كل ما سيرد حصل، في حرم مدرسة، تعج اليوم بالحياة:
«وجود مقبرة تضم رفات ثلاثمائة طفل أرمني، في مدرسة عينطورة، هو دليل دامغ على جرائم الدولة العثمانية بحق الشعب الأرمني»، هكذا يعبّر ميساك كيليشيان، عن أهمية اكتشاف هذه المقبرة الجماعية عام 1993، والتي كانت تضم بقايا بعض أيتام الأرمن. هذه المدرسة والتي تعتمد اليوم المنهج الفرنسي، استقبلت في عهد جمال باشا العثماني، تحت الضغط عام 1915 حتى عام 1918، يتامى ضحايا مجازر الأرمن، وطبّقت عليهم سياسة التتريك: فاسبدلت أسماءهم الأرمنية بأخرى عثمانية. من تلك السياسة: منعهم من الكلام إلا باللغة التركية. أجبروا على إنشاد النشيد الوطني العثماني بعد أن قضى أهلهم في المجازر الأرمنية. ترافقت سياسة التتريك هذه، مع سياسة تجويع وتخويف اليتامى الذين تواجدوا في دار الأيتام، وكان عددهم 1200 طفل. ثلاثمائة منهم، قضوا بسبب ظروف صعبة، ومع انتشار الجوع في لبنان، والبرص.
يروي ميساك كيليشيان، وهو باحث في تاريخ الأرمن، كيف تم اكتشاف رفات هؤلاء الأطفال، وذلك حدث، عندما كانت إدارة مدرسة عينطورة، تقوم بأعمال توسيع في ساحة المدرسة، وقامت بالحفريات اللازمة، وخلال هذه الأشغال، ظهرت العظام. جمعت إدارة المدرسة العظام، ودفنتها قرب مقابر الرؤساء العاميين للآباء اللعازاريين.
هذه المقبرة الجماعية، في باحة المدرسة، لم تكن الاكتشاف الوحيد الذي افتخر به ميساك، بل هناك اكتشاف تاريخي آخر يفخر به، وهي صورة أخذت لجمال باشا، ووجدها بدوره في أحد الكتب التاريخية، وقد كتب تحتها «جمال باشا في منطقة عينطورة أمام مدخل مدرسة فرنسية وإلى جانبه خالدة أديب هانم وهي شخصية بارزة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة». ومن هذه الصورة بدأ بحث من نوع آخر. زار المدرسة، اجتمع مع من اكتشف المقبرة، وإدارة المدرسة، قرأ بعض ما كتبه هؤلاء الأيتام، ومنهم أطروحة دكتوراه كتبها يتيم من هؤلاء. أعلم بعد تأكده من صحة معلوماته، الأرمن في لبنان والعالم، كما وأبلغ روبرت فيسك عن هذه المقبرة.
هكذا، وبالنسبة لميسك التاريخ لن يمحى بمجرد أن سياسة تتريك حصلت، ووقعت مجازر بحق الأرمن ومن قام بها هم العثمانيون الذين حاولوا إلغاء العرق الأرمني، ووجود ميتم متخصص بذلك يؤكد هذا، ويقول والابتسامة على وجهه، ابتسامة تشبه علامة الانتصار: «فلتنكر تركيا هذا الواقع الآن، بعد نكرانها لمجازر قامت بها بحق شعبنا، فلتنكر تركيا ما قالته خالدة أديب هانم لجمال باشا، بأن التاريخ لن يرحمه!». يصعب نكران الموت، فهو أمر فاضح مهما كان سببه: قتل سريع أم قتل بطيء –وهي تعتبر من الجرائم فأي فعل يؤدي إلى موت دون تدخل مساعدة يعتبر جريمة دنيئة– خاف أو لم يخف الناس من الدولة العثمانية نتيجة القتلين.
ميساك ليس وحده من يعتبر أن اكتشاف هذه المقبرة هو إنجاز للأرمن المنتشرين في العالم، بل هناك أيضًا، باليك، التي رفضت أن تعطينا اسم العائلة لأنها من أرمن إيران. باليك، زوجة أرمني لبناني، تقول بأن: «تركيا حاولت وما زالت تحاول بدبلوماسية إلغاء الفكر الأرمني، واللغة، والتاريخ. شتتنا، جعلتنا مشردين في دول العالم، ضربتنا في جذورنا، البعض أتى إلى لبنان، البعض الآخر ذهب إلى إيران، والبعض عانى ما عانوه هؤلاء الأطفال». هكذا يمكن القول، إنه أضيف إلى تاريخ المعاناة الأرمنية فصل جديد، تروي تفاصيله مقبرة، عرضها وطولها تخطى المتر، وداخلها 300 طفل، رفاتهم مرصوصة فوق بعضها، وكلهم في تابوت واحد.