بدأت قصة الصحافة النسوية في السودان مبكرًا بعض الشيء، قياسًا للمتوقع، فبعد أقل من عقدين من صدور مطبوعات ذات طابع ذكوري، غامرت امرأة بإصدار أول مجلة متخصصة للنساء وأسمتها “بنت الوادي”.
وقصدت السودانية ذات الأصول الأرمنية “تكوى ساركيسيان” بالوادي، نهر النيل، وبالتالي فإن المجلة تعبر عن لسان ابنة تلك الجغرافيا وثقافتها.
وربما تكون هذه الخطوة جريئة في فترة لم يكن تعليم البنات قد وصل تقدمًا وقبولًا كبيرًا في المجتمع كما هو عليه الأمر اليوم.
لكن يمكن فهم هذه المغامرة في إطار الجاليات التي استطاعت أن تغذي المجتمع السوداني أثناء الاستعمار الإنجليزي بالعديد من المبادرات الإبداعية، وحيث كانت الخرطوم تضج بالأرمن واليوناييين والشوام واليهود والأقباط. وقد أوجد الاستعمار بيئة لقيام دولة حديثة من خلال بزوغ فجر الصناعات والأعمال التجارية المتقدمة، واحتاج الإنجليز لخبرات من بلدان عديدة لقيادة هذه النهضة التي تعثرت فيما بعد في ظل الدولة الوطنية بعد الاستقلال عام 1956.
من ناحية إحصائية فالسودان هو الدولة السادسة عربيًا التي عرفت الصحافة النسائية، بحسب ما تشير بخيتة أمين الصحافية المخضرمة في كتابها “الصحافة النسائية في السودان”.
وربطت أمين صدور مجلة “بنت الوادي” بـ “انطلاق المد الوطني والمطالبة بتحرير السودان من ربقة الاستعمار البريطاني”.
لكن المجلة رغم طابعها النسوي إلا أن الرجال كانوا موجودين فيها بكثافة من خلال الأقلام في الكتابة والتحرير “حيث كان الكادر الرجالي أكثر حراكًا بداخلها”.
وتقول بخيتة أمين: “كانت تشارك أقلام نسائية محدودة على صفحات تلك المجلة”.
وقد رحب المجتمع السوداني بالمجلة وسمح الرجال بدخولها إلى دورهم، لأنها خصصت صفحات لإرشاد النساء للتوجه نحو المدارس وللزوجات للعناية بأزواجهن وارتفع عدد قرائها بصورة لافتة.
من هي تكوى ساركيسيان؟
تعتبر الأرمنية السودانية تكوى ساركيسيان أول صحافية سودانية، وهي من مواليد مدينة الخرطوم حيث تلقت تعليمها الأولي والابتدائي بمدرسة الأميركان بالعاصمة، ومن ثم الثانوي بمدرسة الاتحاد العليا بالخرطوم.
وعملت في بداية مسيرتها المهنية في مصلحة الأشغال بالخرطوم، ثم مصلحة المخازن والمهمات بالخرطوم بحري، وقد برعت في أعمال السكرتارية.
وقد كان لها نشاط اجتماعي بجوار العمل المهني، إذ يرجع لها الفضل في تأسيس أول رابطة نسوية بالخرطوم بحري، بهدف تثقيف المرأة السودانية وتدريبها على الطهي والأعمال اليدوية.
وفي إطار حياتها الاجتماعية، تزوجت عام 1960 ومن ثم انتقلت للعيش في المملكة العربية السعودية في حياة بعيدة عن الأضواء.
توجت ساركيسيان دورها التاريخي في الأوساط النسوية السودانية، بإصدار مجلة “بنت الوادي” لتصبح أول مجلة نسائية في البلاد وذلك عام 1946.
وقد تمثلت المغامرة والشجاعة في إقدامها على إصدار المجلة على نفقتها الخاصة دون عون من أية جهة.
ويقول البروفيسور علي محمد شمو وزير الإعلام السوداني الأسبق في تقديمه لكتاب بخيتة أمين، أن تكوى ساركيسيان استكتبت في “بنت الوادي”: “نخبة من المثقفين السودانيين الذين تناولوا قضية المرأة في ظروف كان الحديث فيها عن أنشطة المرأة أمرًا غير مألوف في المجتمع السوداني”.
لكن الظروف لم تساعد المشروع الرائد ليستمر طويلًا، إذ إن المجلة توقفت بعد عامين، بسبب الصعوبات المالية التي مرت بها.
برغم كل هذه السيرة الكبيرة إلا أن هذه المرأة تكاد مجهولة تماما للأجيال الجديدة، وربما لبعضها لقديمة، حيث من الصعب أن تحصل على أي صورة لها.
المصدر: العربية نت