مع رحيل نوبار باشتكيان، ببغداد الخميس، تكون “الفرقة السميفونية الوطنية العراقية“، فقدت موسيقياً آخر من مؤسسيها قبل ستين عاماً، فعازف الكمان العراقي- الأرمني كان من مؤسس الأوركسترا الأعرق في المنطقة، والتي بدأ تأسيسها فعلياً عبر “جمعية بغداد الفلهارموني” 1948، حتى قرار الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم بـ “تأميمها” 1959، وجعلها فرقة سيمفونية تابعة للدولة بعد أن كانت نشاطاً ثقافيا واجتماعياً خاصاً، في مؤشر على حداثة كانت ترسم ملامحها الخاصة قبل أن ترميها التحولات “الثورية” في عين العاصفة، بل العواصف المتواصلة حتى يومنا هذا.
لا يمكن الحديث عن الحداثة في المجتمع العراقي بعد تأسيس الدولة المعاصرة 1921، إلا وللأرمن نصيب كبير فيه، إلى جانب دور أكبر لعبه اليهود، ما يجعل الحداثة الفكرية –الاجتماعية في البلاد، أمراً خارج الحاضنة المسلمة على الرغم من تشكيلها الغالبية المطلقة، وليس غريبا إن هذه الحداثة تعرضت إلى سلسلة من الإنتكاسات مع مغادرة هذه المجموعات البشرية الفاعلة للبلاد، طوعاً وقسراً، مثلما هي حال العراق اليوم حيث الجهل والغطرسة الأمية تسود كل مجال فيه.
وكانت أول طبيبة عراقية عينتها وزارة الصحة، أرمنية، هي الدكتورة آنة ستيان، وأول فتاةعراقية دخلت مدرسة الطب في بغداد وتخرجت فيها سنة 1939 كانت الطبيبة ملك ابنة السيدرزوق غنام النائب عن مسيحيي بغداد في مجلس الأمة وصاحب جريدة “العراق” التي تأسست 1920 بدعم من السلطة البريطانية، ويعتبر شيخ الصحافة العراقية ومن الأطباءالمعروفين الدكتور كريكور استارجيان، والدكتور هاكوب جوبانيان، وهو من مؤسسي كليةالطب في العراق وحاصل على “وسام الرافدين“ من الدرجة الثانية عام 1954 تقديراً لخدماتهفي مجال الطب والدكتور كارنيك هوفهانيسيان وغيرهم.
ومن الشخصيات الأرمنية العامة فوسكان مارديكيان (اوسكان أفندي) الذي كان وزيراً للبريدوالبرق في الدولة العثمانية، وبناء على دعوة وجهت له من قبل الحكومة العراقية في عشرينياتالقرن الماضي، أصبح خبيراً مالياً في وزارة المالية وطوًر النظام المالي في البلاد. وبرز اسمسيروب اسكندريان مديراً للإدارة النهرية في بغداد، وسرابيون سيفيان الذي شغل في العام1921 منصب سكرتير وزير المالية، وديكران ايكمكجيان الذي عمل سكرتيراً لمجلس إدارةالسكك الحديدية العراقية لسنوات طويلة، وكاسبار بوغوصيان رئيساً لأمناء صندوق السكك،وابكار هوفهانيسيان مديراً عاماً للمواصلات الذي منح أيضاً وسام الرافدين من الدرجة الثالثة. أما فاهي سيفيان، فعيًن في خمسينيات القرن الماضي مفتشاً للري العام، وقد أسهمتجهوده والإجراءات الطارئة التي اتخذها في إنقاذ مدينة بغداد وضواحيها من أسوأ فيضانتعرضت له بغداد في العام 1954. وفي مجال السياسة والدبلوماسية عرف اسكندر ستيبانماركاريان الذي انتخب عام 1947 في البرلمان العراقي ممثلاً لجميع المسيحيين في بغداد،وقنصلا بلجيكا الفخريان في العراق ديرفيشيان وسيمون غريبيان، وقنصل النرويج الفخريفي العراق آرام سيمرجيان. وفي أرمينيا بعد الاستقلال في عام 1991، تقلد اشخانمارديروسيان منصب وكيل الوزارة في وزارة الزراعة ثم الخارجية.
أما في مجال التصوير فقد عرف المصور السينمائي خاجيك ميساك كيفوركيان، وهو من أوائلالرواد في مجال التصوير السينمائي ومن الرواد القلائل في تقنية التصوير في العراق والوطنالعربي. والمصور الصحفي الرائد امري سليم لوسينيان شيخ المصورين الصحفيين العراقيينالذي صور ملوك وزعماء العراق وارشف جزءاً كبيراً من تاريخ العراق، والمصورونالفوتوغرافيون المعروفون ارشاك (صاحب ستوديو ارشاك) وجان (صاحب ستوديو بابل) ومصور الآثار كوفاديس ماركاريان.
وفي مجال الأدب برز الكاتب والباحث يعقوب سركيس الذي ألف (مباحث عراقية)، والكاتبيوسف عبد المسيح ثروت، والكاتب ليفون كارمين (استيبانيان)، والكاتب ليفون شاهويان،والمفكر والكاتب بابكين بابازيان وعبد المسيح وزير الذي جاء إلى العراق مع الملك فيصل الأولوكان من رجال الفكر والمعرفة ووضع القاموس العسكري ومؤلفات أخرى. وفي مجال الكتابةالصحافية يبرز اسم جيراير غاريبيان الذي ألف عدداً من الكتب وأجرى العشرات منالمقابلات مع الشخصيات الأرمنية المعروفة على الصعيدين السياسي والأدبي. أما في مجالالتربية، فبرز الأستاذ والمربي الفاضل مهران أفندي سفاجيان الذي كان يحاضر في اللغةالفرنسية عام 1908 في المدرسة الجعفرية (أبرز مدارس بغداد آنذاك)، واعترف بفضلهوخدماته الجليلة تلامذته ومنهم سعيد صادق البصام الذي أصبح في العهد الملكي وزيراًللتربية والعدالة وغيره.
وفي مجال الفنون، ثمة التشكيلي أرداش كاكافيان، وساران فارتان الكسندريان الذي شاركفي نشاطات الحركة السريالية بباريس منذ عام 1947 وله العديد من المؤلفات النثريةوالدراسات، والرسام التشكيلي يرجان بوغوصيان وهو من رواد السرياليين العراقيين، والفنانالتشكيلي انترانيك اوهانيسيان، وممثلة المسرح القديرة ازادوهي صموئيل لاجينيان، والمخرجوالممثل القدير كارلو هارتيون، والمغنية والمخرجة سيتا هاكوبيان، والمخرج التلفزيوني فادي آكوبيان.
في النغم الرفيع
وفي الموسيقى برز كريكور برصوميان وآرام بابوخيان وسيلفا بوغوصيان وبابكين جورج وآرامتاجريان ونوبار بشتيكيان، وعازفة البيانو الشهيرة بياتريس اوهانيسيان، كأعلام في الموسيقى الرصينة التي عنتها الفرقة السميفونية الوطنية العراقية.
وفي أشكال الموسيقى الغربية المعاصرة، فثمة هرانت كتنجيان صاحب فرقة “شيراك” التي لونت ليالي بغداد على امتداد أكثر من عقدين، والراحل بيرج زكريان الذي أدخل موسيقى “الهيفي ميتل” بقوة إلى بغداد، وكذلك المغني والعازف شيراك تاتوسيان، وفنان موسيقى الجاز وعازف البيانو كريتسوفر كرابديان (أفاك)، وعازف الدرامز في فرقة “مي بي” العراقية فائز آكوبيان وغيرهم الكثير.
وفي مجال المقام العراقي يبرز اسم الأب نرسيس صائغيان البغدادي (1878-1953) الذيامتاز بوفرة معلوماته عن المقام وجميع قراء المقام العراقيين يرجعون إليه لمعرفة أدق المعلوماتعن المقام العراقي. وللأب صائغيان أيضا مؤلفاته في التاريخ واللغة ودراسة أصول ونسبالعائلات المسيحية البغدادية التي نشر بعضها في كتيبات أو في مجلات (لغة العرب) و (نشرةالأحد) و (النور). وكان سيساك زاربهانيليان موسيقاراً وأحد فلاسفة الموسيقى الشرقية وعازفاًبارعاً في العود والكمان وألف قطعاً موسيقية، مستخدماً فيها مقامات صعبة لم يجرؤ موسيقارغيره على التقرب منها.
بقلم: علي عبد الأمير