عززت الجمهورية الإسلامية في إيران علاقاتها السياسية والاقتصادية مع جمهورية أرمينيا منذ استقلالها في الخامس والعشرين من كانون الأول العام 1991. وبرغم غرابة هذا التقارب بين منارة «الثورة الإسلامية» وأول دولة مسيحية أسست العام 301، إلا أن المصالح الاقتصادية والجيوسياسية المشتركة جعلت من هذا التحالف أمراً ممكناً، حيث يشير قادة البلدين إلى العلاقات التاريخية التي تجمعهما والممتدة لآلاف السنين، بالإضافة إلى وجود جالية أرمنية كبيرة وفاعلة في إيران (150 ألف أرمني)، وتخصيص طهران لاثنين من مقاعد البرلمان لتمثيل الجالية الأرمنية، ما يقدّم دفعة إضافية للعلاقات الثنائية بين البلدين.
وجدت أرمينيا في هذا التحالف الإستراتيجي وسيلةً للالتفاف على الحظر الاقتصادي الذي فرضته عليها كل من أذربيجان في الشرق وتركيا في الغرب منذ اندلاع حرب ناغورنو كاراباخ في العام 1992، فضلاً عن اعتبارها حدودها المشتركة مع إيران والواقعة في الجنوب (22 ميلا) بمثابة شريان الحياة لهذا البلد الغني ثقافياً والفقير بالموارد، نتيجة عدم استقرار حدوده مع جورجيا في الشمال. وبذلك يعزز هذا الحلف دور يريفان كلاعب أساسي في المحور الذي من شأنه أن يفتح طريق «البحار الدافئة» لروسيا والأسواق الأوروبية لإيران. وفي الطرف المقابل، ترى إيران في علاقتها هذه مع أرمينيا وسيلةً لكسر العزلة الدولية والعقوبات التي لا تزال مفروضة عليها، وطريقةً لإضعاف أذربيجان، التي تعتبرها إيران حليفةً لإسرائيل وتعاني من توترات مستمرة معها. كما أنها تتيح لطهران النضال من أجل الموارد في بحر قزوين، فيما الأهم هو وجود 15 مليون أذري يعيشون في شمال إيران، يشكلون أكثر من ضعف عدد سكان جمهورية أذربيجان، الأمر الذي يخلق حالة من القلق المشروع إزاء مخططات الولايات المتحدة القاضية بتنشيط الحركات الانفصالية في المنطقة. وانطلاقاً من هذا الهاجس، فإن إضعاف أذربيجان هو في مصلحة إيران حيث يمكن لأرمينيا أن تلعب دوراً مهماً في هذا الصدد. وبناءً على ذلك، فإن تقوية موقف إيران في القوقاز يسمح لها بوضع حد للتورط الأميركي في المنطقة، والرد على الطموحات الإستراتيجية لخصومها التقليديين: تركيا وإسرائيل، كما أن احتضان يريفان لطهران هو مسألة حياة أو موت. أما بالنسبة لإيران، فإن أرمينيا صغيرة الحجم، تلعب دور المتنفس الذي يعيد اتصالها مع العالم، وورقة الضغط على أذربيجان وتركيا.
في الملف النفطي، زوّدت شركة «غازبروم» الروسية أرمينيا بمعظم ما تحتاجه من الغاز حتى العام 2007. إلا أن أرمينيا دشنت مع إيران خط أنابيب للغاز الطبيعي بقيمة 200 مليون دولار، وذلك بهدف تقليص اعتماد يريفان على الغاز الروسي. كما استوردت في العام 2014 حوالي 400 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي من إيران، مقابل تصدير الكهرباء التي تنتجها في محطة ميتسامور للطاقة النووية لها، والتي بُنيت في عهد الاتحاد السوفياتي في السبعينيات من القرن الماضي. لكن يبقى السؤال الذي يطرح: لماذا تقابل روسيا منافسة إيران لها على سوق الغاز بالصمت؟
يعتقد بعض مراقبي الشأن الأرمني أن الصمت الروسي يعود إلى رغبة الكرملين في ضمّ أرمينيا إلى الاتحاد الجمركي بقيادة موسكو بحلول العام 2015. ولذلك، فإن مبيعات الغاز الإيرانية الرخيصة إلى أرمينيا، قد تكون وسيلة روسيا لمساعدة الحكومة في يريفان على اقناع شعبها بالاتحاد الجمركي الذي ازدادت أهميته بشكل كبير بعد الانقلاب في أوكرانيا وتنصيب حكومة موالية للغرب. ويشير مراقبون آخرون في يريفان إلى أن الصمت الروسي هو نتاج للتغيير الجذري في الظروف الجيوسياسية في المنطقة وللفجوة الآخذة في الاتساع بين روسيا والغرب بشأن الأزمة الأوكرانية. وبذلك، نرى أن الكرملين يسعى لإجراء تعديلات في اللعبة التي يمارسها، عبر ليونته في استخدام أوراق الطاقة مقابل تعزيز أهدافه الديبلوماسية.
بالإضافة إلى الصمت الروسي إزاء الموضوع، تغاضت واشنطن أيضاً عن صفقات التجارة والطاقة التي تجري ما بين يريفان وطهران، ويعود هذا الأمر بحسب ريتشارد غيراغوسيان، مدير «مركز الدراسات الإقليمية في أرمينيا»، إلى أن «الولايات المتحدة تبدو أكثر استعداداً لرؤية الغاز والنفط الإيراني في السوق الأوروبي، كمكافأة للمحادثات الإيجابية معها وكوسيلة لإيذاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واستغلال الاعتماد الروسي على أسعار الطاقة المرتفعة».
هكذا، تسعى الحــــكومة الأرمنية لتخفيض سعر الغاز لضمان عدم تكرار التظاهرات المناهضة لها كــــما حصل في العام 2014، في حين يبقى موضوع حفاظها على استيراد كميات كبيرة من الغاز الإيراني، والحفاظ على رضى روسيا التي تعتبر الشريك الاقتصادي والعسكري الرئيسي لها، بالإضافة إلى الحفاظ على العلاقات الدافئة والنامية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، معادلةً صعبة التحقيق، حيث نجد أرمينيا تتعامل مع مختلف القوى الإقليمية والعالمية من دون الحاجة إلى انتـــــقاء واختيار التحـــــالفات، مطبقةً بعـــناية سياسة «التكامل» للبقاء على قيد الحياة، والتــــنقل ما بين تضاريس الجغرافيا السياسيّة الوعرة.
بقلم: كيفورك ألماسيان، نقلا عن صحيفة السفير.