14987.jpg

كبوة القسطنطينية.. بقلم: آرا سوفاليان

كبوة القسطنطينية.. بقلم: آرا سوفاليان

أزمع السلطان محمد الثاني على فتح القسطنطينية فزحف بانكشارييه وجنوده وبالمتطوعين وبالطامعين بالمغانم وقد بلغ عددهم 270 ألف مقاتل من الراكبين ومن المشاة، وبرفقة المدافع الضخمة، ومشوا جميعاً الى القسطنطينية ووصلو فجر الثلاثاء 3 أيار 1453 وروعوها…وكان الهدف الذي يختبئ خلف كل الاهداف الحصول على الارض والثروة والنساء والمجد والمزيد من الأطفال المختطفين لتعزيز اعداد جنود الجيش الأنكشاري فيما بعد وليتم التحضير الى الخطوة التالية وهي فتح اوروبا.

توطئة: انقسمت الامبراطورية الرومانية الى شرقية وغربية، وبنى القسطنطينية قسطنطين الاول عام 330 ميلادية وجعلها عاصمة للأمبراطورية البيزنطية الشرقية ويحدها من الشمال البحر الأسود ومن الشرق مضيق البوسفور وبحر مرمرة والقرن الذهبي ومن الجنوب بحر إيجة ومن الغرب شريط ضيق من الأرض متصل بقارة أوروبا وكانت حصينة ومحمية جداً من الشرق ومحاطة بسلاسل معدنية، واسوار تتحكم بدخول السفن.

أما الجانب الغربي فهو الذي يتصل بالقارة الأوروبية ويحميه سوران طولهما أربعة أميال يمتدان من شاطئ بحر مرمرة إلى شاطئ القرن الذهبي ، يتخللها نهر ليكوس , ويبلغ ارتفاع السور الداخلي منهما نحو أربعين قدمًا ومدعم بأبراج يبلغ ارتفاعها ستين قدما ، وتبلغ المسافة بين كل برج وآخر نحو مائة وثمانين قدما , وأما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه قرابة خمس وعشرين قدماً وعليه أبراج موزعة مليئة بالجند أما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه خمسة وعشرين قدما، ومحصن أيضا بأبراج شبيهة بأبراج السور الأول، وبين السورين فضاء يبلغ عرضه ما بين خمسين وستين قدما، وكانت مياه القرن الذهبي الذي يحمي ضلع المدينة الشمالي الشرقي يغلق بسلسلة حديدية هائلة يمتد طرفاها عند مدخله بين سور غلطة وسور القسطنطينية، ويذكر المؤرخون العثمانيون أن عدد المدافعين عن المدينة المحاصرة بلغ أربعين ألف مقاتل…وهم البقية الباقية من امبراطورية حكمت نصف ممالك الأرض المعروفة.
وكانت أوربا منقسمة فى صراع سياسى مع بعضها ففرنسا و إنجلترا فى حرب المائة عام (1340 – 1433 م ) وكان هذا الصراع في مصلحة العثمانين ويضاف اليه انقسام الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية هذا الانقسام الذي كسر ظهر الشرق والغرب.

من حيث النتيجة: بعد حصار طويل سقطت القسطنطينية بيد محمد الثاني وبدّل اسمها الى اسلام بول ـ استمبول وحول كنيسة آجيا صوفيا الى مسجد واقام للكنيسة أربعة مآذن…ولقب بمحمد الفاتح…وقضى على امبراطورية الروم الشرقية وكنيستها والشعوب المنضوية تحتها.

قام محمد الفاتح ببناء قلعة سميت “رومللي حصار” على الجانب الأوروبي من البوسفور في مواجهة أسوار القسطنطينية ، حتى تكون قاعدة ينطلق منها لمهاجمة القسطنطينية، وانتهى من بنائها خلال ثلاثة اشهر وزرع الشاطئ بالمدافع الضخمة وبالمنجنيق لتدمير السفن الحاملة للمساعدات، وتمت السيطرة على مضيق البوسفور.

من الشرق بواسطة قلعة الأناضول على الشاطئ الآسيوي وقلعة رومللي حصار من الشاطئ الغربي ولا يفصل بين القلعتين إلا 660 متر، وهذه المسافة القصيرة جديرة بإغراق اي سفينة تصل لإنقاذ المحاصرين، وبدأ البيزنطيون بمحاولة هدم قلعة الرومللي حصار، وبدأت الحرب، وتمت عملية اغلاق ابواب القسطنطينية، وارسل الامبراطور قسطنطين رسالة الى محمد الثاني يخبره فيها بأنه اختار الصمود حتى الموت، وارسل بابا روما القائد جون جوستنياني بصحبة 700 مقاتل ووصلوا محملين بالذخائر والمؤن وكان للواصلين تأثير على الروح المعنوية للمدافعين ولكن العدد كان قليلاً وغير فاعل، وتم فرض الطقس الكاثوليكي في كنائس القسطنطينية وشعر الناس ان البابا يساوم لنشر الكاثوليكية على حساب ارواحهم، وقام جوستينياني بواجبه بتنظيم الجيش وتوزيعه وتم وضع سلسلة لإغلاق القرن الذهبي امام السفن القادمة من طرف المدينة الشمالي وحتى حي غلطة وحصل بعض الانقسام في القسطنطينية نتيجة فرض المذهب الكاثوليكي وارسال مندوب عن البابا ليعلن اتحاد الكنيستين الارثوذوكسية والكاثوليكية في الوقت الذي كان اتباع الكنيسة الشرقية لا يحتاجون لغير رفع السيف العثماني عن رقابهم وكان من نتائج هذه الحماقة انهيار الكنيسة الشرقية مع ما رافق ذلك من ذبح وترويع شمل كل مسيحيي الشرق وخاصة الأرمن.

وعملت الخيانة عملها فلقد وصل مهندس مجري يدعى أوربان تعهد بأن يبني لمحمد الثاني مدفع عملاق يهدم فيه اسوار القسطنطينية، ووعده محمد الثاني إن هو نجح في مسعاه بأن يجزل له العطاء بحيث يقف المهندس الخائن على احدى كفتي الميزان ويوضع في الكفة الثانية ما يوازي وزنه ذهباً، وبعد ثلاثة اشهر وضع اوربان مدفعه العملاق في خدمة السلطان وكان وزن المدفع 700 طن ووزن القذيفة التي يرميها 12 ألف رطل، وتم جره بإستخدام 100 ثور وبمساعدة المئات من الرجال، من أدرنة الى مواجهة اسوار القسطنطينية بزمن قدره شهرين كاملين.

في يوم الجمعة 5 نيسان 1453 تجمعت جيوش السلطان محمد الثاني امام الاسوار الغربية للقسطنطينية، وجعل مركز القيادة في مواجهة بوابة القديس رومانوس، ونصبت المدافع امام الأسوار وتم وضع الفرق الاناضولية عن يمين القيادة الى ناحية مرمرة، والفرق القادمة من شرق اوروبا وهي تلك التي سبق غزوها واخضاعها عن يسار القيادة حتى القرن الذهبي.
ووضع الحرس السلطاني الذي يضم نخبة الجنود الانكشارية وعددهم نحو 15 ألفًا في الوسط وهم أصلاً من أولاد الأسرى الأوربيين المسيحيين أسروا أطفالاً وتم إخصاؤهم وتم تدريبهم ليقاتلوا ويغزوا ويستعمروا الأرض ويجاهدوا ليقتلوا أهلهم.

وامر الاسطول العثماني الذي يضم 350 سفينة جاثمة حول غاليبولي القريبة بالتوجه الى القسطنطينية، ولم توفق هذه السفن بالتقدم بسبب السلسلة الحديدية، مما رفع معنويا المدافعين، واستولى الاسطول العثماني على جزر الامراء في بحر مرمرة وعبر الى البوسفور فتم تطويق القسطنطينية، ووصل عدد المتطوعين في جيش السلطان الى اكثر من 270 ألف جاؤوا من أجل المغانم، وكان الحصار الخانق قد بدأ فعلياً في يوم الجمعة 6 نيسان 1453 وطلب السلطان من الامبراطور مجدداً تسليم المدينة فرفض، وكان رجال الدين يطوفون في القسطنطينية لتشجيع المحَاصرين، وكان الامبراطور يدخل كنيسة آجيا صوفيا ليلتقي بالقادة ورجال الدين لتعزيز التلاحم والاخوة في هذه المحنة.

و بدأت المدافع العثمانية تطلق قذائفها الهائلة على السور ليل نهار، فتهدم اجزاء منه فيبادر المدافعون بالترميم وكان الامبراطور وجوستينيان هما عصب المقاومة، وفي البحر حاولت السفن العثمانية تحطيم الساسلة المعدنية على مدخل ميناء القرن الذهبي ولكن سفن الحراسة البيزنطية والايطالية القابعة خلف السلسلة تصد الهجوم بشجاعة وتجبر السفن العثمانية على الفرار، وحاول العثمانيون حفر الانفاق للوصول الى المدينة فتنبه لهم المدافعون واغرقوا هذه الأنفاق بوسطة الحفر المقابل بالنفط واضرموا النار في الأنفاق، مما ادى الى اختناق الكثيرين وعاد البقية ليتم صرف النظر عن مسألة الأنفاق.

في 15 نيسان 1453 استطاعت خمسة سفن اربعة منها ارسلها بابا روما والخامسة من صقلية اختراق مياه البوسفور الجنوبية وقد حاول الاسطول العثماني اغراقها قبل وصولها الى ميناء القسطنطينة فاستطاعت هذه السفن احراق السفن التي هاجمتها باستعمال القذائف النارية، واجتازت الى الداخل بعد ان تم رفع السلسلة لتسهيل دخولها.

وبعد يومين وصلت سفن أخرى واضطر محمد الثاني الى قيادة العملية البحرية من الساحل وهدد قائد بحريته بأن ” عليك احراق هذه السفن وإغراقها فإن لم تنجح لا تعد إلينا حياً ” وتم عزل قائد البحرية بالطة أوغلي وعيّن حمزة باشا بدلاً عنه، وفي يوم 18 نيسان تمكنت المدافع العثمانية من فتح ثغرة في الأسوار عند وادي ليكوس في الجزء الغربي من الأسوار ، فاندفع إليها الجنود العثمانيون محاولين اقتحام المدينة من الثغرة، كما حاولوا اقتحام الأسوار الأخرى بالسلالم التي ألقوها عليها، ولكن المدافعين عن المدينة بقيادة جستنيان استماتوا في الدفاع عن الثغرة والأسوار، فأصدر محمد الثاني أوامره للمهاجمين بالانسحاب، وفشلت محاولات أخرى على الصعيد البحري فشلت من جديد بعض السفن العثمانية من اختراق القرن الذهبي وجرى تدميرها، ولجأ المهاجمين الى صناعة القلاع الخشبية الشامخة وهي تتألف من ثلاثة أدوار مكسوة بالدروع والجلود المبللة بالماء لمنع النار عنها، وكانت تحوي امهر الرماة، وعندما اقترب العثمانيون بها عند باب رومانوس، أحرقها المدافعون وهوت بالذين فيها فقتلوا جميعاً، وعقد زعماء المدينة اجتماعاً داخل القصر الامبراطوري، طلبوا فيه من الامبراطور ان يترك المدينة ويخرج لجمع النجدات ويعود لمتابعة القتال ولكن الامبراطور رفض هذا المقترح بالمجمل، وأصر على القتال حتى النهاية، وخسرت المدينة بفعل ضراوة المدفعية، اجزاء من سورها واصبح اقتحام المدينة امراً وارداً دون تحديد موقع الاقتحام، وحاول محمد الثاني مع الامبراطور مرة أخرى ان يقنعه بتسليم المدينة مقابل خروجه سالماً منها ورفض الامبراطور ذلك من جديد وعرض على السلطان دفع الجزية مفضلاً أن يموت ويدفن تحت اسوار القسطنطينية على التسليم، فقال محمد الثاني حسناً وعمّا قريب سيكون لي في هذه المدينة أيضاً إمّا عرش وإما قبر، واستطاع مدفع اوربان خلخلة بوابة جرمانوس قبل ان ينفجر هو الآخر ويقتل الخائن وكل الطاقم المساعد، وصدر الامر بوجوب تبريد المدافع بزيت الزيتون وعدم ايقاف القصف، وعقد محمد الثاني اجتماع استمع فيه الى رأي القادة حيث اقترح الوزير خليل باشا الانسحاب وعدم اراقة الدماء اكثر من ذلك لأن الاستمرار سيؤدي الى استعداء اوروبا واتحادها فتتحرك جيوشها شرقاً، ورأى آخرون الاستمرار تحت طائلة هدم الروح المعنوية للجند الذين كانوا في مجملهم يتطلعون الى الغنائم لا غير، وتقدم زوغونوش باقتراح مواصلة الهجوم واستهان بأوروبا وبجيوشها وقال ان الانسحاب سيهدم حماس الجند بعد ان وصلت المسألة الى نهاياتها، واستحسن محمد الثاني رأي زوغنوش الألباني الذي ترك دينه، وقال للسلطان نحنا جئنا الى هنا للموت ولن نجيء من اجل التراجع، فأثر ذلك في نفوس الحاضرين، وقال لمحمد الثاني لقد قال خليل باشا ما قاله ليقتل في قلوبنا الشجاعة والاقدام، وفي هذا خيانة، ان جيش الاسكندر الذي فتح جنبات الارض لم يكن اكثر شجاعة منا ولا أكثر مقدرة، فهل حقاً سينسحب جيشنا أمام هذه الحجارة المتراكمة دون ان يستطيع هدمها! إن الخصام والتنافس والتفرقة في الدول الغربية سيجعلها تقف متفرجة دون تحريك ساكن ولو انها نوت على فعل شيء لفعلته من قبل، مولاي يجب ان تكون قلوبنا قد قدت من صخر وهي كذلك، وليس عندي كلام أكثر من هذا، وأيد القائد طرخان، زوغنوش باشا، وكذلك الشيخ آق شمس، وتبعه المولى الكوراني، وقالا لمحمد الثاني بالغاية الصمدانية سيكون لنا النصر والفتح إن شاء الله، فابتهج محمد الثاني بدعاء الشيخين، وقال: من كان من أجدادي في مثل قوتي (يقصد انه لا أحد في أجداده أقوى منه) وأمر بمتابعة الحصار وان أوامر الاقتحام ستأتي لاحقاً. وأمر السلطان بنقل جزء من اسطوله البحري الى القرن الذهبي لإتمام الحصار بحيث لا يبقى للمدينة ولا منفذ واحد، فتم في ليل 29 نيسان نقل جزء من الاسطول عن طريق البر الى غلطة بعد وضع الواح خشبية مطلية بالشحم ، فتم نقل سبعين سفينة بواسطة البغال والثيران والرجال الأشداء، وبهذه الخطة الجديدة تم إلغاء الخطة القديمة التى كان أساسها الهجوم عن طريق البر وهد أسوار القسطنطينية بواسطة المدفع العملاق .

وفي ليل، وكانت المدافع العثمانية تواصل قذائفها حتى تشغل البيزنطيين عن عملية نقل السفن، وما كاد الصبح يشرق حتى نشرت السفن العثمانية قلوعها ودقت الطبول وكانت مفاجأة مروعة لأهل المدينة المحاصرة، وضاع المعبر المائي الوحيد الذي بقي للمدينة، وسقط هذا الحاجز الدفاعي المائي، فتم سحب جزء من المدافعين عن الاسوار لمواجهة هذا البلاء الجديد، فحدث خلل في الدفاع عن الاسوار، أمر السلطان محمد الثاني بإنشاء جسر ضخم ، عرضه خمسون قدما، وطوله مائة، وصُفَّت عليه المدافع، وزودت السفن المنقولة بالمقاتلين والسلالم، وتقدمت إلى أقرب مكان من الأسوار، وحاول البيزنطيون إحراق السفن العثمانية في الليل، ولكن العثمانيين علموا بهذه الخطة فأحبطوها عن طريق ابعادها ثم العودة بها، وتكررت المحاولة وفي كل مرة يكون نصيبها الفشل والإخفاق.

و وضع العثمانيون مدافع خاصة على الهضاب المجاورة للبوسفور والقرن الذهبي، مهمتها تدمير السفن البيزنطية والمتعاونة معها في القرن الذهبي والبوسفور والمياه المجاورة مما عرقل حركة سفن الأعداء وأصابها بالشلل التام.

وفي فجر يوم الثلاثاء 20 أيار 1453م ، كان يوم الهجوم الأخير الكاسح فأمر السلطان العثماني بتجميع قواته وحشد زهاء 100 ألف مقاتل أمام الباب الذهبي ، وحشد في الميسرة 50 ألفًا ، ورابط السلطان في القلب مع الجند الإنكشارية، واحتشدت في الميناء 70 سفينة وبدأ الهجوم برًا وبحرًا، وقام البيزنطيون في دق نواقيس الكنائس والتجأ إليها كثير منهم للأحتماء وكان الهجوم النهائي متزامنا بريا وبحريا في وقت واحد حسب الخطة ، وكان الهجوم موزعاً على كثير من المناطق ، ولكنه مركز بالدرجة الأولى في منطقة وادي ليكوس بقيادة السلطان محمد الثاني نفسه ، وكانت الكتائب الأولى من العثمانيين تمطر الأسوار والنصارى بوابل من القذائف والسهام محاولين شل حركة المدافعين ، ومع استبسال البيزنطيين وشجاعة العثمانيين كان الضحايا من الطرفين يسقطون بأعداد كبيرة.

واشتد لهيب المعركة وقذائف المدافع يشق دويها عنان السماء ويثير الفزع في النفوس، والأربعين ألف مقاتل داخل القسطنطينية يبذلون كل ما يملكون دفاعا عن المدينة ، وما هي إلا ساعة حتى امتلأ الخندق الكبير الذي يقع أمام السور الخارجي بآلاف القتلى.بعد أن انهكت الفرقة الاولى الهجومية كان السلطان قد أعد فرقة أخرى فسحب الأولى ووجه الفرقة الثانية ، وكان المدافعون قد أصابهم الإعياء ، وتمكنت الفرقة الجديدة ، من الوصول إلى الأسوار وأقاموا عليها مئات السلالم في محاولة جادة للإقتحام ، ولكن المدافعين عن المدينة استطاعوا قلب السلالم واستمرت تلك المحاولات المستميتة من المهاجمين ، والبيزنطيون يبذلون قصارى جهودهم للتصدي لمحاولات التسلق ، وبعد ساعتين من تلك المحاولات أصدر السلطان أوامره للجنود لأخذ قسط من الراحة ، بعد أن أرهقوا المدافعين في تلك المنطقة ، وفي الوقت نفسه أصدر أمرا إلى قسم ثالث من المهاجمين بالهجوم على الأسوار من نفس المنطقة وفوجئ المدافعون بتلك الموجة الجديدة الثالثة، بعد أن ظنوا ان الأمر قد هدأ وكانوا ، قد أرهقوا ، في الوقت الذي كان المهاجمون دماء جديدة معدة ومستريحة وفي رغبة شديدة لأخذ نصيبهم من القتال لكي لا يتم حرمانهم من المغانم.

وفي أثناء هذا الهجوم جرح “جستنيان” في ذراعه وفخذه ، وسالت دماؤه بغزارة فانسحب للعلاج رغم توسلات الإمبراطور له بالبقاء لشجاعته ومهارته الفائقة في الدفاع عن المدينة، و كان القتال شديداً في المنطقة البحرية مما شتت قوات المدافعين وأشغلهم في أكثر من جبهة في وقت واحد، ومع بزوغ نور الصباح أصبح المهاجمون يستطيعون أن يحددوا مواقع العدو بدقة أكثر ، وشرعوا في مضاعفة جهودهم في الهجوم ثم أصدر السلطان محمد الأوامر إلى جنوده بالإنسحاب لكي يتيحوا الفرصة للمدافع، لتقوم بعملها مرة أخرى حيث أمطرت الأسوار والمدافعين عنها بوابل من القذائف ، واتعبتهم بعد سهرهم طوال الليل ، وبعد أن هدأت المدفعية جاء قسم جديد من الجنود الإنكشارية بقيادة السلطان نفسه تغطيهم نبال وسهام المهاجمين التي لا تنفك عن محاولة منع المدافعين عنها وأظهر جنود الإنكشارية شجاعة فائقة وبسالة نادرة في الهجوم واستطاع ثلاثون منهم تسلق السور أمام دهشة الأعداء ، ورغم استشهاد مجموعة منهم بمن فيهم قائدهم فقد تمكنوا من تمهيد الطريق لدخول المدينة عند طوب قابي ورفعوا الأعلام العثمانية، وفتحوا الأبواب.

وتدفق العثمانيون نحو المدينة ، ونجح الأسطول العثماني في رفع السلاسل الحديدية التي وُضعت في مدخل الخليج، وساد المدينة الذعر، وواصل العثمانيون هجومهم في ناحية اخرى من المدينة حتى تمكنوا من اقتحام الأسوار والاستيلاء على بعض الأبراج والقضاء على المدافعين في باب أدرنة ورفعت الاعلام العثمانية عليها، وتدفق الجنود العثمانيون نحو المدينة من تلك المنطقة، ولما رأى قسطنطين الأعلام العثمانية ترفرف على الأبراج الشمالية للمدينة، أيقن بعدم جدوى الدفاع فنزل عن حصانه وقاتل حتى قتل في ساحة المعركة وضاعت القسطنطينية.

وتوقفت المعارك ظهر يوم الثلاثاء 29 أيار 1453 وضاعت امبراطورية الروم البيزنطية وضاعت معها كل الشعوب المسيحية في الشرق لتدخل في طور الرق والعبودية.

وهرع الناس الى كنيسة آجيا صوفيا وتحلقوا حول عمود المرمر في الباحة، وكانت الاسطورة تقول انه عند سقوط المدينة سيرسل الله ملاكاً بيده سيف من نار، سيتكفل لوحده بإبادة الاعداء وانقاذ المدينة وأهلها، وسجد الناس في الكنيسة وفي باحتها وأمام العمود وايديهم مرفوعة للسماء يبكون ويتضرعون لله أن ينقذ المدينة، وانتظروا الملاك الذي لم يصل أبداً.

وركض الناس للبحث عن الامبراطور فعثروا على جثته فنزعوا عنها الملابس الامبراطورية والدرع الامبراطوري واخذوا سلاح الامبراطور وأخفوه ووضعوا جثة الامبراطور تحت كومة من القتلى، وطلب محمد الثاني البحث عن الامبراطور ولكنه لم يعثر عليه، وعرف ان الامبراطور قد قتل فطلب احضار جثته، وادرك الناس ان السلطان يريد وضع الجثة على الخازوق، فانكروا معرفتهم بمكانها، وتم تمديد الجثث ومر الناس بالقرب من الجثث فلم يتعرفوا على الامبراطور على الرغم من قتل بعضهم، فصرف السلطان النظر عن الموضوع، وتم استباحة المدينة ثلاثة ايام فلم تسلم فتاة ولا امرأة من الاغتصاب ولا بيت ولا مخزن ولا كنيسة من النهب، وجرت الدماء انهاراً في القسطنطينية، وبعد ثلاثة ايام صدرت الاوامر بتغيير اسم المدينة الى اسلام بول وبتحويل كنيسة آجيا صوفيا الى مسجد فأخذ العمال يعدون لهذا الأمر ، فأزالوا الصلبان والتماثيل وطمسوا الصور بطبقة من الجير وعملوا منبراً للخطيب.

قال المؤرخ ادوارد شيبرد كريسي في كتابه تاريخ العثمانيين الاتراك ان كل أهل القسطنطينية تحولوا الى رقيق وعبيد وتم بيعهم جميعاً في أدرنة وما حولها وذهب في وصف السلطان وجيشه وصفاً مروعاً لا يمكننا عرضه في هذا الموضع، وذهبت الموسوعة الاميركية نسخة 1980 مذهب اخف، واكدت على ان السلطان قام باسترقاق كل مسيحيي القسطنطينية، وباعهم في المدن المجاورة بأبخث الاثمان، ويضيف جون هاسلب في كتابه سقوط القسطنطينية الى انه قد تمت سرقة كنوز القسطنطينية كلها وتم افراغ القصر الامبراطوري من موجوداته وتم الاعتداء على الاميرات، وتم ضمهم الى نساء السلطان، وتم اغتصاب كل النساء والفتيات أين وجدوا ودون احترام حتى في الكنائس وآجيا صوفيا منهم، وتم وضع كل الاسرى على الخازوق، ومعهم كل الحاميات التي ناصرت القسطنطينية، وتم قتل كل المحاربين الذين جاؤوا لنصرة أهل القسطنطينية، ولم يبق شيء في القسطنطينية إلا وتم نهبه، وأمر السلطان بعدم تهديم المباني وضرب بطرف السيف على يد جندي انكشاري حاول خلع رخامة من القصر الامبراطوري، ولم يتوقف السلب والنهب واستباحة النساء والاطفال إلا بعد ثلاثة أيام، ولا يمكن بالطبع الركون الى مراجع المنتصرين لأنهم الأقوياء والاقوياء هم الذين يكتبون التاريخ فيزيفونه ويضعون من قيمة المنهزمين ويستخفّون بدمائهم وببطولاتهم، ولا الركون الى مصادر الضعفاء لأنها بعد الهزيمة تصبح عديمة الفائدة وضعيفة مثل اصحابها، وفقيرة كفقرهم، وضائعة كضياعهم، ويبقى التاريخ كذبة كبرى، يكتبها الاقوياء والحقيقة فيها ضائعة كضياع يوم اسود ضاعت فيه القسطنطينية وضاع معها مسيحييوا الشرق الذين لم تعد تقم لهم قائمة بعد هذا اليوم.

ولكن اين الحقيقة؟ خاصة وان المؤرخين كادوا أن يؤلهوا الفاتح العظيم الرحيم ذو الخلق القويم، وهل بامكاننا التسليم بكل ما كتبه الناس وهم يدّعون بتبيان الحقيقة، في حين لم يكن لهم همّ إلا التمسّح بأذيال الاقوياء واخفاء الحقيقة وتزويرها.. وبالتالي كيف يمكن الاهتداء الى الحقيقة؟ والجواب بسيط وهو: يمكنالاهتداء الى الحقيقة عن طريق استشفاف آثارها.

لقد أدى ضياع الكنيسة البيزنطية الشرقية الى قتل مليون ونصف أرمني لم تكلف أوروبا طفل واحد من اطفالها للدفاع عنهم او ذكر الحقيقة بتكلف أو بتجرد، وتم قتل ثلاثة ارباع المليون من السريان اليعاقبة ومن الآشوريين والكلدان، وتم قتل أكثر من مليوني انسان من اليونان الروم الأرثوذوكس…وتم ترويع الكثيرين من مسيحيي اوروبا الشرقيه وتم اجبارهم على اعتناق الاسلام وتم ترويع كل الوطن العربي وخاصة بلاد الشام عندما ذهب جمال باشا السفاح بجيش قوامة نصف مليون مقاتل من شباب بلاد الشام، ذهب بهم لقتال الانكليز في معركة الترعة قناة السويس، فلم بأخذ معه معدات للعبور ولا غذاء ولا ماء للجند فقضى معظمهم من الجوع ومن العطش بدون حرب، وبالطبع لا ينسى أهل الشام الفظائع والموبقات التي ارتكبها الاتحاديون ولا المشانق التي علقت في الساحات العامة ليعلق عليها خيرة أهل الشام، وأهل الشام لا ينسون حتى اليوم ما حدث في العام 1860 حيث تم اقتراف مذابح مذهلة في دمشق وخاصة في أحياء النصارى وتم احراق بيوتهم وتم احراق كل كنائسهم وهدمها، وفي سوريا عموماً وفي لبنان في العام 1860 في ما يعرف بمذابح دير القمر، وتم تدمير مدينتي زيتون وصاصون في العام 1894 والى العام 1896 وتم احراق من بقي من أهلهما أحياء، وفي العام 1908 تم قتل ثلاثون ألف من أرمن أضنا وفي العام 1915 قرر الاتراك الاتحاديون اقتراف الإبادة الكبرى بحق الشعب الارمني حيث تم التخلص من كل الارمن في السلطنة وبقي القليل القليل في الحي الأرمني في استمبول، وتابع كمال اتاتورك الطريق ذاته، ونشبت معارك طاحنة في شرق اوروبا بين البوسنة والهرتسك والجبل الأسود والكل ينسب نفسه لهذا الطرف او ذاك وقامت القيامة في يوغسلافيا وقتلت الاطراف بعضها ودام الموت والقتل حتى صدر الامر بتقسيم يوغسلافيا، وكان لقبرص النصيب الأصغر ولبلغاريا واليونان النصيب الاكبر، ولم تخمد النيران حتى اليوم، لأن الجمر تحت الرماد وهو قابل للإشتعال عند النفخ فيه، وهكذا فان سؤال محيّر يبرز الى الواجهة وهو: هل تستحق بعض الجماعات العيش الى جانب جماعات أخرى، وهل من الحكمة ترك الفاجر وفجوره وترك القاتل بلا جساب…ولا بد ان هذه المقولة تقدم الحقيقة الناصعة…( يمكن التعرف على الحقيقة عن طريق استشفاف آثارها)…أما الآثار فلقد قال فيها فيكتور هوغو وهو حيادي ولم يتعرض الأتراك له ولا لقومه قال فيها: لقد مرّ الأتراك من هنا.

آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
الأحد 09 06 2013
[email protected]

المـراجع
(1) حمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية – تحقيق إحسان حقي – دار النفائس – بيروت – 1983
(2) علي حسون – تاريخ الدولة العثمانية – بيروت 1994
(3) عبد العزيز محمد الشناوي- الدولة العثمانية دولة مفترى عليها – مكتبة الأنجلو المصري- القاهرة – 1984م.
(4) عبد السلام عبد العزيز فهمي – السلطان محمد الفاتح – دار القلم – دمشق 1993
(5) محمد صفوت مصطفى – السلطان محمد الفاتح – دار الفكر العربي – القاهرة – 1948م.
(6) محمد عبد الله عنان – مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام – مؤسسة الخانجي – القاهرة – 1962
(7) ادوارد شيبرد كريسي ـ تاريخ العثمانيين الاتراك
(9) الموسوعة الاميركية 1980
(10) جون هاسلب ـ سقوط القسطنطينية
(11) سلسلة ريدرز دايجست البريطانية المختار ـ سقوط القسطنطينية.
(12) الصهيونية والشعوب الشهيدة ـ الحفل الساهر الكبير ـ بيار هبيس

scroll to top