مبادرة انتهازية جديدة أعلنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تجاوز فيها كل الأعراف السياسية والديبلوماسية والانسانية والاخلاقية، حين وجّه دعوة الى زعماء العالم لحضور نشاطات الذكرى المئوية لحرب غاليبولي (دردنيل) في 24 نيسان المقبل، في تزامن مفتعل مع احياء الدولة الأرمينية “الذكرى المئوية لإبادة الأرمن” في اليوم نفسه.
والأنكى ان اردوغان لم يوفر بدعوته حتى رئيس أرمينيا، الدولة التي يدور بينها وبين تركيا نزاع ديبلوماسي بسبب رفض الأخيرة الاعتراف بحصول “إبادة” في حق الارمن في المجازر التي تعرضوا لها في عهد السلطنة العثمانية عام 1915 وقتل فيها مليون ونصف المليون من الابرياء الأرمن، واثارت الدعوة غضباً واستياء عارمين في العاصمة الارمينية يريفان التي رأت فيها محاولة تركية “لتزوير التاريخ”.
ويحاول البعض الايحاء أن السبب في التوتر الجديد بين يريفان وانقرة، اللتين لا تقيمان علاقات ديبلوماسية، هو مصادفة تاريخية مع ذكرى إبادة الأرمن في 24 نيسان 1915، في حين أن معركة غاليبولي اندلعت يوم 18 آذار من العام نفسه، بإنزال نفذته قوات انكليزية ونيوزيلاندية واوسترالية وفرنسية في شبه جزيرة غاليبولي الواقعة حالياً في شمال غرب تركيا، وليس في 24 نيسان، حيث يسعى الرئيس التركي الآن الى إرباك المجتمع الدولي، وإحراج رؤساء الدول لثنيهم عن الحضور الى أرمينيا والتوجه الى اسطنبول.
وفي رده على الدعوة التركية، قال الرئيس الارميني سيرج سركيسيان، بحسب ما أعلنت الرئاسة الارمينية، أن اردوغان اغتنم هذه المصادفة التاريخية “لتحويل انظار العالم عن الأنشطة المصاحبة للذكرى المئوية للابادة”، مندداً “بسياسة الانكار التقليدية التي تنتهجها انقرة”، وأضاف انه “سبق له وأن وجه دعوة الى اردوغان للمشاركة في الذكرى المئوية للمجازر في 24 نيسان المقبل في يريفان، وانه ليس من عادته أن يلبي دعوة ضيف لم يلب هو نفسه دعوة سبق ان وجهت اليه”.
كما ندد بالخطوة التركية “مجلس تنسيق المنظمات الارمنية العالمية” الذي يمثل أرمن المهجر، معتبراً توجيه اردوغان دعوات الى قادة العالم للمشاركة في ذكرى المعركة “اطلاق نار ديبلوماسياً معاكساً” هدفه “احباط المشاركة المتوقعة لقادة الدول الاجانب في هذا اليوم في يريفان”.
ووصف الكاتب الشهير في صحيفة “اندبندنت” البريطانية روبرت فيسك دعوة تركيا بـ”الجنون السياسي”، وقال في مقال له بعنوان “ـ توقيت احياء ذكرى جناق قلعة مبادرة مخزية لإخفاء إبادة الأرمن”: في الوقت الذي يخطط فيه زعماء العالم لاحياء ذكرى الحرب العالمية الاولى التي جرت من أجل جناق قلعه هناك خطر غياب احياء ذكرى أخرى هي ابادة الارمن وصرف الانظار عنها.
وأعاد فيسك الى الأذهان ان الرئيس التركي السابق عبدالله غول احتفل عام 2013 بالذكرى الثامنة والتسعين لحرب جناق قلعه (كاليبولي) في 18 آذار، وواصل انتقاده لموقف تركيا قائلاً: “لم يقل أحد في تركيا حينها في عهد غول ان ثمة ضرورة للاحتفال بذكرى حرب جناق قلعه في 24 نيسان”.
ولا تختلف مبادرة الرئيس التركي عن إبادة الأرمن من حيث الدعوة الى إلغاء الآخر وإقصائه، عدا كونها فذلكة فجة مكشوفة وفاضحة، تفتقر الى أدنى درجات الانسانية والضمير، ولهذا أناشد رؤساء الدول والمنظمات الانسانية والافراد من كل الشرفاء في العالم مقاطعة المناسبة التركية المصطنعة، والاختيار بين الحق والباطل، كي لا نشارك في تزوير التاريخ وتحويله مماحكات سياسية، وإهانة أرواح مليون ونصف المليون من الشهداء.
وينبغي عدم الاستهانة بالتواريخ الانسانية وتحويلها مزايدات مغرضة من السياسيين الانتهازيين، ويجب على منظمة الأمم المتحدة الحرص على حفظ هذا التاريخ، يوم 24 إبريل، وتحويله مناسبة سنوية لتذكير العالم بشهداء الأرمن، كي لا تتكرر هذه المأساة.
وعلى الجمهورية الأرمنية، دفاعاً عن النفس، وتمجيداً لأرواح الشهداء الأبرياء، القيام بحملة سياسية وديبلوماسية واعلامية واسعة، لفضح التلاعب التركي المكشوف، الذي يأتي كذلك في تعارض واضح وفاضح مع سياسة “تصفير المشاكل مع الجيران” التي تدعي أنقرة تطبيقها!
ولعل من المفيد التذكير بأن الاميركيين يحضرون الذكرى السنوية لإلقاء القنبلة الذرية على مدينة “هيروشيما” في لبنان، ويشارك المسؤولون الألمان في ذكرى “الهولوكوست”، في حين لم يستطع الرئيس أردوغان الارتقاء الى هذه الدرجة من النبل والشهامة ومواجهة الواقع والحقيقة، وما زال النظام التركي يتبع أسلوب الإنكار والتحايل مع التطهير العرقي والإبادة التي أرتكبت في حق الشعب الأرمني في سنوات أفول الامبراطورية العثمانية.
ورغم كل هذا الحيف والظلم والجور من جانب الأتراك، الذين باتوا رديفاً للمعاناة بالنسبة لشعبنا منذ أكثر من 600 عام، والبلاء الذي يلاحقهم ويستكثر عليهم حتى أحزانهم، فإن الشعب الأرمني لم ينهزم ولن يلين، فالاستعدادات قائمة على قدم وساق في جمهورية أرمينيا وعند أرمن المهجر، لإحياء هذه المناسبة التاريخية الأليمة، وتقديم أفضل ما لديهم من مبادرات، لإبقاء هذه القضية حية وخالدة، كي لا يفلت المجرمون من العقاب، ولا تنجح مساعيهم في تغييب حقوق شعبنا. _ المجد والخلود لشهدائنا الأكرمين، ولا عزاء للطغاة والظالمين.
بقلم: كارو قيومجيان / نقلا عن صحيفة النهار اللبنانية