“وينكم إنتو الأرمن من الثورة”… سؤال تكرر في الآونة الأخيرة على مسامع اللبنانيين من أصول أرمنية، كمحاولة “خبيثة” تفرز هذا الجزء من المجتمع اللبناني، فتظهره تابعا بمجمله، لمقررات حزبية، لطالما قدمت “المصلحة القومية” على “المصلحة الوطنية”، ملخصة دور الأرمن الوطني على مدى العهود بدعم موقع السلطة، التي شكل “حزب الطاشناق”، الأقوى بين الأحزاب الأرمنية الموجودة في لبنان، شريكاً لها..
السير بين خطين والشباب
في ظل محاولة التنميط هذه، تمر حراكات اللبنانيين “الأرمن” الداعمة للثورة في شوارع “البلد الأم” أرمينيا، من دون إيلائها أهمية في الداخل اللبناني، وكأن المطلوب الإبقاء على حالة “تحفظ” على المستوى الداخلي، تريح “الطاشناق” في علاقته مع السلطة، من دون أن تلزمه على مواجهة شارعه، الذي يقف “ضمناً” مع الثورة ومطالبها، أو تدفعه إلى تبرير موقف هذا الشارع أمام “السلطة”.
إلا أن محاولة السير هذه بين “خطين”، لا تنفي أن حزب الطاشناق، كما سائر الأحزاب اللبنانية، لم يعد واثقاً كلياً من سيطرته التامة على شارعه. وقد خسر أقله جزءاً كبيراً من “الشباب”، الذين من خلال إهمالهم أو تجاهلهم عن قصد، ما عاد يهمهم “الحصول على البطاقات الحزبية”، وخلعوا كل المحاذير التي جعلت “اللبنانيين من أصول أرمنية” يقتنعون عبر التاريخ، بأن مصلحتهم الدائمة كأرمن هي مع السلطة.. فإذا بهم في الثورة يهتفون بوجهها في الساحات، مثلهم مثل كل اللبنانيين الذين تجردوا من إنتماءاتهم “الطائفية”، مطالبين بالحقوق.
خيارات حزب الطاشناق
تنظر الفئات الأخرى من الأرمن بالمقابل، سواء في الأحزاب المعارضة للسلطة، أو من خارجها، بعين الرضا إلى تراجع دور حزب الطاشناق في الطبقة الحاكمة بأرمينيا، ليؤشروا بكل ارتياح، إلى أخطائه “المميتة” التي ارتكبها، بحق الأرمن “المشرقيين”…
بالنسبة لهؤلاء، فإن دعم حزب الطاشناق “للنظام السوري” لم يحافظ على وجود أرمن حلب، وإن حماهم مرحلياً من الاعتداءات المباشرة للتكفيريين. وعليه فهم ليسوا واثقين كلياً من أن وقوف “الطاشناق” حالياً إلى جانب السلطة، المتمثلة في أعلى هرمها برئيس الجمهورية، يحفظ للأرمن “حقوقهم” التي طالما شكوا من عدم مساواتها مع باقي الحقوق، وخصوصاً فيما يتعلق بالوظائف العامة، والتعيينات في السلكين العسكري والقضائي وغيرها.
انطلاقاً من هذا الواقع، انتشر منذ مدة تسجيل صوتي لأحد الأرمن في إتصال مع البطريركية الأرمنية في لبنان. أرمني يرفض الإفصاح عن إسمه، يتساءل خلاله ما إذا كانت هذه البطريركية تشعر بما يعانيه أبناؤها من أوضاع مزرية..
تلقف المجتمع المدني هذا التسجيل، ليزيل “الصورة النمطية” التي ألصقت الأرمن بالسلطة، ويقول لا.. أرمن لبنان لا يختصرون بالموقف الرسمي لحزب الطاشناق، وأنهم موجودون في الساحات، يشاركون بفعالية في ثورة اللبنانيين، ويهتفون معهم للمطالبة بحقوقهم. وهم لا ينزلون إلى الساحات كأرمن، لا كأحزاب ولا كمناطق وأحياء تعرف بأسمائهم، وإنما كل فرد منهم كمواطن، يريد أدنى حقوقه ليعيش في بلده بكرامة. من دون أن ينفي ذلك التمايز الواضح بالنسبة للثوار الأرمن في التعبير عن موقفهم، وخصوصاً في المجتمعات الصرف الأرمنية، كعنجر وبرج حمود..
يستشعر حزب الطاشناق هذا النبض في شارعه، كما يؤكد قريبون من الحزب، ويطالبون بمراجعة خطابات ممثليه منذ أكثر من سنة، للتأكيد على أن الحزب، الذي يريد الحفاظ على قاعدته الأقوى في لبنان، لم يكن بعيداً عن وجع الناس، وهو حزب نابع من الشعب، وقيادته مستمدة من الشعب، ومن خلال الانتخابات التي تتجدد كل سنتين، لتضعه في موقع المحاسبة الدائمة من قبل الشعب.
ذلك لا يعني أن هذا الحزب قادر على ملاقاة شعبه في ثورة اللبنانيين بوجه السلطة. ما يفتح الباب واسعاً أمام حالة غير مسبوقة من “تفلت” جمهوره، وخصوصا الشباب منهم، والذين تحرروا من حالة “الولاء الأعمى” السائدة سابقا، ليضعوا الحزب في موقع الملزم على إثبات صدق ما ينقل على لسان رئيسه هاكوب بقرادونيان، في كلمة ألقاها تأييداً للثورة المخملية velvet revolution في أرمينيا سنة 2018، حين قال “نحن مع الشعب الأرمني” ، فيلاقي جمهوره في الشارع اللبناني، للضغط على السلطة، كي تتجاوب مع مطالب الشعب هنا أيضا…
الموقف من التيار العوني
في صفوف الحزبيين بالمقابل، هناك من يتحدث عن صراع جناحين في الحزب، أحدهما يطالب بالانسحاب من تكتل لبنان القوي، والثاني لا يزال متمسكا بهذا التواجد في التكتل، معللا ذلك بدعم الموقع المسيحي الوحيد الذي لا يزال يمثله رئيس الجمهورية في لبنان..
ومع ذلك ثمة من يلفت إلى أن وجود حزب الطاشناق في تكتل لبنان القوي، لا يعني ذوبانه الكلي في التكتل، ويتحدث عن مواقف كثيرة ميز من خلالها الطاشناق نفسه عن التكتل، إنطلاقا من خصوصيات تاريخية، تجعله حريصاً على عدم الذهاب في موقف متطرف بوجه أي فئة من فئات اللبنانيين..
يحرص مناصرو الطاشناق من المؤيدين للثورة في المقابل، على عدم هدم الهيكل عى رأسه، ليبقى تأييدهم لهذه الثورة ضمنياً، ملتزمين بخطاب عام يقول “أننا مع الثورة، ولكن لا نوافق على كل أساليبها، وخصوصاً فيما يتعلق بإغلاق الطرقات، وإطلاق الشتائم”. وانطلاقاً من هنا، تجد أن الثوار الأرمن في عنجر، لم يلاقوا شباب جارتهم “مجدل عنجر” سوى مرة واحدة في الشارع، إنكفؤوا بعدها في قريتهم، من دون أن يُسمع لهم صوت، سوى أصداء تلك النقاشات التي تدور بين بساتين البلدة. بعضها يعبر عن موقف جيل سابق، لا يزال يدافع عن السلطة لمجرد وجود حزبه فيها، والآخر يلومها على كل ما يعاني منه الشباب من ضيق وفقر ونقص في فرص العمل، وكلا الفريقين لم يسمعا كما يؤكدان موقفاً واضحاً من القيادة الحزبية عن موقعها مما يجري حاليا في لبنان.
في برج حمود
وإذا كانت هذه حال عنجر، فإن الوضع لا يختلف في برج حمود. هذه المحلة التي تقول أربي مانغاساريان صاحبة واحد من أشهر المطاعم في المحلة، أنها لم تعد تشبه نفسها.
تأسف مانغاساريان لإقفال قسم كبير من المؤسسات في منطقة تعد من الأكثر فقراً، مشيرة إلى أن نحو تسعة محلات على طريق مطعمها أغلقت منذ أشهر. وصارت برج حمود مقصد المعدمين، ليس فقط من الأرمن إنما من مختلف اللبنانيين ومن جنسيات عربية وأجنبية اخرى.
ومن هنا لا تجد مانغاسريان حرجاً في المجاهرة بإنتمائها للثورة، معيدة ذلك إلى تحررها من الأحزاب “كلهم يعني كلهم”، والتي تعتبر انها لم تجلب للبنان سوى الويلات.
في المقابل يبدو الأرمن خارج التجمعات المغلقة، كزحلة وأنطلياس وجل الديب، ومعظم مناطق المتن، أكثر تحرراً في التعبير عن مواقفهم المؤيدة للثورة. وقد انخرطوا في حراكاتها الواسعة، لغة وتواصلا وشعارات…
في أرمينيا نفسها
تمارا زوبويان واحدة من المتحمسات، تشير إلى العلامة الفارقة التي يشكلها الأرمن في هذه الثورة بنقل صوتهم حتى إلى جذورهم، حيث نُفذت عدة اعتصامات في أرمينيا لم تذكرها وسائل الإعلام، ولكنها شكلت مؤشرا إلى عدوى الثورة التي انتقلت إلى هناك، للمطالبة بتحسين أوضاع البلد الذي حضنهم منذ أكثر من مئة سنة. وتأسف تمارا إلى الإضاءة على تظاهرات اللبنانيين في كل العالم إلا في أرمينيا، ما أظهر الأرمن كفئة منعزلة عن الثورة، وهذا ليس صحيحاً.
وتؤكد تمارا أن مشاركة الأرمن تأتي كأفراد، تماماً كثورة اللبنانيين المتحررة من كل الكوادر التنظمية، وتقول: كما أن جميع اللبنانيين رموا رايات الأحزاب التي فرقتهم، كذلك فعل الأرمن في نزولهم إلى الشارع. مؤكدة أن ثوار جل الديب يضمون في صفوفهم معظم أرمن المتن إذا لم نقل جميعهم.
لا عزلة
خلاصة الأمر أن محاولة تصوير أرمن لبنان كـ”بلوك” إجتماعي مغلق، لم تعد تجدي في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، والتفاعل الإعلامي، والتركيز على الساحات، التي وجد فيها اللبنانيون عموماً، وحتى المؤيدين للسلطة، ما يعبر عن وجعهم من أداء هذه السلطة. وبالتالي لم يعد جائزا الحديث عن اللبنانيين من أصول أرمنية، كفئة منعزلة عن المجتمع اللبناني العام.
وما تردُد قسم جبران تويني “أقسم بالله العظيم” وباللغة العربية في شوارع يريفان في أرمينيا، سوى واحد من مظاهر هذا النبض الذي أشعلته الثورة في قلوب اللبنانيين، أينما وجدوا في العالم. وأرمينيا هي جزء من هذا العالم.
بقلم: لوسي بارسخيان
نقلا عن: almodon.com