في إطار الاستعداد لإحياء الذكرى 103 لمذابح الأرمن، يلاحظ أن هذا الحدث لا يزال نقطة إشكالية في تاريخ الدولة التركية نظراً إلى صعوبة فهم دوافعه. فبينما اعترف جزء كبير من المجتمع الدولي (29 دولة إضافة إلى الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) بأن ما حصل بحق الأرمن هو «تطهير عرقي وإبادة جماعية» بحق ما يزيد على مليون أرمني، يرفض الأتراك وصف ما حدث بأنه إبادة جماعية، بل يقدمونه كحرب أهلية رافقتها مجاعة أوقعت ضحايا في حدود 300 ألف نسمة من الجانبين. وعلى رغم غياب عملية تحكيم دولية للأحداث، إلا أن مراجعة اتفاقية عام 1948 لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (والتي تشترط توافر عاملين رئيسين لوصف جريمة ما بأنها «إبادة جماعية» وهما: أن ترتكب الجريمة ضد جماعة قومية أو إثنية أو دينية، بهدف التدمير الكلي أو الجزئي لهذه الجماعة وأن تنطوي على أحد الأفعال التي تتضمن قتل أعضاء من جماعة ما، إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير، إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها التدمير الكلي أو الجزئي) قد تُرَجح وسم مذابح الأرمن على أنها «إبادة جماعية». فوفقاً لكثير من المؤرخين، فالحكومة العثمانية التي كانت خاضعة لجمعية للاتحاد والترقي سعت إلى ترسيخ الهيمنة التركية المسلمة في منطقة الأناضول الشرقية من خلال القضاء على الأرمن كجماعة عرقية مميزة طالما طمحت إلى الحكم الذاتي والاستقلال عن الدولة العثمانية. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى وتصاعد الشكوك في ولاء الأرمن للدولة العثمانية التي اتهمتهم بالانحياز لقوات الحلفاء وبالتحديد روسيا- قتل الأتراك عدداً كبيراً من الأرمن في عمليات إطلاق نار جماعية، كما أصدرت الحكومة العثمانية المركزية في القسطنطينية قراراً قضى بتهجير الرعايا الأرمن في الأناضول نحو الصحراء السورية، وتم تطبيق القرار بين أيار (مايو) 1915 وشباط (فبراير) 1916.
ويقدّر المؤرخون أن 75 في المئة من الأرمن المجبرين على السير في هذه المسيرات ماتوا قبل أن يصلوا إلى بادية الشام. وأورد هنري مورغنتاو، السفير الأميركي إلى السلطنة في 1913-1916، في مذكراته «قتل أمة»، شهادته عن القتل والتجويع والإذلال وانتهاك الأعراض الذي تعرضت له قوافل الأرمن تحت سمع وبصر الحكام العثمانيين، على طول الطريق حتى آخر مرحلة له في دير الزور في سورية. وبالإضافة إلى توافر عاملي القتل الجماعي للأرمن وتعريضهم لظروف غير إنسانية أثناء هجرتهم قسرياً، ما يؤكد أن مذابح الأرمن كانت تطهيراً عرقياً، يشير كثير من المؤرخين إلى أن هذه المذابح تمت بطريقة متعمدة ومنهجية على يد الدولة العثمانية خلال وبعد الحرب العالمية الأولى. ومن أبرز الدراسات التاريخية التي تؤكد ذلك ما جاء في كتاب للمؤرخ التركي تانر أكتشم، نشره في مطلع 2018 تحت عنوان «أوامر القتل: برقيات طلعت باشا والإبادة الجماعية للأرمن». يوُثق الكتاب النسخة الأصلية لأوامر القتل التي وقّعها وزير الداخلية العثماني آنذاك طلعت باشا وكذلك برقية أصلية، ولكنها مشفرة، أرسلت في 1915 من مدينة أرزورم التركية، حيث أرسلها مسؤول رفيع المستوى فى الحكومة العثمانية، بيهادين شاكر، إلى زميل له في ميدان الحرب، يطلب فيها تفاصيل عن عمليات تهجير وقتل الأرمن في منطقة شرق الأناضول. وبهذه الطريقة يمثل الكتاب دليلاً آخر على تورط تركيا في القتل الممنهج للأرمن في أول عملية إبادة جماعية في القرن العشرين والتي طالما حاولت الحكومات التركية على مدى القرن الماضى انكارها.
وبالنسبة إلى الموقف التركي الرسمي حديثاً، فقد عبَر عنه رئيس الوزراء أحمد دواود أوغلو في 2013 واصفاً حوادث التهجير القسري بأنها «عمل غير إنساني»، لافتاً إلى مسؤولية حركة «الاتحاد والترقي» عن تنفيذها، ولكنه أشار أيضاً إلى «المعاناة» التي عاشها «الأتراك المسلمون»، معرباً عن استعداده لمشاطرة الآلام من دون التطرق إلى وصف ما حدث للأرمن بأنه إبادة.
وعلى الجانب الآخر، يستمر تصاعد الضغط الدولي على تركيا والذي كان آخره تصريح البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، في 2015 بأن مذابح الأرمن هي إبادة جماعية، وانضمام هولندا في 2018 إلى قائمة الدول الأوروبية التي اعترفت بالإبادة، وتصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 2017 بأن مذابح الأرمن هي واحدة من أفظع الجرائم الإنساسية في القرن العشرين. فهل مع حلول الذكرى الـ103 للمذابح الأرمنية يعترف الأتراك بأن أجدادهم أبادوا عن سابق إصرار مئات الآلاف وربما الملايين من الأرمن في سبيل تتريك الأناضول وحماية أركان الإمبراطورية المتداعية آنذاك؟
بقلم: عزيزة عبدالعزيز منير
نقلا عن: الحياة