المجوهرات للسلطان وحاشيته وأسرته، وتولى آل آربياريان إدارة مناجم الفضة للسلطان، وأدار آل داديان مصانع البارود والنسيج والورق، وتقلد آل باليان منصب “معمار باشي السلطان” أي كبار المعماريين للسلطان.. بل تولى منهم الوزارة نحو 22 شخصية والسفارة 5 أشخاص..
لم يكن التقريب السلطاني للأرمن حبًا فيهم ولا كان من منطلق تكافؤ الفرص أو العدل في معاملتهم، بل كان مجرد إجراء نفعي بحت غرضه الاستفادة من مهاراتهم، والدليل أنه بينما كان أرمن العاصمة ينعمون بالتقريب والنفوذ والثراء كان الأرمن في المناطق المهمشة يعانون قسوة الحياة ومخاطرها، وكانت تتفشى بينهم الأمية، ويتمزقون بين تجمعات أشبه بـ”الجيتو/المعزل” تحيط بها تجمعات بشرية تركية وكردية، وعاشوا على الفلاحة والإجارة لصالح السادة الإقطاعيين والعسكريين الأتراك في وضع البين بين فلا هو بالعبودية الصريحة ولا هو بالحرية الكاملة.. وكانوا دومًا عرضة إما لمظالم السادة الأتراك أو لغارات المجموعات الكردية.. فضلًا عن أنهم-رغم امتيازات أقرانهم في العاصمة-كانوا ممنوعين من مميزات الرعايا المسلمين كالشهادة في المحاكم أو حمل السلاح ولو دفاعًا عن أنفسهم فضلًا عن إلزامهم دفع الجزية للباب العالي..
على هذا الأساس كان تعامل العثمانيين مع الأرمن: لو أنك مفيد لنا فأهلا بك ولك كل الحقوق، ولكن لو أنك مجرد فلاح خير سيز نار سيز فليس لك إلا القهر والتهميش..
ولكن.. لم يكن هذا أسوأ ما ينتظر الأرمن على أيدي آل عثمان.. فالقادم كان أسوأ بكثير.. — يتبع.
بقلم: وليد فكري – كاتب وباحث في مجال التاريخ.
المصدر: سكاي نيوز عربية (انقر هنا)
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي موقع خبر أرمني