يستحق هذا الفيلم أن يُعرض فى الفضائيات وفى قنوات التليفزيون المصرى، على وجه التحديد، ذلك أنه فيلم عن التسامح، وعن قبول الآخر، وعن مصر التى احتضنت أعراقا وأديانا مختلفة، وعن الوطن الذى لا يُنسى.
«احنا المصريين الأرمن» فيلم وثائقى مهم أخرجه وحيد صبحى وإيفا دادريان وحنان عزت، وعرضه مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته الـ38، فحصد إعجابًا مستحقًا. ركّز الفيلم على الطابع المعلوماتى، من خلال لقاءات مع المصريين الأرمن من أجيال مختلفة بالأساس.
انطلق ضيوف الفيلم ليحكوا قصة هجرات الأرمن إلى مصر، بعد مذابح متعددة حدثت لهم فى الدولة العثمانية، ووصلت ذروتها فى مذابح 1915 التى راح ضحيتها مليون ونصف المليون أرمنى. هكذا بدأت القصة، ولكن الجزء الأكبر فى الحكايات يتعلق بكيفية دخول الأرمن فى الحياة المصرية، وكفاحهم من أجل تأسيس شركاتهم ومصانعهم، وتقديم فنونهم ومهارتهم اليدوية المعروفة.
يبدأ الفيلم باسطوانات تدور فنسمع من خلالها أغنيات أرمنية، ثم نشاهد شخصيات أرمنية مرسومة على الورق، ونسمع شهاداتهم على شريط الصوت، وشيئا فشيئا تكتمل الصورة الأكبر من خلال الشهادات المتتالية، السرد بالأساس عن تاريخ الأرمن ومعاناتهم، واستقرارهم فى مصر، ولكنك ستكتشف بعد قليل أن الفيلم أيضًا يعرض جزءا من تاريخ مصر، منذ عصر محمد على وحتى اليوم، وسنكتشف أن حديث المصريين الأرمن عن وطن أجدادهم، يمتد إلى حديثهم عن وطنهم الحالى فى مصر، وأنهم لا يشعرون بأى تناقض بين الهويتين، فالوطنان يعيشان فيهم، أو كما قالت إحدى سيدات الأرمن المصريات: «أنا 100% مصرية و100% أرمنية.. ده طبعا ضد منطق الحساب.. بس هو كده».
نجاح الفيلم متعدد الأبعاد، فهناك أولا تدفق جيد للسرد، وللانتقال من معلومة إلى أخرى، رغم كثرة المعلومات، كما أن هناك توزيعا جيدا للشهادات على لسان الشخصيات، ولدينا كذلك صور فوتوغرافية، ومواد مصورة نادرة تعمل كفواصل بين الشهادات، واكتفى الفيلم بشهادة أديب مصرى واحد هو إبراهيم عبدالمجيد الذى تحدث عن الأرمن فى الإسكندرية، وعن مصر الكوزموبوليتانية المتسامحة كما عرفها قديما، كما تحدث عن حضور الأرمن حتى قبل عصر محمد على، مشيرا إلى بدر الجمالى الذى بنى أسوار القاهرة.
أما الشخصيات الأرمنية فقد كانت شديدة التنوع عمرًا وتجربةً وتخصصًا، وهى تغطى تقريبًا معظم الأنشطة التى مارسها الأرمن، وإن كان التاريخ الأهم الذى يفتتح الحكاية هو العام 1915، عندما رست على شاطئ مدينة بورسعيد ست سفن فرنسية تحمل نحو 4 آلاف من الأرمن الذين أنقذتهم البحرية الفرنسية، فى أضخم عملية إنقاذ للمدنيين، وقد جاءوا من منطقة جبل موسى فى الدولة العثمانية، وأقيمت للمهاجرين مخيمات للإيواء، أقاموا فيها لمدة أربع سنوات، بعدها عاد البعض إلى بلاده، وأقام الكثيرون فى مصر، أما الذين ماتوا فقد دفنوا فى مقابر خاصة فى منطقة بور فؤاد.
يرسم الفيلم ملامح الشعب الأرمنى الموهوب والفنان والعاشق للحياة، ويؤكد أن محمد على كان قد تنبه إلى مهارة الأرمن، فعين بوغوص يوسيفيان ناظرا للتجارة والخارجية، وكان بوغوص أول مسيحى يحمل لقب «بك»، ثم اختير نوبار باشا كرئيس للوزراء، ومع الهجرات المتتالية للأرمن، سواء بعد المذابح الحميدية فى نهاية القرن التاسع عشر، أو بعد مذابح الإبادة الجماعية فى العام 1915، تزايد أعداد الأرمن فى مصر، ولم يقتصر نشاطهم على القاهرة والإسكندرية وحدها، وإنما امتد إلى مدن مصرية أخرى كالسنبلاوين والزقازيق والسويس، وتنوع نشاطهم من صناعة الذهب والورق، والتصوير الفوتوغرافى (فان ليو مثلا)، إلى تأسيس صناعة السجائر (ماتوسيان وآخرين)، وعمل مطابع واستديوهات للسينما (استديوهات ناصيبيان، وابتكارات أوهان الذى صنع كل معدات استديو الأهرام).
تؤكد الشهادات ــ على تنوعها ــ على أمور محددة أولها معاناة الأجداد، فالبعض مثلا يتحدثون عن مقتل أسر بأكملها فى المذابح، وبعض الأجداد وُلد فى معسكرات تجميع الأرمن، كما تتفق الشهادات على إصرار الأرمن فى كل مكان على تأسيس ثلاثة أشياء تعطيهم التماسك والاستمرار: الكنيسة، والمدرسة، والنادى، وتتفق الشهادات كذلك على احتضان مصر للأرمن، باستثناءات محدودة أبرزها أحداث ثورة 1919، حيث ارتكبت أعمال عدائية ضد الأرمن، بسبب ما تردد عن مساندة الأرمن للإنجليز، ويقول الفيلم إن سعد زغلول قام شخصيا بتبرئة المصريين الأرمن من هذا الاتهام.
تتوالى المعلومات عن أسماء مشاهير المصريين الأرمن، وكان من بينهم مصور الملك فاروق، وفنان الموسيقى التصويرية الكبير فؤاد الظاهرى (ليتهم تذكروا أيضا الموسيقار جورج كازازيان)، والشقيقتان فيروز ونيللى، والمغنية أنوشكا، والمنتج تاكفور أنطونيان.. ويستعرض الفيلم مؤسسات الأرمن وكنائسهم فى مصر، وكذلك صحفهم الصادرة باللغة الأرمنية مثل «آريف» و«الهوسابير»، والجريدة الأرمنية الوحيدة التى تصدر بالعربية وهى بعنوان «أريك»، وليت الفيلم شرح لمشاهدة معانى تلك المفردات الأرمنية، وليته لم ينس مسرح الهوسابير الشهير، الذى لعب دورًا مهما فى مجال الحركة المسرحية المصرية.
يظهر فى الفيلم عميد الجالية الأرمنية، وهو عجوز فى الخامسة والتسعين من عمره، ويظهر أبناء الجيل الثالث، نشاهد عميد كلية الفنون التطبيقية، المصرى الأرمنى، وهو يعلن افتخاره بخدمته العسكرية فى الجيش المصرى، وبالتحديد فى سلاح البحرية، وتظهر سيدة مصرية أرمنية من مواليد مدينة السويس، كان والدها صاحب محل شهير للتصوير الفوتوغرافى بالمدينة، تقول السيدة: «وهو أنا ممكن أنكر إنى مولودة فى السويس؟!!.. ده أنا أروح هناك وأبوس ترابها كمان».
ونشاهد ابنة فنان الكاريكاتير العظيم صاروخان، وهى تفتتح معرضا لرسومات والدها، جاء صاروخان إلى مصر وهو لا يعرف سوى الأرمنية والتركية والروسية، ثم ابتكر شخصيات كاريكاتورية مصرية صميمة أصبحت جزءًا من الثقافة المصرية مثل المصرى أفندى، ورفيعة هانم التى رسمها فى شكل امرأة بدينة للغاية!
كان يمكن للمذابح العثمانية أن تجعل من الأرمن إرهابيين ينتقمون ويقتلون ويفجرون أنفسهم، ولكنهم لم يطلبوا سوى العدل، يحافظون على ذاكرة الماضى، ويريدون الاعتراف بالجريمة التى ارتكبت ضد أجدادهم، ولا يتوقفون مع ذلك عن صنع الفن والجمال، وبناء المؤسسات التعليمية مثل مدرسة «كالوسيديان» الشهيرة، وفى مصر بالتحديد بقيت جالية كبيرة من الأرمن، الأجيال القديمة تتذكر مصر الملكية المتسامحة، والأجيال التالية تحمل الجنسية المصرية، وتحتفظ أيضا بثقافتها وتراثها الأرمنى.
هذا فيلم يحضر فيه الآخر الذى أثرى وطنه الجديد، وتسوده رؤية إنسانية ترفض التعصب والدمار، وتؤكد تبرئة الدين من المذابح العرقية، بل يشير الفيلم إلى أن شيخ الأزهر وقتها (الشيخ سليم البشرى)، أصدر فتوى يستنكر فيها المذابح ضد المسيحيين الأرمن. إنها حكاية عن مصر مثلما هى عن أرمينيا، وحكاية حب عن وطنين صنعا ذاكرة واحدة مشتركة، أو كما قال الأرمنى العجوز عن بلده مصر: «مش ح نسيبها أبدًا».
بقلم: محمود عبد الشكور