نيلي، لبلبلة، الطفلة فيروز، و”أنوشكا”… هذه هي الأسماء التي سترد إلى ذهنك فور أن تمسك كتابا عنوانه “أرمن مصر… أرمن فلسطين.. بعيدا عن السياسة”، وربما ستشجعك الصورة بالأبيض والأسود على غلافه الأمامي، للمضي قدماً في قراءة سيرة للشعب الذي عاش في الشتات الإجباري بعيداً عن أرضه، وهي السيرة التي تشعر معها بألفة عجيبة، نظرا لتكرار المؤلفات الموضوعة عن الشتات الذي تعرض له الأرمن، والمذابح التي أصابتهم على يد الأتراك، وهو ما دفعهم للنزوح. لكن الجديد هنا في هذا الكتاب، أنه بطريقة غير مباشرة يعرفك على ظروف بلدين احتضنا اللاجئين الفارين من ويلات المذابح، وكيف كافأ الفارون شعبي البلدين على احتضانهم لهم في ظروفهم العسيرة.
يستهل مؤلف الكتاب ماجد إسرائيل فصله الأول بسطور من الكتاب المقدس، إنجيل متى الأصحاح الثاني: يقول فيها: وبعدما انصرفوا، إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم، قائلا: قم وخذ الصبي وأهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك.
يربط المؤلف بشكل خفي بين الشتات الأرمني في مصر، وفلسطين، مسلطاً الضوء أكثر على الهجرات الأرمينية منذ القدم، مانحاً قارئه تركيزاً أكبر على نشاط الأرمن ووجودهم خلال القرن التاسع عشر في البلدين المذكورين. ولكن لماذا أصرّ ماجد إسرائيل على وضع عبارة “بعيدا عن السياسة” كعنوان فرعي لكتاب، موضوعه الرئيسي يتحدث عن مأساة الشتات لشعب هجر أرضه، وعاش في أوطان أخرى؟
يلمح المؤرخ عاصم الدسوقي في تقديمه للكتاب أن حياد المؤلف في هذا العنوان، لا يمنع من تعاطفه مع الأرمن، كما يبدو من عبارات الإهداء التي ذكر فيها ماجد إسرائيل: “إهداء إلى الشعب الأرمني العريق وإلى أرواح الشهداء الأرمن، الذين قتلوا غدرا من أجل أرمينيا“.
الأرمن في مصر
يحسب القارئ مع الفصل الأول من الكتاب، الذي عنونه مؤلفه بـ” الأرمن في مصر” أنه بحاجة لمراجعة معلوماته عن بداية الهجرات الأرمينية إلى مصر، فلم يقتصر وجود الأرمن في مصر مع ظهور محمد علي باشا فيها، بل سبقتها هجرات خلال الحكم الفاطمي، اذ اشتهر القائد العسكري الأرمني ابن يحي الأرمني. يعدد مؤلف الكتاب أسماء القادة الأرمن الذين تبوؤوا مكانة مهمة في العصور الإسلامية، ومنهم حسام الدين لؤلؤ، وبدر الدين الجمالي الأرمني، الذي كان قائداً عاماً للبحرية المصرية، واستدعاه الخليفة المستنصر إلى القاهرة لإنهاء حالة الفوضى والاضطراب في دولة الخلافة، كما ظهرت أسماء أرمنية في العصر الأيوبي مثل بهاء الدين قراقوش، وشرف الدين قراقوش، ولعل هذه الأسماء لم تزل حية إلى اليوم، ويستدل بها على الطغيان والفجور في الحكم “حكم قراقوش”، على الرغم أن ابن إياس وصفه بالحاكم الصالح في كتاب “بدائع الزهور”.
مع تولي محمد علي حكم مصر، توافد الأرمن بشكل أكبر إلى مصر، وقدموا الدعم المالي لمشروعاته، وحروبه ضد السلطان العثماني. في عام 1837، أقام الأرمن أول بنك في مصر، كما أنشأوا صناعة الطباعة في البلاد، وترجموا الكثير من الكتب إلى العربية، فترجم أرتين شارقيان كتاب الأمير لمكيافيللي بأمر شخصي من محمد علي، الذي قدر قدراتهم الفكرية ومهارتهم، وبالطبع لا ينتهي هذا الجزء من الكتاب قبل أن يمر مؤلفه إلى ذكر عائلة “باغوث يوسوف” التي احتلت مكاناً بارزاً في السياسة المصرية، واحتكرت (وزارة) “نظارة الخارجية”، وكذلك نوبار نوباريان الذي تولي رئاسة أول وزارة مصرية.
في فصل “المذابح الأرمينية 1876-1923″، يستفيض المؤلف في شرح المعاناة التي تعرض لها الأرمن، نتيجة اقتسام الدولة العثمانية والدولة الصفوية أرمينيا في ما بينهما بعد غزوها، ومحاولات الأرمن إجراء إصلاحات في ست ولايات أرمينية هي بيتليس، وأرضروم، وفان وخربوط وسيواس، وجزء من ديار بكر، وبالتحديد من مدينة آمد، والمساعي الأرمينية لدى روسيا للضغط على العثمانيين بعد الحرب الروسية العثمانية عامي 1877 و1878، والتي أسفرت جزئيا عن معاهدة سان استيفانو، وكانت في صالح الأرمن. إلا أن العثمانيين تنكروا لهذه المعاهدة، وواجهت الثورة الأرمينية بالمذابح الحميدية التي جرت ما بين 1894 و1896، تحت حكم السلطان عبد الحميد الثاني.
والحال ان المذابح الأرمينية لا تتمثل فقط في تلك التي جرت عقب الحرب العالمية الأولى، وربما المعلومة تكون شائعة لدى المتخصصين في هذا الملف، إلا أن مؤلف الكتاب يمنح القارئ توثيقا للعديد من المذابح التي سبقت الإبادة الشهيرة، وتكشف صبر هذا الشعب على ما لحق به من جرم، فالمذبحة غدت آلية عثمانية تكررت مراراً، وتسببت في تيتم آلاف الأسر، إما نتيجة القتل، أو التجويع، أو التشريد، أو البرد، وهاجر الآلاف منهم إلى روسيا القيصرية، والبلقان، وأوروبا وأميركا، كما هاجر الآلاف إلى البلاد العربية. تكررت المذبحة مرة أخرى عام 1909، التي عرفت بمذابح إقليم أضنة، وراح ضحيتها أكثر من 20 ألف أرمني، ثم تلتها مذابح الحرب العالمية الأولى، التي جرت على خلفية تقهقر الجيش العثماني على جبهة القوقاز، فألقوا باللوم على الأرمن الروس المتطوعين في الجيش الروسي، وجردوا الأرمن العثمانيين من رتبهم، واتهموهم بالخيانة العظمى، قبل أن يقرر النظام الاتحادي العثماني في فبراير 1915 إبادة أرمن الدولة العثمانية، وأسندوا هذه المهمة إلى الدرك والعصابات. فقد أُلقي القبض على أكثر من مائتي ألف أرمني من النخبة المثقفة من أساتذة الجامعات والأطباء ورجال الدين ووجهاء المجتمع الأرمني في مدينة الأستانة، وقُتلوا جميعاً في ساحات إسطنبول.
الصيارفة
هيمن الصيارفة الأرمن في مصر على السوق خلال كساد تجارة القطن بعد فترة الحرب الأهلية الأميركية، أغرى الأرمن العملاء بالسندات، ازدهرت الفترة من 1866 حتى 1870، وصارت بالعصر الذهبي للبنوك التي تمنح القروض للعملاء عن طريق الرهن، بالإضافة إلى بيوت المال الأجنبية التي تقرض العملاء بالربا، ومع تولي نوبار باشا الوزارة عام 1876، زاد عدد الأرمن في مصر، لتشجيعه هجرتهم، وبلغ عددهم حتى عام 1917، ما يقرب من 12 ألف نسمة.
من النقاط المهمة التي يركز عليها مؤلف الكتاب، الحياة الدينية للأرمن في أرمينية منذ قبل الميلاد، وهو ما يجعله يسلط الضوء تاريخياً على عصور ملوكها أبان تلك الفترات، ثم يمر إلى الكنيسة الأرمينية في مصر، ويكشف تاريخها الطويل، نظراً لكثرة هجرة الأرمن إلى مصر، منذ العصور القديمة. يقول المؤلف: فتح الأقباط أبواب كنائسهم للأرمن وتنازلت الكنيسة القبطية للكنيسة الأرمينية عن بعض الكنائس والأديرة، بموافقة الشعب القبطي، أو باستغلال أبنائها ممن تولوا مناصب سيادية في مصر، ومن ذلك تنازل البطريرك القبطي الرقم 67 البابا كيرلس الثاني عن دير مارجرجس في طره ودير البساتسن، وكنيسة القديس مكاريوس التي غير الأرمن اسمها لكنيسة الشهداء مارجرجس.
الجزء الثاني من الكتاب “أرمن فلسطين”، يسلط المؤلف الضوء على تاريخ القدس، وملامحها الجغرافية، وأسوارها وأبوابها، والمسميات التي حملتها، بل والشعراء الذين ذكروها في شعرهم، القديم منهم، حتى نزار قباني وعبد الرحمن الأبنودي. ثم يستخدم المؤلف الوثائق التاريخية متتبعا تطور مدينة القدس تاريخيا، ذاكرا في هذا الجزء قدوم بني إسرائيل إلى المدينة من مصر، مع النبي موسي، الذي توفى شرقي نهر الأردن، على جبل نبو “موآب” وتولى “يشوع بن نون” قيادة بني إسرائيل، إلى أريحا، ومحاولتهم احتلال “يبوس” أو “القدس” قبل مقاومة أهلها ثم مجيء النبي داود عام 1049 قبل الميلاد وتأسيسه مدينة القدس.
وفي الفصل الثالث يحكي المؤلف عن وصول الأرمن لفلسطين لأول مرة مع الفيالق العسكرية الرومانية كجنود وإداريين، كما وصلت الأعداد الكبيرة منهم في القرن الأول قبل الميلاد مع وصول الملك الأرمني “تيجران” إلى عكا.
وعلى الرغم من عنوان الكتاب الفرعي “بعيدا عن السياسة”، إلا أن المؤلف يكشف في هذا الجزء أيضاً الصراعات التي دارت بين الأرمن في القدس، وجيش الاحتلال الإسرائيلي، حول أملاكهم وأديرتهم. فتحت عنوان “الممتلكات الأرمينية التي اغتصبها اليهود” أشار ماجد إسرائيل إلى أن طمس المعالم الدينية المسيحية والإسلامية، والأرمينية في القدس، فدُمرت بطريركية الأرمن ودير مار يعقوب الكبير، وحُولت كنيسة سان رسافيور، إلى موقع عسكري لأنها تتحكم في الزاوية الجنوبية لمدينة القدس القديمة، كما تسببت النكسة عام 1967، في تدمير بعض المباني في الحي الأرمني والقسم السكني في الدير.
(*) أرمن مصر… أرمن فلسطين بعيدا عن السياسة” تقديم عاصم الدسوقي تأليف ماجد عزت إسرائيل صادر عن دار العربي للنشر والتوزيع في القاهرة.