انطلقت فكرة هذا الكتاب “أرمن مصر.. أرمن فلسطين: بعيدًا عن السياسة” للباحث د.ماجد عزت إسرائيل، عقب الاهتمام العالمي بتاريخ الأرمن سواء في أرمينية أو بلاد المهجر بصفة عامة، وذلك عندما اعترفت حكومات وبرلمانات من 29 بلدًا حول العالم بالإبادة الأرمنية في العام 2015 وبمناسبة مرور مائة عام؛ على المذابح الأرمينية التي حدثت في تركيا من 1894 إلى إبريل/نيسان 1917.
حيث تعرضوا للعديد من المذابح منها المذابح الحميدية وهي التي حدثت ما بين (1894 – 1896م) تحت إشراف السلطان عبد الحميد الثاني (1876 – 1909م)، وتحت حكم الاتحاديين (1919 – 1923م) وقعت مذبحة “أضنة” عام 1909 وهي التي راح ضحيتها نحو 20 ألف أرمني، ومذابح الإبادة العرقية التي وقعت أثناء الحرب العالمية الأولى وبالتحديد ما بين (1915-1917).
هذا الاهتمام العالمي بتاريخ الأرمن سواء في أرمينية أو بلاد المهجر بصفة عامة، دعا الباحث إلى الاهتمام بتاريخهم ،في مصر وفلسطين بصفة خاصة، فكان هذا الكتاب الذي يتناول بشكل مستقل الجالية الأرمنية في مصر وفلسطين.
قسم الباحث كتابه الصادر أخيرا عن دار العربي للنشر إلى جزئين الأول: يتناول الجالية الأرمينية في مصر، منذ القرن التاسع عشر، الذي حدثت فيه تحولات جذرية وتغييرات هيكلية سواء في مصر أو في الدولة العثمانية، لم تشهدها البلاد من قبل في ظل الاتجاه لتحرير التجارة والاندماج في السوق العالمية على إثر معاهدة بلطة ليمان 1838م ومعاهدة لندن 1840م، والتي كان لتوقيعها أكبر الأثر في البدء في إلغاء نظام الاحتكار وبداية عصر الحرية الاقتصادية وما ترتب على ذلك من اتساع النشاط الاقتصادى، وبزوغ فكرة المواطنة وتقبل الآخر في ظل الحرية الدينية إلى حدا ما.
وينقسم هذا الجزء إلى فصلين وخاتمة، ويستعرض الفصل الأول “الجالية الأرمينية والنشاط الاقتصادي في مصر في القرن التاسع عشر”، من حيث تطور الوجود الأرمني في مصر، والمذابح الأرمينية، والتجار والصيارفة ونشاطهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
أما الفصل الثاني “الحياة الدينية للجالية الأرمينية في مصر”، فيرصد الحالة الدينية لأرمينيا قبل مرسوم ميلانو 313م، الأرمن وطبيعة الإيمان الواحد، ودور الكنيسة الأرمينية في بلاد أرمينيا ومصر والأيقونات، والرهبنة الأرمينية في مصر، والأديرة الأرمينية في مصر، ودير الأرمن في وادي النطرون كنموذج لحياة الرهبنة الأرمينية، فيستعرض الطبيعة الجغرافية لوادى النطرون، ووصف لدير الأرمن، من حيث الموقع والمساحة ونشأة الدير وتاريخه، ونظام الرهبنة بالدير، وخراب واكتشاف الدير، وأيضًا العلاقة بين الرهبان الأقباط والرهبان الأرمن.
وتناول الباحث في الجزء الثاني الجالية الأرمينية بفلسطين، وبالتحديد بمدنية القدس، وذلك انطلاقا من الملامح الجغرافية والتاريخية لمدينة القدس، من حيث موقعها ووصفها الطبوغرافي والمعماري وخاصة أسوارها وأبوابها، والمسميات التي أطلقت عليها، ونظرة الشعراء إليها، وكذلك التنظيم الإداري والمجالس البرلمانية.
ثم تناول التطور التاريخي للمدينة، وتاريخ وساسة حكامها عبر العصور التاريخية، وفتح العرب لها، وتاريخها زمن الحملات الصليبية أي ما بين القرن الحادى عشر والرابع عشر الميلادي، كاشفا عن حضورها التاريخي، وهو يؤكد شخصيتها وتفردها.
خصص الباحث ثلاثة فصول من هذا الجزء من الكتاب للأرمن متطرقا للجذور التاريخية للجالية الأرمنية بمدينة القدس، من حيث التطور السكاني للمدينة، واتجاهات النمو السكاني، والكثافة السكانية والهجرات القديمة الوافدة على المدينة، كما أفردنا للجذور التاريخية للأرمن منذ القرون الأولى الميلادية حتى يومنا هذا بمزيد من الاهتمام، وركزنا على التوزيع الجغرافي للجالية الأرمينية بمدينة القدس.
كما استعرض وضعية المؤسسات الدينية والاجتماعية، وحراسة هذه المؤسسات، والممتلكات الأرمينية التي اغتصبها اليهود، ومصادر تمويل هذه المؤسسات.
وتناول النشاط الاقتصادي والثقافي للجالية الأرمنية في مدينة القدس فيما يتعلق بالزراعة من حيث صعوبة الظروف الطبيعية لقيامها، وأهم حاصلاتها، والنشاط الصناعي من حيث أهم الصناعات، والنشاط التجاري من حيث حجم الصادرات والواردات، ودور الأرمن في أعمال الصيرفة. وأيضًا اهتم بالنشاط الثقافي للجالية الأرمينية بمدينة القدس، من حيث المدارس والمكتبات والمطابع والفنون المعمارية وتراجم بعض الشخصيات الأدبية والفنية.
وقد أكد الباحث أن الأرمن كان لهم وجود في مصر منذ عصر الأسرات المصرية القديمة، وتزايد عددهم أيام الدولة الفاطمية حين تولى منصب الوزارة في مصر بدر الدين الجمالي (أمير الجيوش)، حيث كان العصر الذهبي للأرمن مصر، وقد اشتهروا بترابطهم وتواصلهم العرقي وحفاظهم على عاداتهم وتقاليدهم، وساعدهم في ذلك حبهم للتملك والاستقرار وتشبثهم بلغتهم وثقـافتهم وهـويتهم وتميزهم في بعض أنماط النشاط الاقتصادي.
وقال “كان وراء هجرة الأرمن من أرمينية عدة دوافع جغرافية ومجتمعية، واقتصادية، وأخرى شخصية كحب الترحال من مكان لآخر، وأيضًا سياسية حيث تعرضت أرمينية للعديد من الاعتداءات، وخاصة تعرضهم للمذابح والمجازر على يد سلطات الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وما قبلها، وهي التي راح ضحيتها نحو مليون ونصف ان لم يكن أكثر، وأخيرًا اعترف العالم بها، ما عدا تركيا بمناسبة الاحتفال بالمئوية عام 2015″.
وأوضح الباحث أن موقف مصر من القضية الأرمينية، وأن كان ذلك بطريق غير مباشر حيث فتحت مصر أبوابها للوافدين الأرمن، في فترات الأزمات التى تعرضوا لها، وسرعان ما اندمجوا بالمجتمع المصري، لدرجة أن عدد الجالية الأرمينية في مصر بلغ نحو أربعين ألف شخص جابوا شتى المدن المصرية، وإن تركزوا بكثرة في القاهرة والإسكندرية والدقهلية (المنصورة).
وأسهموا في النشاط الاقتصادي في مختلف مجالاته في البلاد، لكن لم يلقوا الاحترام الواجب من المجتمع إلا مع الحاكم المستنير الذي يتعامل مع أهل مصر باعتبارهم مواطنين أيا كان أصلهم أو عقيدتهم، ولذلك يعتبر كثير من الكتاب والمؤرخين أن عصر محمد علي (1805-1848) وخلفائه، هو العصر الذهبي الثاني للأرمن يفي مصر، لأن الحاكم اتسم بالعدل بين جميع المواطنين دون تمييز، ولذلك برعوا يفي تقديم خدماتهم للباشا خاصة لخبراتهم يفي السوق الأوروبية.
وأشار إلى أن دور الأرمن في النشاط الاقتصادي في مصر في التجارة والصيرفة وبعض المشروعات التي مثلت مصدر التمويل التي كان عليها معتمدهم في تدبير شؤون حياتهم الاجتماعية.
ويرجع لهم الفضل في أنشأ أول بنك في مصر، وإقراض صغار التجار والصناع والفلاحين، وعملوا في تجارة القطاعى والجملة، وصياغة الذهب والفضة، وتميزوا بالمهارة اليدوية فاشتهروا بالصباغة والخياطة والتطريز والفراء، وتجارة الساعات وتصليحها، والتصوير الفوتوغرافي.
وقال “توسع الأرمن في انشاء المؤسسات الخدمية مثل الكنائس والجمعيات الخيرية والنوادي الاجتماعية وكانوا حريصون على الحفاظ عليها، وأيضًا مكتبات المدارس لتعليم أبناء الجالية اللغة الأرمينية، التي واكبت ظهور المطبعة، فكان الكثير منهم يعلمون القراءة والكتابة، وياخذون بتثقيف أنفسهم، وكان من دواعي تفردهم بطابع خاص أن صارت لهم عادات وتقاليد حرصوا على الحفاظ عليها، وهو ما تواصل إلى عصرنا الحديث. وكانت أرمينية أولى شعوب العالم اعترفوا بالمسيحية عام 301م وجعلوها الديانة الرسمية بالبلاد قبل صدور مرسوم ميلانو 313م، وكان لذلك تأثيره في أساليب التربية والنشأة المسيحية التي تدعو للمحبة والسلام وتقبل الآخر أيا كان أصله أو عقيدته، وأصبح الإنسان مرتبط بكنيسته حيثما وجدت سواء في أرمينية أو بلاد المهجر”.
ولفت الباحث إلى اندماج الأرمن مع أقباط مصر نظرا لطبيعة الإيمان الواحد، حيث رفض كل منهما مذهب الطبيعتين وقرارات مجمع خلقدونية 451م، وساهمت الكنيسة القبطية في توفير كنائس وأديرة لممارسة الأرمن صلواتهم حساب عاداتهم وتقاليدهم، وان كان ذلك لا يمنع من اشتراكهم معًا للصلاة في كنيسة واحدة، حيث جمعت بينهم مناسبات عديدة مثل الاحتفالات الدينية والاجتماعية ولا تزال قائمة.
وهنا لايمكن أن ننكر دور الكنيسة الأرمينية في مصرفي تجميع أولادها والحفاظ على إيمانهم وطبائعهم، وتنمية مواهبهم الدينية للممارسة أنماط عديدة من الخدمة الكنسية، كما عمل أبناء الأرمن والأقباط معا في تزيين الكنائس والأديرة، وخاصة بالأيقونات فوجدنا علاقة قوية جمعت ما بين إبراهيم الناسخ المصري ويوحنا الأرمني الذى رسم مئات الأيقونات لاتزال شاهداً على مدى عمق العلاقات بينهما، كما وجدت حالات زواج كثيرة ما بين الأرمن والأقباط، والتي كان آخرها منذ زمن قريب حيث تزوج أخوات رئيس دير البراموس من سيدات إحدى العائلات الأرمينية.
وأضاف أن الرهبان الأرمن تعلموا على أيدى آباء وشيوخ رهبان الأديرة القبطية في مصر، وعرفوا نظام وطقوس وتقاليد وقوانين الرهبنة، لأن الرهبنة القبطية هى الأم للرهبنة في العالم، وكان للأرمن أديرتهم سواء الأديرة التي منحها لهم أقباط مصر، أو التي قاموا بإنشائها وخاصة فترة الأسرة الجمالية.
ووجدت علاقات ما بين الرهبان الأرمن والأقباط، على نحو ما رأينا، كما نقلوا تعاليمها ونظمها إلى أرمينية، وكان لنشأة دير الأرمن في وادي النطرون، أن أصبح هناك منارة جديدة للرهبنة الأرمينية في مصر، ولكن للأسف استمرت فترة قليلة، ربما ما بين (القرن الحادي عشر وحتى منتصف القرن الخامس عشر) وبعدها اختفت تحت الكثبان الرملية، ولكن هنا نستطيع أن نقول أنه أمكن تحديد وادي النطرون جغرافيًا، وأيضًا موقع دير الأرمن المقام عليه.
وعلى جانب الملامح الجغرافية والتاريخية لمدينة القدس، توصل الباحث إلى تحديد موقع المدينة الفلكي والجغرافي ومساحتها وأهميته، ومظاهر السطح الطبيعية، وأهم الجبال والتلال والوديان، وأيضًا المناخ والرياح التي تتعرض لها المدينة، كما أجمع علماء الآثار على أهمية أسوارها، وأن سورها الحالي هو الرابع منذ أن أقيمت، وهو الذي يفصل ما بين المدينة القديمة والحديثة. كما أكد على أن أبواب المدينة ثمانية، وهي التي لاتزال قائمة حتى كتابة هذه السطور.
وقال إن المصادر عبر التاريخ ذكرت أن مدينة القدس، كان يطلق عليها العديد من المسميات منها يبوس، أريئيل، إيليا، أورشليم ومعناها “مدينة السلام” حتى صارت تعرف بالقدس منذ عهد العرب حتى يومنا هذا، ولم يفت الشعراء ذكرها في شعرهم، وأيضًا المطربون العرب وكان أولهم فيروز إبنة نابلس والكنيسة التي تغنت بالقدس مدينة الصلاة، والمطرب عبدالحليم حافظ في 1967 في قاعة ألبرت هول بلندن، قصيدة الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى وعنوانها “المسيح” ولحن كلماتها الفنان بليغ حمدي، وتبرع الجميع بأجرهم لصالح المجهود الحربي، وإن دل ذلك على شىء إنما يدل على عمق الروح الوطنية والتأليف ما بين الشعب والجيش، ليتنا نتعلم من هذه المواقف التي يخلدها التاريخ.
وأكد الباحث على وحدة تاريخ مدينة القدس، وما تميزت به من كونها عصية على الحاكم الأجنبي وترفض عبر التاريخ مبدأ الاستسلام، كما أن تاريخها منذ اليبوسيين بناة القدس الأولين مرورًا بالعديد من الهجرات السكانية وانتهاءً بالوجود الفلسطيني الحالي، يعلن على أن الباعث الديني كان وراء اتجاه أنظار العالم إليها وطمع المستعمرين فيها. وكيف أن للأرمن جذورا تاريخية في القدس، لها خصوصيتها في بعض التفاصيل، من حيث تطور النمو السكاني، وأسباب زيادة معدلات السكان أو نقصها والعوامل التي وراء ذلك.
ورصد الهجرات السكانية لمدينة القدس، وجذور الأرمن التاريخية، وتوزيعهم الجغرافي، وإن كنا خرجنا بتركزهم في الحي الأرمني، ولكن هذا لا يمانع أنهم كانوا موجودين خارج المدينة القديمة، والدليل على ذلك وجود العديد من الممتلكات الأرمينية.
ولفت الباحث إلى تعدد ممتلكات الأرمن في القدس، ما بين مؤسسات دينية، التي كان من أشهرها دير ماري يعقوب الكبير، وما يخصهم بداخل كنيسة القيامة، أما المؤسسات الاجتماعية فيأتي على رأسها مدارسهم والمكتبات، والجمعيات الخيرية، كما عرض للممتلكات الأرمنية التي اغتصبها اليهود حتى يومنا هذا، عقارا أو مالا أو أطيانا أو أشياء عينية من حاصلات زراعية أو منسوجات، كمصدر لتمويل المؤسسات بكافة أنواعها.
عرض الباحث بشيء من التفصيل بعض جوانب النشاط الثقافي للأرمن، وخلص إلى دور المؤسسات الدينية والاجتماعية في التعليم والفنون، كما أوضح المناهج الدراسية وطبيعة اليوم الدراسي الذي كان يمر به الدارس حينئذ، والذي كان من أهم مواده الدراسات اللاهوتية، وأشار إلى دور الجالية الأرمنية في إدخال فن الفوتوغرافيا (التصوير الفوتوغرافي) إلى القدس وإنشاء الأستوديوهات لتنمية ذلك الفن، وتعرضت لبعض تراجم الشخصيات الأرمنية، التي لعبت دورًا في نشر التراث الثقافي الأرمني.
وقد ألحق الباحث بخاتمة كتابه مجموعة من الملاحق تضم مجموعة من الخرائط والرسوم والصور لدير الأرمن بوادي النطرون؛ إلتقطها القمص بيجول السرياني في صيف 2008، ووثيقة تؤكد أن منطقة الطرانة بوادي النطرون كانت إحدى ولايات مصر حتى أوائل القرن التاسع عشر. ومجموعة من الوثائق الهامة لتاريخ مدينة القدس ما بين (1800ق.م ـ1967م)، وقائمة باسماء بطاركة الأرمن الأرثوذكس في القدس، ووثائق من محكمة القدس تثبت ممتلكات الكنيسة الأرمينية بذات المدينة، وأخرى تؤكد على اعتداءات إسرائيل على أملاك الأقباط والأرمن بمدينة القدس، بالإضافة إلى مجموعة من الخرائط والرسوم والصور فيما يخص الجالية الأرمينية بالقدس.
بقلم: محمد الحمامصي
المصدر: ميدل إيست أونلاين