20679.jpg

وزير لبناني سابق: رجوع جمال باشا

وزير لبناني سابق: رجوع جمال باشا

ما إن تحدث رئيس الجمهورية عن “إرهاب الإمبراطورية العثمانية في لبنان”، حتى انبرت فئات سياسية ودينية تنتقده وتدافع عن الاحتلال العثماني كأنها تحن إلى الإنكشارية والسكمان والسنجقيات والولايات، وإلى “أشمل”… لست معنيا بتأثير موقف الرئيس عون من العثمانيين على العلاقات اللبنانية/التركية التي نحرص عليها، بل بفضحه العلاقات بين اللبنانيين. صدمة كبيرة أن نجد لبنانيين، وقد مرت مئة سنة على تحررهم، ينتفضون غيارى على السلطنة العثمانية التي احتلت لبنان مدة 400 سنة. كيف لهؤلاء الأشخاص أن يحبوا جلاديهم ومحتليهم على حساب الوطن؟ اللهم إلا إذا كانوا ودائع عثمانية.

أفهم، ولو بصعوبة، أن نختلف على الانتداب الفرنسي، فالبعض كان يعتبره رعاية دولية؛ وعلى الوجود الفلسطيني، فالبعض كان يعتبره حالة لجوء؛ وعلى الاحتلال السوري، فالبعض كان يعتبره وصاية شرعية؛ وعلى القومية السورية، فالبعض يعتبرها هلال الحضارة؛ وعلى القومية العربية، فالبعض يعتبرها “جسد الإسلام”.. لكن أن نختلف على ظلم العثمانيين، فيعني أن لم يبق شيء نتفق عليه. هذه طعنة لا لشهداء تلك الأزمنة السوداء فقط، بل للشراكة الوطنية. وإذا الذين تسابقوا لتبييض صفحة العثمانيين لا يمثلون بيئتهم، فليبادر من يمثلون تلك البيئة إلى إسماع صوت الوطنية، والوفاء للشهداء، والولاء للبنان دون سواه.

هل كان المسيحيون هاجموا رئيس وزراء لبنان لو انتقد المرحلة الصليبية أو إيطاليا مركز دولة الفاتيكان؟ ننتقد شيعة حزب الله لأنهم يناصرون الفرس، فلم البعض يصون عرض العثمانيين وقد انتهكوا أعراضنا؟ هل استبدلت العروبة بـ”العثمنة”؟ قد نجد مبررا لو حفظتم ذكرى إمبراطورية عربية نقلت إلينا الحضارة والحداثة، أما أن تدافعوا عن إمبراطورية عثمانية شكلت مع المماليك، في التاريخ العربي – الإسلامي، عصر الانحطاط الذي امتد من سنة 1258، تاريخ سقوط بغداد، حتى سنة 1798، تاريخ حملة نابليون على مصر، فهذه سقطة عظمى. لقد احتقرت السلطنة العثمانية العرب، وأذلت خليفة المسلمين المتوكل على الله، وقهرت اللبنانيين وقتلت منهم مئات الآلاف.

هل كان يجدر برئيس دولة لبنان أن يصف مرحلة الاحتلال العثماني بالفترة الذهبية؟ بزمن الحرية والورد الجوري؟ وماذا عن اجتياح العثمانيين جبل لبنان سبع مرات في حقبة المعنيين سنوات 1523 و1544 و1585 و1607 و1613 و1614 و1633؟ وماذا عن سحق حركة تحرر الأمير فخر الدين الثاني ثم قتله سنة 1635؟ وماذا عن اضطهاد والي عكا أحمد باشا الجزار الشهابيين؟ وماذا عن الإيقاع بين المسيحيين والدروز والمشاركة في مذابح 1840 و1842 و1845 و1860؟ وماذا عن مجازر جمال باشا ومجاعة الجبل في الحرب العالمية الأولى؟ وماذا عن شهداء ساحة الشهداء؟ ألغيتم عيدهم في 6 أيار – ويا للعار – لكنكم لا تستطيعون إلغاء الشهداء.

زعم أحدهم أن السلطنة العثمانية كانت مركز الخلافة الإسلامية ولا يجوز، بالتالي، التهجم عليها. هذا دفاع أسوأ من تهجم، إذ هو يحمل الخلافة مسؤولية ما اقترفه العثمانيون فيما هي منه براء. سلطنة المماليك كانت مركز الخلافة أيضا، فهل هذا التلازم يحلل التفسيرات التكفيرية لابن تيمية (ولد في تركيا)، وحملات المماليك على جبال لبنان من الشمال حتى الشوف مرورا بكسروان بين سنتي 1292 و1310 لقتل الدروز والشيعة والموارنة؟ وهل يحلل لهم حرق البطريرك الماروني لوقا البنهراني (1283) والبطريرك جبرائيل الحجولاوي (1367)؟
هناك التباس كبير حول علاقة السلطنة العثمانية بالخلافة الإسلامية العربية. أثناء معركة “مرج دابق” سنة 1516، قبض السلطان العثماني سليم الأول، على الخليفة المتوكل على الله واصطحبه إلى مصر ثم إلى إسطنبول ونفاه إلى الريف التركي البعيد. وقبيل نفيه، انتزع منه البردة (معطف الخلفاء) والذخائر النبوية (العصا والحذاء والخاتم وخصلة من الشعر). وبعد موت السلطان والخليفة، حصل خلاف حول مصير الخلافة: العثمانيون ادعوا أن المتوكل تنازل عنها للسلطان سليم الأول، والمسلمون العرب نفوا ذلك ومؤرخو تلك الحقبة لم يجزموا به. أما أهل الفقه فاعتبروا أن تنازلا غير مرفق بالبيعة لهو موضوع طعن.

سواء أكانت السلطنة العثمانية مركز الخلافة الإسلامية أم لا، إنها دولة الاحتلال والمذابح في لبنان. وحين نتكلم عن السلطنة لا نعني تركيا اليوم. فالجمهورية التركية الحالية – على الأقل حتى مجيء أردوغان – هي وريثة تركيا أتاتورك وليس تركيا العثمانية. واستنادا إلى هذه القطيعة الوراثية رفضت تركيا الاعتراف بمسؤوليتها عن الإبادة الأرمنية سنة 1915. وأصلا، إن لبنان يتعاطى مع دولة تركيا الجديدة كدولة صديقة ويعتبر علاقاته معها ضرورية ومفيدة وتقدم له خيارات استراتيجية. لذلك لا يفترض بحكومة تركيا أن “يأخذ على خاطرها” إذا انتقدنا السلطنة العثمانية. هل تغضب حكومة ألمانيا حين يندد الأوروبيون بألمانيا النازية؟ لا تستطيع السلطنات والأنظمة القمعية أن تضطهد الشعوب وتنتظر منهم الشكر والعرفان.

يبقى أن هذا السجال كشف، مرة أخرى، هزال الوحدة الوطنية اللبنانية وأضاف حجة جديدة إلى ملف المشككين بجدية ولاء جميع اللبنانيين للبنان. سؤال أخير: هل إذا انتقدنا إسرائيل نغيظ أحدا؟

بقلم: سجعان قزي (وزير لبناني سابق)
نقلا عن: صحيفة الشرق الأوسط.

scroll to top