إذا اعتبرنا الشعب بكل مكوناته ذو ضميرٍ جمعيٍ واحد، يتفق فيه أفراده على قيمٍ ومثلٍ ومبادئ، فإن ذلك الضمير غالباً لا يُخطئ ويتمتع بالحكمة والحلم؛ وإن اختلف الأفراد في طريقة العيش والتعاطي مع بعضهم البعض، فإذا أصدر ذلك الضمير الجمعي رأياً في مسألةٍ عارضة يُصبح ذلك الرأي قيمةً اجتماعيةً عُظمى، وإذا أصدر ذلك الضمير الجمعي حُكماً على أمرٍ ما، يُصبح ذلك الحُكم مُبرماً، وإذا أحب الشعب شخصاً يُصبحُ مثالاً يُقتدى به، وكذلك إن كرهوا شخصاً يصبح شيطاناً يُستعاذُ منه.
وعلى هذا فإن الشعوب إذا ظُلمت لا بدَّ أن يكون لها ردَّة فعلٍ على ذلك الظلم ولا يقف أمام ردها أي عائق مهما تقادم الزمان، وتكون ردّة الفعل كأنها صادرةً من رجلٍ واحد؛ ذلك الرجل “الضمير الجمعي” الذي يتمتع بالحكمة والحلم والدّقة والقوّة والشجاعة، لأن هذه الصفات موجودة عند الكثير من أفراد الشعب الذين يشكلون ضميره الجمعي.
وإذا كان الضمير الجمعي للشعوب كالرجل الواحد؛ فمن الحماقة بمكان أن يُستفز أو يُظلم، ولقد وَجدتُ في التاريخ كثيراً من تصرفات الشعوب كأنها رجلٌ واحد هذا الرجل الذي يُعلي من شأن أهل الفضل، وينتقم من الظالمين والأشرار.
يقول الشاعر البغدادي كاظم الأزدي المتوفي سنة (1211م – 1796م)
إياكَ مِنْ غَضبِ الحليمِ فإنَّهُ….
كالنصّل صَيّرهُ الصّقالُ مجوهرا
ولربّ صاعقة أتت من مُمْطِرٍ….
والناُر قد تَلِجُ القَضيبَ الأخضرا
وبعيداً عن أي أسبقيّةٍ فكريةٍ أردتُ أن أُدلل على كلامي السابق بذكر نموذج لضمير جمعي لشعبٍ واحد هو الشعب الأرمني؛ ويعود اختياري لثلاثة أسباب هي:
أولاً: مرور ذكرى الإبادة الأرمنية بنا في هذه الأيام والتي أعدم الأتراك فيها في سنة (1915م) ما يزيد على المليون ونصف إنسان، وفي نفس الوقت في أيامنا هذه نعاينُ الدعم التركي اللامتناهي للإرهاب وأهله الذي يستهدف وطننا العظيم سورية، إنَّهُ التركي نفسه الذي نفّذ الإبادة بحق الأرمن.
ثانياً: التأكيد على أن الظلم لا دين له، وأن من نفذ جرائم الإبادة بحق الشعب الأرمني لم يحمل تعاليم الدين ولم يتمتع بأي خلقٍ إنساني، وإنما حمل عقلية التطرّف وسار في طريق الشياطين وعلى نهج المجرمين.
ثالثاً: إصرار الشعب الأرمني على تحقيق قراره في الحكم على الظالم، حيث كانت ردّة فعل هذا الشعب عبر إعلان حزب الطاشناق سنة (1920م) أحكام الإعدام بحق القادة الأتراك الذين كانوا سبب الإبادة الأرمنية .
ومهما كانت آراء غير الأرمن بعمليات الإعدام تلك فقد خَلَّدَ هؤلاء أسمائهم في تاريخ الأمة الأرمنية إلى الأبد، شاء من شاء وأبى من أبى، فقد نفذوا قرار “الضمير الجمعي لشعبهم” بكلِّ إخلاص وإصرار.
للشعب الأرمني ولكل شعوب الأرض السلام.
أسأل الله الذي خلق الإنسان أن يعمَّ السلام في أرجاء وطني بل وفي أرجاء الدنيا بأسرها، أسأله الرحمة للشهداء، والشفاء العاجل للجرحى والنصر لجيشنا الباسل، والإنصاف لكلِّ مظلوم، والأمن والأمان للإنسانية جمعاء.
المصدر: صحيفة الجماهير السورية