في كتابه “جروج مفتوحة/ الأرمن والأتراك قرن من الإبادة”، اختار الباحث فيكين شيتريان، أن يتطرق بشمولية عن القضية الأرمنية، وثمة جانب لافت يتناوله الكتاب، وهو التحول القسري لآلاف الأرمن إلى الإسلام في خضم المجازر التي حصلت بحقهم عام 1915، وبرز بازاء هذا ما يسمونه مفارقة “الأرمن المسلمين”، أو الأرمن المنسيين (بحسب توصيف بعض الكتاب الارمن)، والتي يعنون بها هؤلاء الأرمن الذين ولدوا مسلمين بسبب اضطرار أجدادهم إلى إعتناق الإسلام دينا (بالإكراه) إما ليتجنبوا الإبادة أو لأنهم كانوا صغارا وقامت السلطات العثمانية بتنشئتهم مسلمين ضمن الأتراك… هذا الموضوع بات يطرح بقوة في السنوات القليلة الماضية، ليس فقط في تركيا بل وأيضا في بعض دول الشرق الأوسط مثل سوريا والعراق، إذ بدأ الكثير من هؤلاء يكتشفون عن أصولهم الحقيقية، ويرغبون العودة إلى الجذور.
والحال أن التحوّل القسري من دين إلى دين، أو طائفة إلى طائفة، فيه الكثير من المد والحذر والدراما عبر التاريخ، من التحوّل الجماعي للسامريين إلى الاسلام (كذلك قد أرغموا على التحول الى المسيحية في ظل الامبرطورية البيزنطية) وأرغم السنّة على التشيّع (في ظل الشاه اسماعيل الصفوي بين 1501 و1524) ما إن أصبح حكام بلاد فارس من الشيعة، في ظل الصفويين، وتحول المسيحييون الشرقيون إلى الإسلام، وإلا اضطروا إلى دفع الجزية أو ان يواجهوا التصفية المباشرة. رواية “ليون الأفريقي” لأمين المعلوف، تعبّر خير تعبير عن التحول الديني في العالم، فعند تنصر الحسن الوزان أطلق عليه البابا اسمه (جيوفاني ليوني أو يوحنا الأسد)، بينما يرى بعض المؤرخين أن قبول الوزان اعتناق المسيحية، أملته المصلحة الشخصية حسبما يدل على ذلك سلوكه، لأنه عندما أحس بإمكانية هروبه بعد موت سيده، عاد إلى بلاد الإسلام في تونس وهناك عاد إلى دينه الأصلي، كما يحكي صديقه.
لا يختلف الأمر في تحولات الطوائف في لبنان، منذ زمن المماليك حتى الآن، وكذا قصص اليهود، وعبيد أفريقيا الذين اجبروا على التحول إلى المسيحية بعد خطفهم من بلادهم الى اميركا، وأيضا تحوّل الرعايا المسيحيون إلى الاسلام، في ظل الامبراطورية العثمانية على امتداد عدة قرون. اختلفت طبيعة هذه التحولات وخدمت غايات سياسية متباينة بحسب ما يشير فيكين شيتريان. واحدة من أشكال التحويل كان يعرف باسم الدفشيرمة أو التجميع، وانطوى على الاخذ الاجباري لصغار الصبية (كان كثيرون منهم يقل عمره عن عشر سنوات) من العائلات المسيحية التي كانت تخدم حينها كعبيد للأمبراطورية، ما إن تتحول إلى الاسلام. ولم تطبق الممارسة العثمانية هذه أولا بنية تحويل الامبراطورية غير المسلمة، بل بنية تقديم جنود وموظفين بيروقراطيين أوفياء للسلطان لحكم البلاد وادارتها. وتألفت القوة الانكشارية من هؤلاء المتحولين إلى الاسلام، الذين كانوا يختارون بعد سبع سنوات من التدريب العسكري الصارم، ليصبحوا نخبة قوات السلطان.
حصل تغيّر في سياسة التحولات القسرية للأرمن بعد وصول عبد الحميد الثاني الى السلطة في 1876، ومع توقيع معاهدتي سان ستيفانو وبرلين. وفي ظل عبد الحميد الثاني، كان ينظر الى الأرمن كتهديد محتمل تنبغي مواجهته بأي وسيلة متوفرة. وتدهورت بسرعة أوضاع السكان الأرمن نتيجة لذلك، ما أفضى الى انتفاضة بين السكان الأرمن في بلدة ساسون الجبلية عام 1894، سحقت الانتفاضة في نهاية المطاف، وتحول العديد من الأرمن إلى الإسلام من أجل انقاذ حياتهم. وبعد انحسار موجة العنف، حاول عدد من الأرمن، الذين تحولوا الى الاسلام العودة الى هويتهم الدينية الأصلية كمسيحيين، وتظهر تقارير دبلوماسيين اوروبيين أن عائلات بأكملها ظلت تسعى الى العودة الى المسيحية حتى 1902، بعد أعوام عديدة من نهاية المذابح الحميدية. ومع ذلك ارتدع آخرون عن السعي إلى العودة إلى الكنيسة الرسولية بسبب خشيتهم من أن يتهمهم جيرانهم(المسلمون) بالردة ويحكموا عليهم بالاعدام.
على أن الإبادة الأرمنية عام 1915 فريدة في التاريخ العثماني، بما أنها المرة الأولى التي تقرر فيها السلطات (في هذه الحالة “جمعية الاتحاد والترقي”) أن تباد مجموعة اجتماعية كاملة. والى جانب عملية القتل والهجير والترحيل، استخدمت السلطات العثمانية التحول الديني القسري كوسيلة لتدمير البنية الاجتماعية للأرمن، حيث تنجو العائلات التي تعتنق الاسلام من الترحيل. فأكثرية اللاجئين الأرمن الذين نجوا في الصحراء السورية، -قدر عددهم بمئة الف في مخيمات الاعتقال في دير الزور عند نهاية الحرب العالمية الأولى- قد اعتنقت الاسلام قسرا، لكن كثيرين عادوا إلى ايمانهم الاول عندما لم يعودوا مهددين بالموت على أيدي السلطات.
ومن بين مفارقات “الأرمني المسلم”، هناك سكان “الهمشين”، فرغم أنهم مسلمون، فقد حافظ جزء منهم على اللهجة الأرمنية، اضافة الى التقاليد الوثنية الأرمنية. لكن أكثرية هذه الجماعة ترفض ربطها بالأرمن وتنكر أن تكون متحدة من أسلاف أرمن. ومن غير المعتاد العثور على أرمن اعتنقوا الاسلام وحافظوا على لغتهم الأرمنية الاصلية بهذا المعنى، يشكل الهمشين حالة فريدة، وفيما سعت السلطات التركية إلى انكار الجذور الأرمنية للهمشيين، فإن الجماعات المجاورة لهم تتذكرهم كأرمن اعتنقوا الاسلام. أما أرمن درسيم فقد تحولوا الى علويين بكتاشيين وتخلوا عن لغتهم وتبنوا الكرمانجي احدى اللغات الكردية، ويمكن معرفة أصولهم الأرمنية من خلال حرفهم ومهنهم التي يمتاز بها الأرمن.
لا شك ان الحياة السرية لـ “الأرمني المسلم”، موضوع روائي بامتياز، وكتب كثيرون عن الجدود الأرمن واكتشفوا أصولهم.. وأسلمة الأرمن في الزمن العثماني، حذت بالباحث الكسندر كشيشيان للحديث عن أهم أسماء المسلمين الارمن ممن خدموا الإسلام أمثال بدر الدجى واحدة من أذكى نساء الخليفة المقتدر ومنهن أيضا قرة عين -شجرة الدر. والشيخ عبد الله بن يونس الأرمني، ذكر المؤرخ ابن كُثير في مؤلفه “البداية والنهاية” أن الشيخ عبد الله الأرمني أسلم على يد الشيخ عبد الله يونيني وأمضى جميع سنوات حياته ناسكاً في الجبال والوديان والصحارى وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب. كان أحد الضباط القادة الرئيسيين في جيش الخلافة العربية أثناء الحروب العربية-البيزنطية الطاحنة التي استمرت 300 سنة. وكان من القادة العرب الذين أُسندت إليهم مهمة الذود عن أخطر الدفاعات وتحديداً عن الحدود العربية-البيزنطية أو ما يدعى بـ “الثغور الشامية”… واحتل الأرمن مراتب سياسية وعسكرية عالية جداَ وخاصة أيام الخلفاء الفاطميين ومحمد علي باشا ولكن الفارق أن الذين خدموا دولة محمد علي ظلوا على دين أجدادهم بينما أسلم الذين دخلوا في خدمة الفاطميين بين الأعوام 969-1171م.
وهناك اسماء كثيرة يذكرها كشيشيان، ويكتب عنها، وتظهر مدى حرص وجهاء الثقافة الأرمنية على جذورهم الاجتماعية واللغوية والاثنية.