كشف المؤرخ الإسرائيلي “بني موريس” في حوار موسع أجرته معه صحيفة “هآرتس” ونشرته بتاريخ 15 يناير الجاري عمّا اعتبره أدلة جديدة موثقة على ارتكاب الأتراك مذابح مروعة ليس ضد الأرمن فقط بل أيضاً ضد الأشوريين واليونانيين وعن أن هذه المذابح استمرت لثلاثة عقود، مستهدفة الوجود المسيحي في الفضاء التركي، وعن أن مصطفى كمال أتاتورك كان متورطاً فيها.
يحتفل المؤرخ بني موريس بعيد ميلاده الـ70 ويغادر السلك الأكاديمي، قبل وقت قصير من نشره دراسة تكشف ارتكاب الأتراك إبادة جماعية على مدى 30 عاماً.
على مكتب بني موريس، في منزله في مستوطنة سريغيم، جنوب غرب بيت لحم جنوبي الضفة الغربية، وضع كومة كبيرة من الأوراق. هناك 700 صفحة على وجه الدقة ينكبّ موريس في هذه الأيام على تدقيقها لغوياً.
على الورقة الأولى يظهر عنوان مروّع باللغة الإنكليزية The thirty year genocide، أي 30 عاماً من الإبادة الجماعية. عمل موريس تسع سنوات على دراسته الجديدة بالتعاون مع المستشرق درور زئيفي، من قسم الدراسات الشرق أوسطية في جامعة بن غوريون.
وكما هو الحال دائماً مع موريس، تشمل الدراسة اكتشافات مثيرة، من النوع الذي سيخلّف أصداءً تنتقل بسرعة من العالم الأكاديمي إلى العالم السياسي. لكن هذه المرة، لم يستهدف المؤرخ البارز النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. يقول بابتسامة: “انتهيت من هراء اليهود والعرب، كتبت ما يكفي حول الموضوع”.
موريس وجّه سهامه هذه المرة صوب هدف آخر، ليس بعيداً: تركيا. على جدول الأعمال: الإبادة الجماعية التي استمرت 30 سنة متتالية، بين عامي 1894 و1924، والتي وصل عدد ضحاياها إلى ما بين 1.5 و2.5 مليون مسيحي، بينهم أرمن وأشوريون ويونانيون. والمسؤولون عن ذلك وفقاً لموريس، هم الأتراك وشركاؤهم المسلمون، بما في ذلك الأكراد والشركس والشيشان والعرب.
يقول موريس: “يعترف عامة الناس، بوجه عام، فقط بالإبادة الجماعية للأرمن التي وقعت بين عامي 1915 و1916. في الدراسة الجديدة نزعم ونظهر، أن هذه المذبحة لم تكن حدثاً لمرة واحدة، بل جزءاً من سلسلة أحداث أوسع وأعمق، استمرت ثلاثين عاماً، وكان الغرض منها التخلص من الأقلية المسيحية في تركيا. ثلاثة أنظمة تركية عملت على ذلك، بدءاً من الإمبراطورية العثمانية وصولاً إلى جمهورية أتاتورك”، مضيفاً: “النتيجة صادمة: في بداية العملية شكل المسيحيون 20% من سكان الفضاء التركي. وفي نهايتها أصبحوا 2% فقط”.
“إنه لأمر مدهش للغاية، لكنني أعتقد أنها المرة الأولى التي تتم فيها دراسة هذا الموضوع، وحتى الآن ركزوا جميعهم تقريباً على الأرمن فقط، كون الأرمن شعباً مستنيراً ومتعلماً، ما شجع المؤرخين على الكتابة عمّا حدث لهم. أما اليونانيون فلم يكونوا كذلك على ما يبدو، لذلك لا يعلم الناس شيئاً عمّا جرى لهم. قُتل مئات الآلاف منهم، كذلك قتل نصف الأشوريين في الإمبراطورية العثمانية، فتراجع عددهم من 600 ألف إلى 300 ألف. يدور الحديث عن أعداد ضخمة، لا يعرف عنها الناس شيئاً”.
عندما سُئل على وجه التحديد عن العدد “بين 1.5 و2.5 مليوناً” الوارد في الكتب، اعترف موريس أن “جميع الأرقام، بما في ذلك تقديراتنا، إشكالية”. ووفقاً له، تستند الأرقام على أعمال المؤرخين والإحصائيين الأتراك واليونانيين والأرمن الذين بحثوا كم من أبناء شعوبهم يعيشون في تركيا قبل وبعد الفترة محل الدراسة، وكم عدد مَن طُردوا منها، وكم عدد مَن تلاشت آثارهم. ويقول موريس “إن استنتاجنا بأن ما بين 1.5 و2.5 مليون مسيحي قتلوا بين عامي 1894 و1924 هو تقييم حذر”.
قلب الأرشيف رأساً على عقب
تثبت دراسة موريس الجديدة أنه دائماً ما التزم بعلم التأريخ الأصلي الذي اتبعه، ذلك الذي يقلب الأرشيف رأساً على عقب بحثاً عن الحقيقة التي تم تشويهها أو إخفاءها أو إعادة كتابتها على يد أصحاب المصالح. يقول: “خضعت المحفوظات التركية للرقابة من قبل أجيال من الأتراك بداية من الحرب العالمية الأولى، عندما حرص الزعماء المتورطون في الإبادة الجماعية على حرق أو إخفاء التوثيق المشين”. في الأجيال التالية كما يقول، حرص الأتراك “على إعادة ترتيب” أرشيفهم و”حذف المواد التي تنطوي على إدانة والأشياء الخطيرة منها”.
سيكون من الصعب قراءة الدراسة الجديدة التي ستُنشر في أبريل المقبل في كتاب تصدره جامعة هارفارد بالإنكليزية، فهي تتضمن أدلة على القتل الجماعي والتهجير الفتاك، وجرائم الاغتصاب، والاختطاف والتغيير القسري للدين. تلك الأشياء اختبأت على مدى عقود من الزمن داخل آلاف الوثائق التركية والأمريكية والبريطانية والألمانية التي كتبها قناصل ومسافرون وضباط ومبشرون ورجال أعمال، تجوّلوا في المنطقة وأفادوا في الوقت الحقيقي بما رأته أعينهم.
أحد هؤلاء هو الدبلوماسي البريطاني جيرالد فيتزموريس الذي زار مدينة أورفا جنوب شرقي تركيا مطلع عام 1896، بعد بضعة أشهر على قتل نحو سبعة آلاف من سكانها الأرمن. “بدت أورفا كمدينة ضربها وباء مروّع بشكل يفوق أي حرب أو حصار”، ينقل موريس، ويضيف: “كانت المتاجر التي تم اقتحام أبوابها ونفواذها مهجورة وفارغة. ولا يكاد يُرى أي رجل… فقط أطفال ونساء جوعى يرتدون ملابس بالية مع نظرة خوف على وجوههم ويبحثون على الخبز الحاف”.
وفقاً لتقارير أخرى عن المجازر ذاتها، والموثقة في الكتاب الجديد، اقتحم جنود أتراك، برفقة غوغاء مسلمين جرى تحريضهم، كنيسة أرمنية في المدينة، وأطلقوا النار تجاه المصلين داخلها، وهم يصرخون: “الآن بإمكان يسوع أن يثبت أنه نبي أعظم من محمد”. ولاحقاً أضرموا النيران في المكان. بعض المصلين تمكنوا من الفرار عبر السقف، آخرون تم إخلاءهم من المكان كجثث، في أكياس مليئة بالعظام والرماد.
ثمة مؤرخون يونانيون يزعمون أن نحو مليون من أبناء شعبهم قُتلوا في تركيا بين عامي 1914 و1924، لكن هذه الادعاءات ليست معروفة للجمهور الواسع، ولا أحد سوى موريس قال إن قتل اليونانيين والأشوريين كان جزءاً من خطة استمرت ثلاثة عقود. ويستند في ذلك على تقديرات بأن نحو مليوني يونانياً كانوا يعيشون في تركيا قبل الحرب العالمية الأولى، وعاد نصفهم إلى اليونان كمنفيين أثناء الحرب وبعدها. يقول موريس: “أولئك الذين لم يأتوا إلى اليونان قُتلوا، كما يقولون (المؤرخون اليونانيون)”. ومع ذلك، يعترف أنه لا توجد طريقة للتحقق من الرقم ويقدر أن الحديث يدور عن مئات الآلاف.
في يونيو 1922، أفاد المبشرون الأمريكيون من منطقة بونتوس (أحد أقاليم آسيا الصغرى الشمالية، جنوب البحر الأسود) بأن جميع قرى المنطقة التي يقطنها اليونانيون صارت خاوية على عروشها. وقدر أن ما يقرب من 70 ألف شخص من اليونانيين الذين تم طردهم، مرّوا عبر مدينة سيواس (وسط تركيا) بمعدل 1000/ 2000 شخص في الأسبوع. النساء والأطفال الذين شوهدوا هناك بدوا “جائعين، يعانون من البرد، مرضى، عراة تقريباً… حتى أنهم لم يشبهوا البشر تقريباً”.
روت إحدى النسوة من منطقة بيرا (الاسم القديم لمنطقة بايوغلو الواقعة على الجانب الأوروبي من إسطنبول) أنها شاهدت أطفالاً تجمدوا حتى الموت. وقالت مبشرة أخرى وصلت إلى سيواس في أغسطس 1921: “عبرنا الأناضول تحت الشمس الحارقة عبر مجموعات يقودها رجال الدرك الأتراك. جثث مَن ماتوا خلال الرحلة القاسية تكدست على جانبي الطريق. أكلت النسور جزءاً من لحمهم، وفي معظم الحالات بقيت الهياكل العظمية فقط”.
لاحقاً، قابلت (المبشرة) مطرودين في منطقة هاربوت (في ولاية إلازيغ وسط تركيا) ووصفتها بأنها “مدينة مليئة ببقايا بشر جائعين ومرضى ومساكين”. وعلى حد قولها، “حاول أولئك الناس إعداد الحساء من الحشائش وكانوا سعداء عندما استطاعوا أن يضيفوا إليه أذن خروف. لن أنسى منظر الأذن السوداء التي يكسوها الشعر والتي كانت تطفو على الماء، وأولئك المساكين الذين حاولوا إطعام أنفسهم بفضلها”.
وأضافت أن الأتراك جعلوهم يتضورون جوعاً في المسيرة التي بلغت مسافتها نحو 800 كيلومتر. مَن كان يملك المال لرشوة الحراس هو مَن نجا. “مَن ليس لديهم النقود ماتوا على جانبي الطريق وفي أماكن عدة، ظمأى تحت لهيب الشمس الحارقة، منعهم الأتراك من الشرب”، تقول سيدة أمريكية عملت في المنطقة.
يشير موريس إلى أن الكثيرين في تلك القوافل لم يموتوا نتيجة التجويع أو الإرهاق، بل قتلوا بشكل متعمّد من قبل الأتراك. قال أحد الناجين من المذبحة التي وقعت في منطقة مدينة سامسون الساحلية (شمالي تركيا)، أنه تظاهر بالموت وأن 660 شخصاً أعدموا أمام عينيه. وأضاف: “جردنا الحراس من الملابس وتركونا فقط بالقمصان والملابس الداخلية التي كانت غارقة في الدماء”.
يقول ناج آخر كان عمره وقتها 19 عاماً إن القافلة التي طُرد معها تم إيقافها في أحد الأيام و”بدأ الحراس فجأة في إطلاق النار. ثم استخدموا السيوف والخناجر لتأكيد القتل”، مشيراً إلى أن نحو 300 شخص فقط نجوا من تلك المذبحة من بين ألف.
موريس مرّ أيضاً على إفادات البحارة الأمريكيين الذين جابوا البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، ورسوا في الموانئ التركية. يقول: “لقد تحدثوا إلى القادة المحليين، الأتراك واليونانيين والأرمن، واستمعوا لما يجري وقاموا بتسجيله في سجلات السفن. كان كل شيء منظماً للغاية”. وهكذا، بعد مئة عام، وجد موريس في الأرشيف الأمريكي سجلاً لم يسعَ أحد للعثور عليه سابقاً، حول طرد وقتل جماعي لليونانيين على يد الأتراك، وفقاً لما أفاد به الأمريكيون الذين وصلوا إلى هناك بالصدفة.
وثائق أخرى وضع موريس يده عليها كُتبت بيد ألمان، وثّقوا عام 1916 التصفية المنهجية لعشرات الآلاف من الأرمن الذين نفاهم الأتراك في قوافل إلى الصحراء السورية. يقول موريس: “الألمان الذين تواجدوا في تلك المنطقة خلال تلك الفترة كتبوا ما رأوه وأرسلوا إفاداتهم إلى القناصل الألمان الذين نقلوها بدورهم إلى سفارة ألمانيا في إسطنبول أو إلى برلين”. هكذا وصلت إلى يديه أدلة على جمع الأرمن من المخيمات والقرى التي أرسلوا إليها بعد أشهر من السير، وقتلهم على بعد بضعة كيلومترات من هناك.
“بشكل ما ظلت صورته ثابتة ومحفوظة لدى الغرب كرجل مستنير، لكنه كان الرجل الذي حرص على قتل آخر الأرمن الذين ظلوا في تركيا، وتسبب أيضاً في قتل مئات الآلاف من اليونانيين والأشوريين ونفي الكثيرين غيرهم. أتاتورك الذي اعتُبر معادياً للإسلام، استخدم الإسلام لتنفيذ تلك المؤامرة، وهو مَن صفّى بقايا الجالية المسيحية في تركيا. مع ذلك فإن هذا الأمر، التطهير العرقي، لم يلتصق به”.
الوثائق التركية المتعلقة بعمل أتاتورك محفوظة في أرشيف الجيش التركي في أنقرة ومغلقة أمام الباحثين. لكن شهادات الدبلوماسيين والمبشرين الغربيين تؤكد أنه قال عدة مرات، في حضورهم ولهم، إنه يريد تركيا “نظيفة من المسيحيين”، وإنه أمر بسياسة تقود إلى ذلك، من خلال النفي أو المذابح.
الدليل الأقوى الذي عثر عليه موريس على تورط أتاتورك كانت حقيقة أن جنوده نفّذوا “بشكل منهجي وعلى عدة موجات مذابح جماعية وعمليات ترحيل جماعي، ولم يعاقَب أي تركي على ذلك”. ووفقاً له، فإن “أتاتورك سيطر على تصرفات الجنود تماماً في تلك السنوات”.
(في الحوار معه، تحدّث بني موريس أيضاً عن الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين وعن أن اليهود سيصبحون “أقلية مضطهدة” داخل إسرائيل، متوقعاً زوال الدولة العبرية في غضون 30 إلى 50 عاماً، وقد نشرنا هذا الشق في مقال مستقل)
المصدر: https://raseef22.com