الصورة المرفقة: رسم تخيلي لمعركة مرج دابق التي مهدت للاحتلال العثماني بالمنطقة
الاحتلال منذ 500 عام.. كان بداية الغدر العثماني بفلسطين، بل وبكل دول المنطقة، حين اصطنع سليم الأول خلافة كاذبة باسم “الفتح” احتل بها شعوبا دخلت إلى الإسلام قبل أن يخرج العثمانيون من وسط جبال آسيا كمقاتلين مرتزقة بمئات السنين.
وتوالى هذا الغدر بتسليم فلسطين إلى الاحتلال البريطاني- اليهودي المشترك، كما تركت دولة الاحتلال العثماني مصر وسوريا وبلاد المغرب والعراق وليبيا.. إلخ يتقاسمها المحتلون الجدد، البريطانيون والفرنسيون والإيطاليون، رغم ادعائها أنها “حامية الإسلام والمسلمين”.
الهجرات اليهودية الأولى لفلسطين
بعد نحو 350 عاما من استغلال العثمانيين لخيرات بلاد الشام وسفك دماء أهلها، بدأ التدفق اليهودي إلى الأراضي الفلسطينية في منتصف القرن التاسع عشر؛ لمشاطرتهم في هذا الاستنزاف؛ تنفيذا لمشاريع بريطانية تردد صداها منذ القرن السابع عشر الميلادي على الأقل.
ودخل اليهود إلى فلسطين في البداية باسم تجار ومستثمرين، يأخذون الأراضي البور أو التي هجرها أهلها أو المتطرفة وتحويلها إلى مزارع، ثم دخلوا أفواجا باسم مهاجرين وفارين من أتون الثورات التي كانت تحرق أوروبا في القرن التاسع عشر.
وفي سنة 1840 أرسل رئيس الوزراء البريطاني بالمرستون إلى سفيره في الأستانة يطالبه بأن ينشط في متابعة طلبه من السلطان العثماني بدعوة اليهود للذهاب إلى فلسطين، وأن يغريه في ذلك بأن ذلك سيزكيه في الأوساط الأوروبية المتحمسة لليهود، والتي تتميز بالنفوذ والثراء؛ ما سيكون له تأثير إيجابي على أحوال السلطنة.
وجاء ذلك في وقت تشهد فيه دولة الاحتلال العثماني تهديدات من روسيا، جعلتها تخضع لمشاريع بريطانيا عدة، منها ترحيل اليهود إلى فلسطين، والغزو البريطاني لمصر في التوقيت ذاته.
واستهل اليهود البريطانيون عصر الاستيطان اليهودي بفلسطين على يد الثري اليهودي موسى مونتفيوري عام 1835، حين كانت الشام تحت حكم محمد علي، وأرسل السلطان العثماني جيوشا لمحاربة محمد علي وإزاحته من الشام، ولكنه لم يرسل الجيوش نفسها لمنع الاستيطان اليهودي في ذلك الوقت أو في أي وقت لاحق.
وأسس مونتفيوري سلسلة بنوك في المنطقة، ليكوّن ذراعا اقتصادية متينة تساعد على تمكين اليهود فيما بعد.
كما أنشأ مونتفيوري المستوطنات الزراعية في الجليل ويافا تحت بند الاستثمار، وتحت سمع وبصر السلطان العثماني الذي حصل منه على فرمان يمكّنه من شراء أراضٍ عام 1854، أقام عليها أول حي يهودي سكني يشرف عليه يهود أجانب وهو حي “مونتفيوري” في القدس، كما حصل منها على امتيازات لليهود الأجانب في المشاريع الصناعية.
وكان عدد اليهود في فلسطين قبل نشاط مونتفيوري 1500 يهودي ثم ارتفع إلى 10 آلاف عام 1840، ووصلوا إلى عشرات الآلاف في نهاية العهد العثماني، معظمهم وافدون من الخارج.
عصر عبد الحميد الثاني (1876- 1909)
نشط تدفق الهجرات اليهودية إلى فلسطين بعد إتمام حفر قناة السويس 1879 في مصر، وتزايد القيمة الاستراتيجية والاقتصادية للشرق الأوسط.
وفي ذلك الحين تشكلت في أوروبا المنظمة الصهيونية العالمية، والصندوق القومي اليهودي، والوكالة اليهودية، وغيرها من تنظيمات كانت تعلن صراحة أن هدفها هو تهجير اليهود إلى فلسطين بشراء أراضٍ وإقامة مستوطنات لهم بغرض احتلالها.
ولم يحرك السلطان العثماني عبد الحميد الثاني سيوفه ولا عملائه لمنع ذلك، في حين كان ينشط في قمع كل حركات الاحتجاج والثورات التي تنشأ في مصر (كالثورة العرابية) والشام وغيرهما ضد الاحتلال العثماني أو ضد الاحتلال البريطاني.
وفي عام 1896 نشر تيودور هرتزل كتابه عن الدولة اليهودية أمام العالم كله.
وما كان طلب هرتزل من السلطان عبد الحميد الثاني سوى أن يأخذ فرمانا يقضي بالحصول على حكم ذاتي لليهود في فلسطين، بعد أن استتبت لهم عدة مستوطنات بالفعل.
ولكن صنعت بعض أبواق تمجيد دولة الاحتلال العثماني مما يقال عن رفض عبد الحميد الثاني عرضا من هرتزل بتقديم فلسطين لليهود، هالة زائفة حول السلطان الغابر والعثمانيين عموما، وصنعوا منه “حاميا” للإسلام ومقدساته.
فقد تغافل هؤلاء عن ذكر أن السلطان عبد الحميد ذاته ساعد كمَن سبقه في تقديم أراضي فلسطين سائغة سهلة لليهود، ولكن من باب آخر، وهو باب الاستثمار وغيره، والتغاضي عن المزارع والمستوطنات اليهودية التي باتت تتفشى في جسد فلسطين أمام عينيه، والتي تعلن المؤتمرات اليهودية العالمية، ومنها مؤتمر الصهيونية الأول بقيادة هرتزل، أن هذا الاستيطان هو مقدمة لتمكين اليهود من فلسطين.
ورغم ذلك لم يتحرك عبد الحميد الثاني بشكل جدي لإزاحة هذا الاستيطان السرطاني، بالضبط كما لما يتحرك هو وغيره من السلاطين أمام الاحتلال البريطاني لمصر والاحتلال الفرنسي للجزائر وتونس رغم تنصيب نفسه “حاميا للمسلمين”.
ووفق مصادر تركية، فقد حاول عبد الحميد الثاني بعد تفشي الاستيطان وضع القيود على هجرة اليهود إلى فلسطين، ولكن بعد فوات الأوان، فقد كانوا يصلون فلسطين على شكل حجاج، متمتعين بالامتيازات الأجنبية الممنوحة للأجانب، ثم يقيمون في فلسطين بدعم القنصليات الأجنبية ومن سبقهم من مستوطنين يهود، ولم يحرك السلطان العثماني جيوشه إزاء ذلك، رغم رؤيتهم يتمددون في مستوطنات جماعية.
وحصل اليهود في العهد العثماني على ملكية 560 ألف دونم، بنسبة 2% من مساحة فلسطين، كما وصل عدد المستوطنات اليهودية إلى 47 حتى سنة 1914، وفق بعض الكتابات الفلسطينية.
الامتيازات الأجنبية
ومنحت دولة الاحتلال العثماني امتيازا لليهود يقضي بأن رعايا السلطان من اليهود يدخلون ويخرجون من فلسطين دون قيود؛ ما أدى إلى تدفق اليهود من بلاد عربية على فلسطين بسهولة تحت اسم عامل وتاجر.
كما أسهمت الامتيازات الأجنبية التي منحها العثمانيون لرعايا الدول الأجنبية في تسهيل حركة اليهود الأوروبيين إلى فلسطين، وحتى اليهود الروس- رغم العداء بين روسيا والعثمانيين- وذلك بعد أن منحتهم بريطانيا حق الحماية وأنهم من رعاياها.
وزاد التدفق اليهودي الروسي إلى فلسطين بعد عام 1882 إثر عمليات في روسيا استهدفت اليهود، ردا على ما قيل عن فتن اصطنعوها ضد القياصرة وبقية السكان.
وعد بلفور ومعاهدة سيفر
وبعد اكتمال زرع مستوطنات يهودية واسعة في فلسطين، أعلنت بريطانيا صراحة وعد بلفور 1917، وتحدث صراحة عن أنها ستمكن اليهود من فلسطين، ومن جديد لم يتحرك السلطان، بما يقدم دليلا على صحة ما ادَّعاه هو وأجداده بأنهم “حماة الإسلام والمسلمين”.
وفي عام 1920 وقعت الدولة العثمانية على معاهدة “سيفر”، التي يقضي جزء منها على التخلي عن فلسطين؛ ما مهد لتسليمها إلى الانتداب البريطاني.
وبناء على ذلك أعلنت بريطانيا، الانتداب (الاحتلال) على فلسطين 1920، تمهيدا لتسليمها بشكل رسمي لليهود، وأيضا تحت سمع وبصر دولة الاحتلال العثماني التي لم ترسل أي قوات لردع هذا الأمر.
وبذلك فإن وقوع فلسطين ومقدساتها في يد إسرائيل لم يكن فقط بالاحتلال الإسرائيلي، بل كان بالاحتلال العثماني وتسهيله للاستيطان اليهودي ثم الاحتلال البريطاني، وكلها مراحل متكاملة، يجتهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تعزيزها عبر مشاركته في محاولة تدمير الجيوش العربية؛ كونها الوحيدة التي رفعت السلاح في وجه إسرائيل والاستيطان اليهودي من أجل تحرير فلسطين.. لا من أجل احتلالها.