بعد أكثر من سلسلة اجتماعات (أكثر من خمسين) استغرقت 22 عاما وقع قادة الدول المطلة على بحر قزوين في شهر آب/أغسطس الحالي على اتفاقية متعلقة بالوضع القانوني لهذا البحر. لا تحدد هذه الاتفاقية بشكل صريح حصة كل بلد مما يحتويه بحر قزوين من ثروات طبيعية ولكن بنودها تقود في النهاية إلى ذلك. هذا يعني أن حصة إيران من قاع البحر ستكون في حدود 12 حتى 13 في المئة فقط، وستكون هذه الحصة في المناطق المحاذية للشاطئ الإيراني الفقيرة بالنفط والغاز مقارنة بوسط وشمال بحر قزوين الغني بهذه الموارد.
طوال السنوات الماضية كانت إيران تصر على تقاسم قاع البحر على مبدأ الملكية المشتركة بحيث تتوزع ثرواته بحصص متساوية 20 بالمئة لكل دولة، اعتمادا على أن الاتفاقيات السابقة لعامي 1921 و1940 كانت تعتبر البحر ملكية مشتركة بين الاتحاد السوفييتي وإيران، ولذلك فقد اعتبرت الاتفاقية الحالية خسارة كبيرة لإيران، واتهم المعارضون الإيرانيون الرئيس حسن روحاني بالتنازل عن جزء من حصة إيران لصالح روسيا بموافقة مرشد الجمهورية علي خامنئي؛ ووصف أبو الحسن بني صدر أول رئيس إيراني بعد الثورة توقيع النظام الإيراني على الاتفاقية بأنها “دفع فدية لروسيا”.
وفي بحر آخر مجاور هو البحر الأسود، كانت روسيا قد أعلنت رسميا في 18 آذار/مارس 2014 ضم شبه جزيرة القرم إلى جمهورية روسيا الاتحادية.
تاريخيا، كانت شبه جزيرة القرم (القرم تعني باللغة التتارية القلعة) تابعة لمملكة القبيلة الذهبية التي أسسها التتار والترك والتي سيطرت على أجزاء واسعة من القوقاز وأوروبا الشرقية، واعتنقت الإسلام عام 1313، ثم أصبحت عام 1443 مركزا لدولة تسكنها قبائل القيشاق ذات الأصول التركية الذين يعتبرون سكان القرم الأصليين. سيطر عليها العثمانيون لاحقا وبقيت تابعة للدولة العثمانية حتى نهايات القرن الثامن عشر حين احتلتها روسيا بعد حروب القرم، وتعرض سكان القرم منذ ذلك الوقت لحملات اضطهاد وتجويع وتهجير منتظمة كان آخرها على يد ستالين عندما اتهمهم بالتواطؤ مع المحتل النازي فقام عام 1944 بتهجيرهم إلى سيبيريا وآسيا الوسطى، وألحقت شبه جزيرة القرم بأوكرانيا عام 1954.
نتيجة لهذه الحملات بات تتار شبه جزيرة القرم يشكلون 12 بالمئة فقط من السكان حسب إحصاء 2001، وهؤلاء يتحالفون حاليا مع الأوكرانيين الذين يشكلون 24 بالمئة من السكان ويتعاطفون مع حكومة كييف المعارضة للاحتلال الروسي، وهذا هو موقف ملايين التتار شمال البحر الأسود الذين يعيشون حاليا في تركيا وغيرها من دول الشتات والذين شكلوا الكثير من الجمعيات التي تعمل على حشد التأييد لحقوقهم التاريخية بالقرم، وينظر هؤلاء باستغراب لمحاولات الرئيس أردوغان التودد لبوتين وإن كان يعني اعترافا ضمنيا بضم شبه جزيرة القرم لروسيا.
وفوق ذلك فإن المناطق التي تشكل جنوب جمهورية روسيا الاتحادية حاليا هي أقاليم إسلامية احتلتها روسيا بعد صراعات طويلة مع تركيا وإيران، من داغستان شرقا التي تطل على بحر قزوين، إلى الشيشان ثم الأنغوش فالقبردين والفراتشاي والشركس والأبخاز وصولا لكراي في الغرب ومدينتهم تشاشا والتي اشتهرت باسمها الروسي سوتشي والتي جعلها بوتين مقره المفضل الذي يستضيف فيه الكثير من النشاطات والمؤتمرات الدولية. تعرضت هذه الشعوب خلال التاريخ الحديث لحملات قمع متواصلة على يد الروس بهدف محو هويتها الثقافية المميزة. وحتى اليوم لم تستطع دولة روسيا الاتحادية إيجاد طريقة مقبولة للتعامل مع 28 مليون مسلم يشكلون 20 بالمئة من سكانها.
تاريخ العلاقات الروسية ـ التركية ـ الإيرانية ليس إلا تاريخ من الحروب المتواصلة. هناك سلسلة الحروب الروسية ـ العثمانية التي وقعت بين القرنين السادس عشر والعشرين، والتي بلغت ثلاثة عشر حربا كبرى، كان الهدف من أغلبها صد هجمات الروس على الأقاليم الواقعة شمال البحر الأسود الذي كان في ذلك الوقت بحيرة عثمانية خالصة. في المقابل، كان هدف الروس الوصول إلى المياه الدافئة ليتم عبرها التواصل مع دول العالم تجاريا وحضاريا. انتهت أغلب هذه المعارك بانتصار روسيا وسيطرتها على مناطق واسعة من شواطئ هذا البحر، وكانت الحروب الروسية من أهم أسباب ضعف وانهيار الدولة العثمانية.
أما الحروب الروسية ـ الفارسية فهي خمس حروب نشبت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. بدايتها كانت الحملة الفارسية لبطرس الأكبر والتي استهدفت توسيع النفوذ الروسي في بحر قزوين ومناطق القوقاز ونتيجة خسارة الفرس لهذه الحرب فقد تنازلوا عن دربند في داغستان وباكو في أذربيجان المطلتان على بحر قزوين وبعض المحافظات الفارسية الأخرى. وفي حرب أخرى اجتاحت روسيا معظم أراضي أذربيجان، وفي آخر هذه الحروب انتصرت روسيا على الدولة القاجارية التي تنازلت فيها عن مناطق في جنوب شرق القوقاز، وبذلك أصبح الروس مسيطرين على قسم كبير من بحر قزوين وأرمينيا الشرقية وكاراباخ.
أما الحروب التي وقعت بين الدولة العثمانية والدول التي تعاقبت على حكم إيران خلال القرون الماضية فهي سلسلة من اثني عشر حربا رئيسية. تميزت حروب القرنين السادس عشر والسابع عشر بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية بمدتها الطويلة والتي استمر بعضها لعشرات السنين، بحيث أن تاريخ البلدين طوال هذين القرنين كان إما الحرب أو الاستعداد للحرب المقبلة. في أغلب هذه الحروب انتصر العثمانيون.
في القرون التالية وقعت ستة حروب بين الدولتين استمرت كل واحدة منها عدة سنوات خسر في أغلبها العثمانيون، واستغل الروس وقوعها ليتوسعوا على حساب الدولتين.
عند النظر إلى خرائط هذه الدول في هذه الأيام فإننا نرى بأن نتائج هذه المعارك هي التي رسمت الحدود بينها، ولا تتطابق هذه الحدود مع التركيبة السكانية لشعوبها. ففي جنوب جمهورية روسيا الاتحادية هناك شعوب القوقاز المسلمين وأغلبيتهم من ذوي الأصول التركية، وفي القسم الشمالي الغربي من إيران هناك الأذريين وهم من ناحية العرق أتراك رغم أنهم من أتباع المذهب الشيعي، وفي شرق تركيا يؤمن الأرمن بأن مناطق واسعة هناك كانت موطنهم لآلاف السنين قبل أن يتعرضوا للإبادة على يد العثمانيين عام 1915.
تريد روسيا وتركيا وإيران بعد كل حروب الماضي وخلافات الحاضر إقامة تحالف بينها. ربما كان ذلك ممكنا لو عملت هذه الدول على بناء دولهم على أسس حديثة قوامها المواطنة المتساوية لأبنائها، ولو عالجت بعدل مشاكلها الحدودية والتداخل بين شعوبها. لكن ذلك لم يحدث. فالأنظمة الحالية الحاكمة لهذه الدول تعيش في الماضي عوض التطلع للمستقبل. الرئيس بوتين يتصرف باعتباره القيصر الجديد وزعيم الأرثوذكس في العالم. الرئيس أردوغان يحاول إعادة إحياء الخلافة العثمانية ويرى نفسه زعيم المسلمين السنة. الحكم في إيران يحاول شد العصبية الفارسية من جهة ويرى نفسه وصيا على الشيعة من جهة أخرى.
كما أن هذه الأنظمة لا تراعي مصالح حلفائها؛ فالحكم في روسيا يعامل المسلمين من السنة والشيعة كمواطنين من الدرجة الثانية ويفرض عليهم رقابة أمنية خاصة دون مراعاة لحلفائه الأتراك والإيرانيين، وكذلك إيران لا تراعي حليفها أردوغان عندما لا تعامل بعدل السكان من الأذر الأتراك أو من الطائفة السنية، وحتى اليوم ترفض تركيا الاعتراف بوجود المكونات القومية المختلفة ضمن أراضيها كما ترفض الاعتراف بمجزرة الأرمن التي نفذتها الدولة العثمانية قبل قرن رغم أن الأرمن أرثوذكس تحت رعاية حليفهم بوتين.
وفي سياسة هذه الدول الإقليمية كان لهم دوما مواقف متباينة أو متناقضة في كل أحداث الشرق الأوسط، ففي حروب الشيشان اتهمت روسيا تركيا بمساعدة المتمردين. وفي الحرب بين أذربيجان وأرمينيا وقفت روسيا وإيران مع أرمينيا بينما وقفت تركيا مع أذربيجان. وفي أفغانستان هناك العلاقة الغامضة بين إيران وحركات جهادية بما فيها طالبان في موقف مختلف عن الموقف الروسي.
أما قبرص، التي تجمعها علاقة مالية وسياسية وطائفية قوية مع روسيا فلا تزال تركيا مصرة على استمرار احتلالها للجزء الشمالي منها، وكذلك اليونان التي تعتبر ركيزة الحلف الأرثوذكسي لروسيا فهي العدو الرئيسي للأتراك لأسباب تاريخية وخلافات حدودية. وفي سورية والعراق تؤيد كل دولة من الدول الثلاث جهات وتنظيمات وفصائل مختلفة وأحيانا متحاربة، ويسعى كل طرف منهما للوصول إلى نهاية لهذه الصراعات تختلف عما يريده الطرف الآخر.
تتقاطع مصالح هذه البلدان حاليا نتيجة مجموعة من الظروف الآنية؛ فالدول الثلاث تمر حاليا بفترة علاقات متأزمة مع الولايات المتحدة وأوروبا، وهناك عقوبات مفروضة على هذه البلدان لأسباب مختلفة، ونتيجة عوامل داخلية وخارجية فإن قيمة العملة الوطنية في هذه البلدان تتعرض للانخفاض، كما أن هناك درجات متفاوتة من الاستياء الشعبي عند شعوب هذه البلدان تجاه حكوماتها نتيجة تراجع الوضع الاقتصادي وزيادة القيود على الحريات السياسية والثقافية. لكن كل هذا ليس سببا كافيا بحد ذاته لبناء تحالف حقيقي بينها، لأن مصالح أعضاء هذا الحلف تتناقض في كل القضايا الداخلية والإقليمية، وكل ربح لأحد الأطراف ضمن هذا الإقليم يكون خسارة لطرف آخر، مما يجعل هذا الحلف في الظروف الحالية قريب الشبه بالأحلام.
أوضح تعبير عن ذلك ما قاله كبير مستشاري الرئيس أردوغان يكيت بولوت: “إن بلاده لن تتراجع أبدا عن فكرة الإمبراطورية الروسية التركية، وأنه لو تحالف الأتراك مع الروس عام 1854 لكان شعبا البلدين يتجولان على سواحل نورماندي الفرنسة حاملين قواميس تركية ـ روسية!”.
لقد أكد هذا المستشار هشاشة هذا الحلف المصطنع عندما تخلى بسهولة عن الشريك الثالث إيران، كما أكد على الإصرار على الحياة في الماضي بما فيه استمرار الأحلام القيصرية والعثمانية باحتلال أوروبا، دون أن يوضح كيف ستتميز الحضارة والصناعة واللغات التركية والروسية عن اللغة الفرنسية أو الحضارة الإيطالية، أو الصناعة الألمانية.