تداولت بعض المواقع الإخبارية وصفحات الفايسبوك الأسبوع الماضي خبراً يقول إن «الحكومة الأرمينية تبنّت برنامجاً لتشييد حي سكني أطلقت عليه اسم “حلب الجديدة”، لتوطين أكثر ما يمكن من أبناء الجالية السورية ذوي الأصول الأرمينية، الذين فروا من الحرب في بلادهم».
قد لا يعكس هذا الخبر فداحة أرقام المهاجرين الأرمن الذين تركوا حلب خلال الأشهر القليلة الماضية، والمقدّر عددهم بنحو 13 ألف أرمني (فقط)، إذا ما قورنت بمئات آلاف اللاجئين والنازحين الحلبيين. لكنّه ينطوي في الواقع على إنذارين خطيرين: الأول هو أنّ واحداً من كلّ خمسة أرمن على الأقل، شقوا طريقهم إلى خارج حلب خلال أقلّ من عام. وإذا قبلنا الإحصائيات غير الرسمية، بأن نصف هؤلاء لا يعقدون آمالاً العودة إليها، وإذا صادقنا على أخبار استمرار الهجرة بين صفوف المتبقّين، نصل إلى الإنذار الثاني، وهو أن ملامح مدينة حلب لن تعود إلى ما كانت عليه.
تشير معظم المصادر إلى أن عدد الأرمن السوريين، المقيمين في سوريا، كان يبلغ عند بدء الثورة نحو 80 ألف شخص من الطوائف الثلاثة: الرسوليين (الأورثوذكس) والكاثوليك والإنجيليين، معظمهم من أحفاد أولئك الذين قدموا مطلع القرن الماضي. يقيم معظمهم (60 ألفاً) في مدينة حلب. فيما يتوزع الباقون بين منطقة الجزيرة وكسب (قضاء اللاذقية) ومدينة دمشق وغيرها. وأن الغالبية الكاسحة من المهاجرين الأرمن البالغ عددهم نحو 13 ألف شخص هم حلبيّون، توجّه منهم نحو 7 آلاف شخص إلى أرمينيا، و5 آلاف شخص إلى لبنان والباقي إلى أوروبا وأمريكا. هذا في حين أكّد كثير من النازحين الأرمن من حلب إلى لبنان أنّ: “وجودنا محطة مؤقتة وعائدون!”. (بانوراما الشرق الأوسط- نهاد طوباليان- 2 شباط 2013).
وفيما علّق مطران دمشق للأرمن الأرثوذكس “أرماش نالبنديان” على هجرة الأرمن سوريا متوجّهين إلى أرمينيا بقوله: “عندما تنزاح الغيمة من فوق سوريا سنعود إلى بيوتنا”، فإن الصحافة تنقل عن أولئك الذين صاروا في يريفان أن معظمهم عبّروا عن رغبتهم في البقاء نهائياً في “أرض الأجداد”. لكنّ تقديرات أرمنيّة داخلية تؤكد أنّ “نصف المهاجرين إلى أرمينيا يؤمنون بعودتهم إلى سوريا، ونصفهم الثاني لا”.
جدير بالذكر، أنّ بانوراما الشرق الأوسط أشارت في التقرير ذاته إلى أنّ عدد النازحين السوريين من أصل أرمني وفق الكنائس والجمعيات الأرمنية لا يتعدّى سوى مئات العائلات، توزعت بين برج حمود، الدورة، النبعة، انطلياس والفنار. قسم كبير منهم، يقيم عند أقارب وأصدقاء، وقسم استأجر بيوتا تتقاسمها أكثر من عائلة.
الأرمن وسوريا
يصعب الحديث عن رأي عام أرمني حيال الثورة، وبالتالي حيال مستقبل سوريا. إذ عاش الأرمن في ظل نظام الاستبداد، جاليةً “نجيبة”، تعاني بصمت ما يعانيه باقي السوريين، تتألم بصمت مثل آلامهم، بل وأحياناً تفرح بصمت مع فرحهم. ويمكن القول إذا ماشئنا الدقة، إن وضعهم الاجتماعي الميسور عموماً، الذي يضعهم على العموم في منطقة ما بين الطبقتين المدينيتين الوسطى والثرية، جعلهم بعيدين نسبياً عن عبء حياة اقتصادية عانى منها سوريون آخرون من الشرائح الأخرى، وإن لم يعفهم من هموم الفساد، مثل غيرهم من أبناء الطبقة الاجتماعية الوسطى.
أما سياسياً، فمنذ مجيء الأسد الأب إلى السلطة في العام 1971، غاب عن التداول العام ذلك الحديث الخافت أساساً عن الهاشناق والطاشناق، وإن كان يلحظ في بعض الأحيان هوى يساريٌّ لدى هذا الأرمني، وقوميّ لدى الآخر. فباتت الكنيسة الأرمنية الرابط الأبرز لهم، فضلاً عن روابطهم الاجتماعية، ومنظماتهم الشبابية، ومنابرهم الثقافية، وبالطبع مدارسهم التي نجت إلى حد ما من حملات التعريب القسري والتأميم الجائر.
الأرمن والثورة
يقول هاكوب، الناشط في أحد المنتديات: “إن زج الورقة الأرمنية في الصراع السوري هي محاولة فاشلة لأي جهة تريد استخدامها من النظام أو المعارضة. إن المواطنين السوريين المتحدرين من أصول أرمنية يرفضون أن يكونوا طرفاً في هذا النزاع الخاسر الذي يؤدي إلى تدمير الحجر والبشر، وأعلنوا منذ بدء الأحداث في سورية موقفهم بوضوح، وهو وقوفهم مع وحدة الشعب السوري وأراضيه، وضد التدخل الخارجي وإملاءاته، وضرورة اتباع كل الطرق السلمية للحصول على الحقوق المشروعة والمقرة بالدستور، والتي تتمثل بالحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وحقوق الأقليات الموجودة في سورية. إنّ كل ادعاء بمشاركة الارمن في النزاع السوري هو كذب ووهم يراد من خلاله الإيذاء والضرر لهذه الجالية التي احتضنها الشعب السوري الأصيل، في زمن كانت سورية تحت الاحتلال ولم يكن فيه لا حزب بعث و لا جيش حر”.
والحال، فقد حافظ الأرمن دوماً على حالة شفافة من العيش المشترك، خفيفة الظل، لا تناحريّة، تمثّل نموذجاً نمطيّاً لسياسة “النأي بالنفس”، على عجرها وبجرها، في بلد يفتقد جميع أبنائه إلى معنى المواطنة. لكن يبدو أنّ الثورة وضعتهم، كما مختلف المكوّنات السورية، أمام تساؤلات مصيرية.
وإذا علمنا أنّ “مسيحيّة” الأرمن السوريين لا تنطوي على ارتباط يذكر بينهم وبين المسيحيين العرب السوريين. يمكننا أن نفهم الصورة التي رسمها الفنان الأرمني السوري هراج ماكوشيان، حين قالفي مقابلة مع موقع “قنطرة”: “يعيش الأرمن بمعزل تماماً عن ما يحدث في سوريا. كمن يضع رأسه في الرمال ولايريد أن ينظر إلى الواقع. لا يتحركون أبداً خارج مجتمعاتهم. معظم الأرمن ليس لهم أصدقاء عرب. وهذا يعني المزيد من رهاب الاضطهاد! وما يحدث خارج حيّهم يشرحه لهم الرئيس ووسائل الإعلام الرسمية التي تقول لهم: ثمّة إرهابيون سيذبحون الأرمن والمسيحيين وغيرهم من الأقليات إذا ما وصلوا إلى السلطة”!.
رُصدت في الواقع مشاركات فردية من قبل شابات وشباب أرمن في الحراك الثوري، ما منح نوعاً من الطمأنينة حيال مواقف الأرمن السوريين الذين سيلتزمون بسياسة “النأي بالنفس” ذاتها. كما رُصدت مشاركة أوسع نطاقاً في أعمال الإغاثة التي بدأت مع نزوح الأهالي من مناطق قصفها النظام في “صلاح الدين” و”سيف الدولة” وغيرهما. وفي هذا، فقد تميّزت مشاركات الأرمن الإغاثية والإنسانية بمقدار عال من التنظيم والفعالية والحيوية، عكَسَ جاهزية وخبرة المنظمات الأهلية الأرمنية الرديفة للكنيسة، وخصوصاً دير وارطان/ الهيئة اليسوعية لخدمة اللاجئين، الذي استضاف ونظّم الحملات لرعاية النازحين.
بيد أنّ عاملاً جديداً طرأ، جعل الحسابات تنقلب: شبّيحة أرمن. يوضح أحد النشطاء الأرمن: “أستطيع القول بالنسبة للتشبيح بأن هؤلاء، أولاً وأخيراً، جندوا أنفسهم طمعاً بالرواتب الشهرية، وبالاستحواذ على السلاح والسلطة. لا يتجاوز عدد شبيحة الأرمن في حلب ١٠٠ شخص، أغلبهم موجودون خارج مناطق السكنية التي يسكنها الأرمن”. ويضيف: “يتعيّن الإشارة إلى أنّ مطران طائفة الأرمن الرسوليين صرح في السنة الماضية بأن شبيحة الأرمن لا يمثلون الشعب الأرمني لا من قريب ولا من بعيد، فهم جندوا أنفسهم طواعيةً”.
يعبّر خاجاك مكرديجيان، وهو صحفي أرمني سوري يعيش الولايات المتحدة الأمريكية، عن جانب آخر من هواجس الأرمن حيال الثورة السوريّة: “يوجد مثل عربي يقول فاقد الشيء لايعطيه، وتركيا قبل أن تعطي دروساً في الديمقراطية عليها أن تجلس مع تاريخها، وتحاسب تاريخها الأسود الحافل بالمجازر.. والتدخلات التركية اليوم تهدف لتخريب التعايش المشترك الأخوي بين مكونات هذا الشعب, وماهي إلا متابعة لنفس السياسة التركية القديمة الجديدة”.
ومع ذلك، بدا الأمر أشبه بمفاجأة حين بدأ الحديث عن “موقف الأرمن” من الثورة السوريّة. حديث لم يبدأ على الأغلب إلا بعيد دخول الجيش الحر إلى حلب. تقول ناشطة أرمنيّة حلبيّة:
– «بدأنا نحن أرمن حلب نهاجر خوفاً من ردة فعل الجيوش الحرة على الطائفة.. بسبب استفزاز شبيحة الأرمن لهم».
– هل سجّلت أي حوادث؟
– «لا.. لم تسجل حتى الآن أي حادثة إزعاج لنا من قبل الثوار. ولكننا نعلم أنّها إن سجّلت فلا حامي لنا. لا شبيحتنا ولا النظام. النظام لا يهتمّ بشأننا أساساً. لذلك فضّل أغلبنا أن يترك كل شي وراءه وينجو بجلده».
قبل ذلك. في “جامعة الثورة”، أو في “صلاح الدين”، أو حتى في “بستان القصر”، لم تكن حكايا المظاهرات تخلو من اسم صبية أرمنية هنا، وشاب أرمني هناك.
الأرمن وحلب
يقال إنّ حلب حظيت منذ القدم بمكانة مهمّة لدى الحجاج الأرمن الذين كانوا يزورونها في طريقهم إلى القدس بعد عام 301 ميلادي، عندما أصبحت المسيحية دين الدولة الرسمي لأرمينيا وسكانها.
تشير إحصائيات إلى أن عدد الأرمن كان في 1944 60 ألف نسمة أيضاً، فيما كان عدد سكان حلب 325 ألف نسمة. أي أنّهم شكّلوا حينها أكثرية المجتمع المسيحي في حلب حتى العام 1947، عندما بدأت أولى هجرات الأرمن المعاكسة إلى أرمينيا، والتي استمرت عشرين عاماً على دفعات حتى 1967.
يشير الباحث السوري الحلبي علاء السيد إلى أنّ الأرمن تواجدوا منذ القديم في حلب، ويرجع تواجدهم الى مئات السنين. لم يعرف بالتحديد تاريخ وصولهم لحلب. أقدم ذكر لوجودهم هو لسبعمئة سنة خلت، على حاشية مخطوطة أرمنية ذكر فيها بأنه تم نسخها في 1329 م بحلب، في كنيسة السيدة بحارة الصليبة (الجديدة)، وهي كنيسة أرمنية قائمة حتى الآن.
ويشير أيضاً إلى أنّه كان للأرمن مدرسة رئيسية تسمى مدرسة نرسيسيان في حي الصليبة (الجديدة) وعدد طلابها في الفترة ما قبل عام 1915 م حوالي سبعمائة طالب، وهو العام الذي وصل فيه إلى حلب النازحون الأرمن، قادمين من مناطق مختلفة من كيليكيا شمالي حلب تمهيداً لنقلهم من قبل رجال السلطنة العثمانية إلى دير الزور والجزيرة السورية، فيما استطاع بعضهم البقاء في حلب مختبئين عن عيون السلطات العثمانية.
كما يشير إلى أن الحلبيين يروون عن الأرمن أنهم كانوا يرفضون الحصول على الصدقة من مال وملابس وطعام، ويصرون على الحصول على ذلك لقاء أعمال يؤدونها. وأن الحلبيين احتضنوهم، ومدوا يد المساعدة لهم، وتزوجوا نساءهم كزوجات على الوجه الشرعي، واعتنوا بأولادهم واعتبروهم كأولادهم.
الحال اليوم
إنّ وفاة ضحيّة أرمني من أبناء الحسكة، في حزيران 2012، كان مجنّداً يمضي خدمته الإلزامية في الجيش السوري النظامي، لا يعني أبداً أنه كان يقف واعياً إلى جانب النظام، فمثله الألوف من مختلف القوميات والطوائف. كما أن وفاته على أيدي الجيش الحر، إن تأكّد هذا، لا يعني أنّه استهدف كأرمني. وكذلك الأمر فإنّ كثيراً من مناطق سكن الأرمن وأماكن عملهم تحاذي مناطق التماس، كما أن عدداً من المقرات الأمنيّة تقع في مناطق الأرمن، ولعلّ هذا ما تسبب باحتراق جزئي في كنيسة القديس كيفورك في تشرين الأول 2012.
يشتهر الأرمن بحنينهم المزمن إلى مناطق أرمينيا، ومعالمهما الجغرافية، وأعلامها، وأبطالها القوميين، وبحبّهم الشديد لحلب وتراثها وبيئتها. هل هو القدر يدفعهم إلى قصة حنين أخرى؟
يرفض كثير من الحلبيين مجرد التفكير بأن يستيقظوا يوماً ليجدوا حلب خالية من الأرمن، أو أن أشقّاء الروح لن يعودوا ليضيئوا قناديلها. وعودةً إلى الخبر أعلاه، هم لا يأملون قطعاً بأن تحتاج أرمينيا إلى بناء حيّ آخر، قد يتخذ اسم “كسب الجديدة، أو “دمشق الجديدة”.
المصدر: صحيفة النهار اللبنانية – يوليو 2013
المقال لا بعبر بالضرورة عن رأي موقع خبر أرمني