في خطوة من الجنون الدبلوماسي غير مسبوقة، تخطِّط تركيا لاستغلال الذكرى المئوية لمحاولة «الحلفاء» اجتياح تركيا عام 1915، لتحجب بذلك ذكرى مجزرة ارتكبتها هي ضد الأرمن في السلطنة العثمانية، علماً أنها المجرزة شبه- الصناعية الأولى في القرن العشرين.
أرسل الأتراك دعوات إلى 102 أمة للمشاركة في ذكرى حرب غاليبولي في الرابع والعشرين من أبريل، في اليوم عينه الذي اعتادت فيه أرمينيا تكريم ضحاياها في مجزرة ارتكبها الأتراك العثمانيون.
عمد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مبادرة أدرك على الأرجح أنها ستصطدم بالرفض، إلى دعوة الرئيس الأرمني سيرج سركيسيان لحضور ذكرى حرب غاليبولي بعدما تلقى هو نفسه طلباً مبكراً من الرئيس سركيسيان للمشاركة في مراسم ذكرى المجزرة الأرمنية في اليوم عينه.
لا تشكِّل هذه الخطوة إساءة دبلوماسية فحسب. يدرك الأتراك كلهم أن إنزالات الحلفاء في غاليبولي لم تبدأ حتى الخامس والعشرين من أبريل، بعد يوم من التاريخ الذي يحدِّد فيه الأرمن بداية مجزرتهم التي نُفِّذت آنذاك بأمر من الحكومة التركية. كذلك يعلمون أن أستراليا ونيوزيلندا تحييان يوم {الجيوش الأسترالية والنيوزيلندية} (أنزاك) في الخامس والعشرين أيضاً. وقبل سنتين فقط، أقام الرئيس التركي آنذاك عبد الله غول الذكرى الثامنة والتسعين لمعركة الحرب الكبرى هذه في الثامن عشر من مارس 2013، اليوم الذي بدأ فيه قصف البحرية البريطانية لشبه جزيرة الدردنيل بتعليمات من اللورد الأول للأميرالية البريطانية ونستون تشرشل. ولم يشر أحد في تركيا حينذاك أن من الضروري تذكر حرب غاليبولي (كاناكالي بالتركية) في الرابع والعشرين من أبريل.
لا شك في أن الأتراك يخشون أن يتحوَّل عام 1915 إلى رمز لذكرى جرائم بلدهم المريعة ضد الإنسانية التي ارتُكبت خلال الإبادة الأرمنية حين أعدم عشرات آلاف الرجال بالبنادق والسكاكين واغتُصبت نساؤهم وجُوعن مع أولادهن حتى الموت، في مسيرات في ما كان يُعرف آنذاك ببلاد ما بين النهرين. ومن سخرية التاريخ أن تقع حقول القتل هذه عينها تحت سيطرة القوات المنتصرة لجيش {داعش} القاتل، الذي دمَّر كنيسة أرمنية تحيي ذكرى الإبادة في مدينة دير الزور السورية.
اختار الأرمن الرابع والعشرين من أبريل لإحياء ذكرى ضحايا إبادتهم لأنه في ذلك اليوم، جمعت الشرطة التركية المجموعة الأولى من الأكاديميين والمحامين والأطباء والمدرسين والصحافيين الأرمن في القسطنطينية.
على غرار أنصار اليمين والمؤرخين الذين يعدِّلون في التاريخ على هواهم في ألمانيا، وينكرون المحرقة اليهودية، لطالما رفضت تركيا الاعتراف بمسؤولية السلطنة العثمانية عن الجريمة العظمى في حق الإنسانية في حرب 1918-1914، علماً أن إراقة الدماء هذه أثارت حينذاك استياء حلفاء تركيا الألمان أنفسهم. حظيت مجزرة أرمينيا عام 1915 (ودامت حتى عام 1917) باعتراف مئات الباحثين الدوليين، بمن فيهم عدد كبير من المؤرخين اليهود والإسرائيليين. كذلك اعترفت بها دول أوروبية كثيرة. وحدها حكومة توني بلير حاولت التقليل من شأن معاناة الأرمن حين رفضت اعتبار هذه الفظائع عمل إبادة وسعت إلى إبعاد الناجين من إحياء ذكرى موتاهم خلال مراسم ذكرى هذه المجزرة في لندن. لكن الأدلة برهنت منذ زمن زيف ادعاءات تركيا عن أن الأرمن كانوا للأسف ضحايا انتفاضات اجتماعية خلال الحرب.
أوامر من القسطنطينية
أجرى عدد من الباحثين الأتراك الشجعان، الذين تعرضوا لانتقاد مواطني بلدهم بسبب نزاهتهم، أبحاثاً في الوثائق العثمانية وبرهنوا أنَّ الأوامر أُرسلت من القسطنطينية (إسطنبول اليوم) إلى المسؤولين الإقليميين بغية تدمير مجتمعاتهم الأرمنية. على سبيل المثال، استفاض البروفسور أيهان أكتر من جامعة إسطنبول بلجي في الكتابة عن شجاعة الأرمن الذين حاربوا هم أنفسهم في الجيش التركي في غاليبولي. كذلك نشر قصة حياة القائد سركيس طوروسيان، مسؤول أرمني قلَّدته الدولة العثمانية الأوسمة لشجاعته، إلا أن والديه وشقيقته لقوا حتفهم في الإبادة. لكن البروفسور أكتر تعرَّض لانتقادات مسؤولي الجيش التركي وبعض الأكاديميين الذين يدعون أن الأرمن لم يُقاتلوا إلى جانب الأتراك، حتى إن الجنرالات الأتراك ينكرون رسمياً (رغم توافر الأدلة على العكس، بما فيها صورة طوروسيان بالزي العثماني) وجود الجنود الأرمن.
لكن تركيا بدلت اليوم روايتها. أقرَّ وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو أخيراً بأن مجموعات إثنية أخرى، بما فيها كثير من العرب والأرمن، قاتلوا في غاليبولي. فقد أعلن: {نحن (الأتراك والأرمن) حاربنا معاً في غاليبولي. ولهذا السبب قدمنا دعوة إلى الرئيس سركيسيان أيضاً}. أتى رد الرئيس الأرمني على دعوة أردوغان على ذكر القائد طوروسيان، مع أنه ادعى للأسف أن هذا الجندي قُتل أيضاً في الإبادة، مع أنه مات في الواقع في نيويورك عام 1954 بعد كتابته مذكراته. كذلك ذكر الرئيس الأرمني أردوغان بأن {السلام والصداقة يُبنيان أولاً على الشجاعة لمواجهة الماضي والعدالة التاريخية والذاكرة الشاملة… من واجبنا أن ننقل الرواية الحقيقية إلى الأجيال المقبلة ونحول دون تكرار الجرائم… ونمهِّد الطريق أمام التقارب والتعاون المستقبلي بين شعبين، وخصوصاً شعبين متجاورين}.
يحيي الأرمن ذكرى الإبادة في الرابع والعشرين من أبريل (يوم لم تشهد فيه غاليبولي أي أحداث) لأنه في ذلك اليوم جمعت الشرطة التركية المثقفين الأرمن وسجنتهم في قبو في مقر شرطة القسطنطينية قبل ترحيلهم، وأحياناً إعدامهم. كان هؤلاء {شهداء} الإبادة الأرمنية الأوائل. ومن سخرية التاريخ أيضاً أن المكان حيث اعتقلوا تحوَّل اليوم إلى متحف الفن الإسلامي، موقع سياحي لن يزوره الأمير تشارلز والشخصيات البارزة الأخرى على الأرجح خلال جولتهم في الرابع والعشرين من أبريل. إذاً، وسمت عمليات القتل هذه بداية اضطهاد الشعب الأرمني ونفيه إلى زوايا الأرض الأربع.
تُعتبر مساهمة البروفسور أكتر (بالإضافة إلى مساهمة المؤرخ تامر أكام في الولايات المتحدة) في إبراز حقيقة التاريخ التركي-الأرمني فريدة. فقد أرغما وحدهما (من خلال أبحاثهما الأكاديمية ورغم تعرضهما لضغوط سياسية مهولة أرادت إسكاتهما) آلاف الأتراك على مناقشة حوادث عام 1915 الرهيبة. اكتشف أتراك كثر منذ ذلك الحين جدات أرمنيات أجبرن على اعتناق الإسلام أو اختطفهن رجال الميليشيات أو الجنود الأتراك حين كنَّ شابات. علاوة على ذلك، يشير أكتر إلى أن جنوداً أرمنيين آخرين حاربوا في الجيش التركي، مثل الملازم أول سورمنيان الذي نُشرت مذكراته في بيروت بعد 13 سنة من موت طوروسيان.
لكن أكتر لا يولي اهتماماً كبيراً بالحكومة التركية أو الرئيس الأرمني سركيسيان. أخبرني: {إذا أردنا تكريم الجنود والضباط الأرمن الذين ماتوا في سبيل وطننا الأم (تركيا) عام 1915، فعلينا أن ندعو البطريرك الأرمني إلى اسطنبول. لمَ يدعون الرئيس سركيسيان؟ كان أسلافه يحاربون على الأرجح في جيش الإمبراطورية الروسية عام 1915. أو قد يكون من كاراباخ (إقليم يسيطر عليه الأرمن ويشكل جزءاً من أذربيجان التركية). يشكل هذا عرضاً غير ملائم للرئيس سركيسيان، أو بالأحرى مهيناً}.
أعمال وحشية
قد يشاطر أرمن كثر البروفسور أكتر رأيه. طوال أشهر، كان سركيسيان مستعداً لتوقيع معاهدة مع تركيا بغية فتح الحدود التركية- الأرمنية مقابل إجراء الباحثين تحقيقاً رسمياً في الإبادة لا غير. وقد حظيت هذه الخطوة بدعم كل من وزيرة الخارجية الأميركية حينذاك هيلاري كلينتون ومجموعة من السياسيين وبعض الصحافيين الغربيين في تركيا. لكن رد فعل الأرمن في الشتات جاء غاضباً، سائلين عن مشاعر اليهود في حال استندت الصداقة مع ألمانيا إلى تحقيق لمعرفة ما إذا كانت المحرقة النازية قد حدثت فعلاً. خلال الحرب العالمية الأولى، أولت الصحف الأميركية والأوروبية اهتماماً كبيراً بالأعمال الوحشية التي ارتكبت ضد الأرمن، حتى إن وزارة الخارجية البريطانية نشرت {كتاباً أسود} عن جرائم الجيش التركي ضد الأرمن. أما كلمة genocide (الإبادة)، فصاغها رافايل لمكن، محامٍ أميركي من أصول يهودية- بولندية، خلال وصفه المجزرة الأرمنية. كذلك يستخدم الإسرائيليون كلمة {شواه} (محرقة) عندما يشيرون إلى معاناة الأرمن.
لا شك في أن البطل التركي في غاليبولي كان المقدم مصطفى كمال (الذي دُعي لاحقاً أتاتورك، مؤسس الدولة التركية المعاصرة) وفرقته التاسعة عشرة في غاليبولي التي عُرفت أيضاً بـ{فرقة حلب} لأنها ضمت عدداً كبيراً من العرب. صحيح أن أتاتورك لم يشارك في أعمال القتل الجماعي ضد الأرمن عام 1915، إلا أن بعض شركائه تورَّط فيها، ما لا يزال يرخي بظلاله على تاريخ الدولة التركية. بالإضافة إلى ذلك، ظلَّ شبح هزيمة الحلفاء في غاليبولي يلاحق ونستون تشرشل طوال مسيرته. وهذا واقع يدركه عشرات آلاف الأستراليين والنيوزيلنديين الذين يخططون لزيارة ساحة القتال القديمة هذه في شهر أبريل. ولكن كم يعرفون عن ذكرى أكثر فظاعة بعد تُقام في الرابع والعشرين من أبريل؟ هذه مسألة مختلفة.