في الشهر المنصرم، عندما كان إردوغان ينتقد الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني في موضوع القدس، صرح الرئيس التركي إردوغان بإحدى قناعاته الفظيعة دون أن يرف له جفن قائلاً: “لم يكن هنالك في تاريخنا أية إبادة عرقية، ولا هولوكوست، ولا مجزرة، ولا تصفية عرقية ولا تعذيب“.
إنّ جملة الإنكارات للحقائق التاريخية وخاصة معاملة الأقلّيات ليست بالجديدة في الدولة التركية، ولكن مع كل إنكار، يكرر التاريخ نفسه، فمجازر الأرمن لحق بها مجازر اليونان والسريان والعلويين والأكراد.
هذه المقالة لن تركز على إنكار الإبادة، بقدر ما ستركز على نكران التواجد الكثيف للأرمن وفضائلهم على تركيا في مجالات عديدة.
في مقالتي السابقة ( الجزيرة الأرمنية في البوسفور) تطرقت كيف أنّ عائلة واحدة من معماريين أرمن (آل باليان) رسموا آفاق مدينة إسطنبول، وخاصة عند البوسفور، بتشييدهم القصور والبيوت الفخمة، والثكنات، والمساجد. وعلى الرغم من مكانتهم الوقورة والمحترمة كمعماريين ملكيين إلّا أنّ الدولة التركية تنكر هويتهم الأرمنية، بل وتمّ ذكرهم على أنهم أي آل باليان من الإيطاليين في الإرشادات السياحية الرسمية حتى أوائل القرن الواحد والعشرين.
وحتّى المعماري ميمار سينان (١٤٨٩-١٥٨٨) والذي يعتبر اكثر شهرة من آل باليان ترك بمفرده أثراً في جميع أنحاء الامبراطورية العثمانية حيث بنى ٩٢ مسجد، و ٥٥ مدرسة، و ٣٦ قصر، و ٤٨ حمّام شعبي، و٣ مشافي، و٢٠ خمّارة، و ١٠ جسور، و ٦ قنوات مياه، والمئات من المباني الحكومية. واغلب أعماله لا تزال صالحة حتّى يومنا هذا. ومن تحفه المعمارية، مسجد السليمانية في إسطنبول؟ ومسجد السليمية في ايديرن وقد تمّ إدراجهما في قائمة اليونيسكو لتراث الأبنية. واغلب الأتراك يعرفون المعماري الأرمني سينان على أنّه المعماري التركي العظيم سينان، وتمّت تسمية عدد من جامعات العمارة والفنون الجميلة باسمه. ولكنّه أرمني من قرية اغيرناس بمقاطعة كايسيريه، وأبعد قسراً عن والديه حينما كان صبيا، فتمت أسلمته، فختانه، وتمّت تربيته كجندي، وبعد ذلك كمعماري من قبل الدولة. وحينما توفيّ في عمر التسعة والتسعين، دفن قرب مسجد السليمانية. وخلال ثلاثينيات القرن الماضي سيطر مفكرون عنصريون على الدولة التركية، ادعوا أنّ الجنس التركي يتفوق على جميع الأجناس الأخرى وأنّ هنالك مجموعة من الخصائص خاصة بالجنس التركي، كشكل الجمجمة وخصائص أخرى. ولإثبات نظريتهم ولكي يبينوا أنّ الأذكياء من الأتراك في التاريخ يملكون الخصائص العرقية التي تكلموا عنها قرر “علماء الإنسان” الأتراك بنبش بقايا المعماري سينان (اكثر الأتراك شهرة من التاريخ). ولسوء حظهم لم يطابق حجم جمجمة سينان حجم الجمجمة التركية التي تكلموا عنها، فتم إخفاء جمجمة سينان. وحتّى يومنا هذا يبقى مكان الجمجمة مجهولاً ويظل سينان بدون رأس في مقبرته.
وفي الثلاثينيات أيضاً عندما قرر الرئيس التركي آن ذاك مصطفى كمال تقديم الأحرف اللاتينية وتحديث اللغة التركية عيّن البروفيسور البارز عالم اللغويات آكوب مارتايان ليترأس مجلس اللغة التركية. وكمكافئة لخدماته للغة التركية، منح مصطفى كمال له نسبة جديدة، فأصبحت كنيته ديلاجار، أي فاتح اللغة. وفي المقابل اقترح مارتايان اسم “أتاتورك” لكمال وفيما بعد تبنّى البرلمان الاسم. وحينما توفيّ مارتايان في ١٩٧٩ سمّاه الإعلام التركي أ. ديلاجار، بدون أن يذكروا شيئا بشأن هويته الأرمنية. وفيما بعد حرّفت بعض الجرائد التركية إلى عادل أجار.
وبعدما اتّخذ مصطفى كمال اسم أتاتورك، احتاج أن يتبنى توقيعاً جديداً فاستدعى أرمنياً آخر، وهو أستاذ التخطيط المشهور فاهرام جيرجيان. وتمّ تبنّي التوقيع الذي حضّره جيرجيان في العام ١٩٣٤ ويظهر التوقيع في جميع الأوراق التركية الموجهة للبرلمان ، لكنّ اليوم ما من احد يتذكره.
وفي العام ١٩٣٢ عينت الحكومة التركية المايسترو وعالم الموسيقى الأرمني ادجار ماناس، لخلق الانسجام والتناغم للنشيد الوطني التركي، لا للحن الذي ألّفه ملحّن تركي. ولا أحد اليوم يذكر المايسترو الأرمني على الرغم من أنّ نشيدهم الوطني يغنّى كل أسبوع في المدارس والملاعب والبرلمان.
وفي السينما التركية، نجوم الأفلام كعديلة ناسيت، وتوتو كاراجا، وفاهي أوز، وسامي هازينسيز، وكنان بارس معروفون في جميع أنحاء تركيا، اضحكوا وابكوا الملايين من خلال أفلامهم. لكن عدد قليل جداً من الأتراك يقرون أنّ أولئك النجوم كانوا أرمن، وكشف ذلك بعد أن توفوا. عديلة ناسيت (عديلة كيسكينير، ١٩٣٠-١٩٨٧) توتو كاراجا (ايرما فيليجيان، ١٩١٢-١٩٩٢) فاهي أوز( فاهة اوزينيان ١٩١١-١٩٦٩) سامي هازينسيز (سامويل آكوب اولوجيان، ١٩٢٥-٢٠٠٢) وكنان بارس (كريكور جيزفيجيان، ١٩٢٠-٢٠٠٨).
الأوبرا الأولى في تركيا قدّمها وأخرجها وكتبها وانتجها في العام ١٨٧٤ في إسطنبول الأرمني ديكران جوخاجيان (١٨٣٧-١٨٩٨). لكن المصادر التركية تنكر ذلك، وتستشهد بمغنين أتراك قدموا بعد ذلك.
وقُدِّم المسرح الأول في إسطنبول عام ١٨٦٨ من قبل ممثل أرمني، يدعى جوللو آكوب فارتوفيان (١٨٤٠-١٩٠٢). ولكنّ المصادر التركية تنكر ذلك وتستشهد بممثلين أتراك قدموا بعد ذلك.
وأوّل الرّياضيّين الذين مثلوا تركيا العثمانية كانوا أرمن ويونانيين في العام ١٩١٢ في ستوكهولم. وكان الأرمنيان فاهرام بابازيان ومكرديج ميكيريان. ولكنّ المصادر التركية تنكر ذلك وتستشهد برياضيين أتراك قدموا بعد ذلك.
هذه الأمثلة عن الإسهامات والاختراعات والإنجازات الأرمنية تمّ إنكارها ونسيانها في تركيا، ومن المرجح أن تتكرر في شتّى المجالات كالفنون والعلوم والأعمال والأموال والمصرف والهندسة والنشر في تركيا العثمانية أو الجمهورية. واحد اهم المصادر افهم الدور الأرمني في تركيا هو سلسلة من أربعة كتب مفصلة تفصيلا دقيقاً بعنوان “الأرمن الغربيون في التاريخ” (Tarih Boyunca Bati Ermenileri) باللغة التركية كتبها البروفيسور توجلاجي واسمه الحقيقي بارسيغ توجلاجيان(١٩٣٣-٢٠١٦) وهو الكاتب الأول لموسوعة تركية تدعى “معجم محيط الموسوعة” وعدد كبير من الكتب الأخرى. ولكن العمل الأثمن في حياته هو ذلك الكتاب من اربع أجزاء الذي يحكي تاريخ الأرمن، كتبها استنادا إلى مئات الآلاف من الوثائق التي تم بحثها بدقة. ويحتوي كل جزء على قرابة ٩٠٠ صفحة ويغطي الجزء الأول الفترة ما بين أعوام ٢٨٩م حتى ١٨٥٠م أما الجزء الثاني فيغطي الأعوام ما بين ١٨٥٠م وصولاً إلى ١٨٩٠، وبالنسبة إلى الجزء الثالث فشمل فيه ما بين أعوام ١٨٩٠م حتى ١٩٢٣، فالجزء الرابع والأخير الذي يشمل الفترة ما بين أعوام ١٩٢٣ حتّى ١٩٦٦. وتمّ إصدار الجزء الأخير في إسطنبول عام ٢٠٠٩. وللأسف أصابه داء الزهايمر في آخر عمره فسلب منه عقله اللامع، فلم يتمكن من نشر الجزء الخامس الذي يغطي الفترة بيت ١٩٦٦ وصولا للعام ٢٠١٠. والشاهد الأكثر مأساوية وغير القابل للجدل عن الإبادة العرقية الأرمنية جاء في الجزء الثالث من سلسلة كتبه (١٨٩٠-١٩٢٣)، والذي يعرض آلاف الوثائق الشاهدة على الإنجازات الأرمنية في جميع المجالات التي تمّ ذكرها أعلاه متضمنة فترة الحكومة العثمانية. ومن الواضح أنه حتى منتصف العام 1910، كان الأرمن بارزين في جميع مستويات وزارة الخارجية والسفارات العثمانية، التي لا غنى عنها في مؤسسات الدولة والبنك المركزي، و كانوا مؤثرين في جميع الأعمال التجارية والفن والعلوم والمؤسسات الأكاديمية، في إسطنبول، فضلا عن جميع المحافظات العثمانية. إنّ الاختفاء المأساوي لجميع الأسماء الأرمنية هذه في العام ١٩١٥ شاهد كافٍ على الإبادة العرقية الأرمنية، حتّى بدون أن يستخدم مصطلح “الإبادة العرقية”. وحينما سألت البروفيسور توجلاجيان حول كيفية السماح له بنشر كتاب حساس كهذا في تركيا، جاوب ببساطة: “أنا قمت بمجرد تقديم وثائق الدولة التي تبين الترقيات أو المكافآت التي حصل عليها الأرمن في بيروقراطية الدولة، والإنجازات التي قام بها الأرمن في الفنون والعلوم والأعمال التجارية، والإعلانات الترويجية من الشركات الأرمنية أو الأحداث الثقافية. كانوا موجودين جميعا قبل العام ١٩١٥، ولكن لم يكونوا بعد ذلك العام، من يمكنه أن يجادلني في ذلك؟.
وكخاتمة لهذه المقالة أدعو جميع الباحثين الأرمن في أرمينيا والمهجر أن يقوموا بترجمة الكنز المخفي للبروفيسور توجلاجيان للغة الإنكليزية والأرمنية ليتسنى للأجيال القادمة أن يفهموا ما كنا نملك، وما خسرناه، والأهم من كل ذلك.. لماذا خسرناه…
بقلم: رافي بدروسيان