يسود الفساد وتنتشر بذوره بسرعة عندما يقترن بالسياسة، وعندما يمارس أهل السياسة نشاطات اقتصادية حكراً عليهم، أو بتفصيلهم القوانين على قياس مشاريعهم، ما يؤخر الاقتصاد وينعش بيئة الفساد الذي يؤدي إلى سخط المواطنين، وخصوصاً الطبقة الفقيرة، ويقود إلى ثورات قد تكون «مخملية» كما هي حال أرمينيا كمثال حاضر وقريب العهد.
فأرمينيا مثال صارخ على «المصاهرة» وزواج المصلحة بين رجال الاقتصاد والسياسة قبل الثورة التي جاءت بنيكول باشينيان إلى رئاسة الوزراء وأقصت رئيس الجمهورية السابق سيرج سركسيان عن تولي المنصب بعد التغييرات الدستورية التي أقرها برلمانيو حزبه الحاكم، وكان من مفاعيلها فصل الاقتصاد عن السياسة وتحقيق إنجازات اقتصادية عاجلة ومهمة.
العالم بخفايا الأمور في أرمينيا قبل الثورة وممارسات السلطة السابقة فيها، يدرك أنه لم يكن باستطاعة رجال الأعمال من صناعيين وتجار وغيرهم إنشاء أي مشروع استثماري ضخم دون مشاركة أحد رجال السياسة أو طبقة «المدعومين» والمتنفذين، وهو ما أشرت إليه بصراحة وشفافية وإلى ضرورة استقلال وفك الاقتصاد عن السياسة خلال مشاركتي في مؤتمر «أرمينيا والشتات» الذي عقد في أيلول الماضي في العاصمة يريفان بغية إحراز أرمينيا نوعاً من التقدم في مضمار الاقتصاد، على الأقل.
وركزتُ خلال زيارة وزير التنمية الاقتصادية والاستثمارات سورين كارايان على رأس وفد اقتصادي رفيع المستوى إلى دمشق في تشرين الأول الماضي ولقائه رئيس مجلس الوزراء عماد خميس وعدداً من الوزراء وعدداً من السوريين الأرمن في العاصمة السورية، على أهمية سن أرمينيا قوانين اقتصادية تنافسية وصريحة وشفافة ويمكن تطبيقها على الجميع دون استثناء بما يخلق بيئة اقتصادية جاذبة لرؤوس الأموال والاستثمارات الداخلية والخارجية.
ولا يعني ذلك إغلاق الباب أمام مساهمة رجال السياسة في النشاط الاقتصادي للبلاد، لكن ينبغي مساواتهم وعبر الأنظمة والقوانين المرعية بغيرهم من الفاعلين في هذا المجال كيلا يحتكرون الفرص الاستثمارية لوحدهم أو عن طريق أبنائهم ويشرعون الفساد من أوسع أبوابه.
خلال زيارتي الأخيرة إلى يرفيان وبعد 100 يوم من تولي الحكومة الجديدة مهامها كتوقيت ذي مغزى معنوي، لمست الفرحة والسرور على وجوه عامة المواطنين للتغيرات الإيجابية الملموسة والسريعة التي أحدثتها الثورة في مناحي عديدة، وخصوصاً الاقتصادية منها والتي تمس معيشة المواطنين، ولاحظت بأن إعلانات بيع الشقق السكنية التي كانت تملأ الشوارع اختفت منها ولأول مرة كدليل على انتعاش الوضع الاقتصادي وتحسن الحال الأمنية في العاصمة وغيرها من مدن البلاد.
وجرى، ولأول مرة أيضاً، تسجيل الجهات المعنية زيادة في أعداد القادمين إلى أرمينيا يفوق بكثير أعداد مغادريها، وهو ما أشار إليه رئيس وزراء أرمينيا الجديد نيكول باشينيان في تجمع جماهيري حاشد في ساحة الجمهورية في يريفان في 17 الشهر الجاري وللمناسبة ذاتها حيث أكد أن اقتصاد أرمينيا بدأ «بالنمو» وسجل مؤشرات اقتصادية «عالية» بدل التوقعات بتراجعه، إذ سجل الشهر الأول بعد الثورة نسبة في النشاط الاقتصادي مقدارها 9.6 بالمئة صعوداً من 8.5 بالمئة خلال النصف الأول من العام.
وقال باشينيان: «عدد الأجانب الذين وصلوا إلى أرمينيا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة زاد بمقدار 34 ألفاً عما كان عليه في نفس الفترة من العام الماضي، وهذا يعني أن أرمينيا أصبحت أكثر جاذبية للسياح والمستثمرين، كما زادت أسعار العقارات بنسبة 20 بالمئة، أي أن مواطنينا يأتون إلى هنا ليس فقط كسياح، ولكن أيضاً يشترون شققاً في يريفان ومدن أخرى». وأضاف: «بعد فترة 100 يوم نحن ندخل مرحلة جديدة».
وأقرت الحكومة الجديدة وفور تسلمها ولايتها إصلاحات اقتصادية ونفذت جهاتها المعنية العديد من المداهمات لتضبط مواد مخدرة بكميات تجارية وملايين الدولارات لدى فاسدين من بينهم المرافق الخاص لرئيس مجلس الوزراء، على سبيل المثال، ولاحقت بعض الشركات الخاصة المتهمة بالتهرب الضريبي محققة وفراً كبيراً بمئات ملايين الدولارات لخزينة الدولة.
والحال انه جرى الرهان من جهات داخلية وخارجية على أن مصير الثورة الأرمينية السلمية هو الفشل في تحقيق الأهداف التي انطلقت من أجلها كغيرها من موجة «الثورات الملونة» التي عصفت بأوروبا الشرقية وجمهوريات ما بعد الاتحاد السوفييتي قبل نحو 15 عاماً من صربيا إلى جورجيا وأوكرانيا وحتى قيرغيزستان لكن الشعب الأرمني، والذي من خصائص جيناته الالتفاف حول جيشه الوطني والقائد الصالح وطلب التغيير نحو الأفضل، أثبت أنه شعب واع وراق، فالمتظاهرون الذين فاق عددهم 100 ألف متظاهر خلال يوم واحد خرجوا ضد الفساد المتمثل بشخص رئيس الحكومة فلم يحلوا دم أحد ولم يسرقوا ولم يخربوا الأملاك العامة والخاصة بل اجتمعوا بشكل حضاري وانفضوا بشكل حضاري بعد تحقيق هدفهم بإسقاط رئيس الحكومة وعمدوا إلى تنظيف ساحات الاعتصام وإصلاح الأماكن العامة التي تضررت خلال مظاهراتهم، والنتيجة تحقيق تقدم اقتصادي مذهل خلال زمن قصير وقياسي.
بقلم: ليون زكي، نقلا عن صحيفة الوطن السورية