مضى بعض الوقت قبل أن تصل أخبار الفظائع التي مورست على الأرمن إلى السفارة الأمريكية بكل تفاصيلها المرعبة. في شهري كانون الثاني وشباط بدأت تتسرّب إليّ تقارير متقطعة. كانت هذه في البداية تعتبر من الاضطرابات التي كانت تحدث من وقت إلى آخر في المقاطعات الأرمنية لسنوات طويلة. عندما وصلتنا تقارير من أورمياUrmia عن بعض الانتهاكات التي كانت تحدث هناك، صرف طلعت وأنور النظر عنها معاً، واعتبراها مبالغات طائشة. عندما سمعنا لأول مرة عن أحداث مدينة وان، أعلن هذان الزعيمان أن هذه القلاقل جرت من قبل الغوغاء، وأنهم سيسيطرون عليها بسرعة. إنني أرى الآن ما كان ليس واضحاً وظاهراً للعيان بَعْدُ في تلك الشهور المبكرة. لقد قررت الدولة قدر استطاعتها على إخفاء الأخبار عن العالم الخارجي. كانت الفكرة أنه يمكن لأمريكا ولأوروبا أن تسمعا عن كل هذا ولكن بعد إبادتهم بشكل كامل فقط. كان الأتراك يفكرون أن تبقى الولايات المتحدة خاصة في جهالة الأمور، ولذلك لجؤوا إلى أشد المراوغات وقاحة حينما تداولوا معي ومع أركان سفارتي عن الموقف العام.
اعتقلت السلطات في أوائل شهر نيسان[1] نحو مئتين من الأرمن في القسطنطينية وأرسلتهم إلى الداخل. كان أكثر هؤلاء المُبعدين من المثقفين ووجهاء القوم ومن المبرزين في الصناعة والتجارة. عرفت بعض هؤلاء، ولذلك كنت مهتماً بمحنتهم شخصياً. عندما تكلمت مع طلعت عن ترحيلهم، قال: إن الدولة تعمل من منطلق الدفاع عن النفس[2]، قال: إن الأرمن أظهروا مقدرتهم كثوار في وان، ويعلم أيضاً أن هؤلاء الزعماء في القسطنطينية يراسلون الروس، وله الأعذار للخوف من أنهم سيقومون بعصيان مسلح ضد الحكومة المركزية. لذلك فإن أسلم طريقة هي إرسالهم إلى أنقرة والمدن الداخلية الأخرى. وأنكر طلعت أن هذا التصرف هو جزء من خطة عامة مدبرة، وأكد أن الجموع الأرمنية في القسطنطينية لن يُمسوا بسوء.
لكن أصبحت التقارير المبكرة من الداخل أكثر تحديداً ومقلقة جداً في الوقت نفسه. إن انسحاب أسطول الحلفاء من الدردنيل غيّر الجو السياسي بوضوح. كانت هناك دلالات في ذلك الوقت أن كل شيء لا يسير على ما يرام في المقاطعات الأرمنية. أصبح أكيداً الآن أن أصدقاء أرمينيا التقليديين من بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا، لا يمكنها أن تفعل شيئاً لهذا الشعب الذي يعاني، ولذلك بدأ القناع يختفي.
جُرِّدْت من امتياز استعمال الشيفرة للاتصال مع القناصل الأمريكيين في أنحاء تركيا. طُبقتْ أيضاً مراقبة صارمة جداً على الرسائل. هذه الأحداث كانت تعني شيئاً واحداً فقط، أن الحكومة التركية قررت أن تخفي أحداث آسيا الصغرى، ولكنها طبعاً لم تنجح، لأنه تمكن بعض المبشرين الأمريكيين من الوصول إلى الداخل، مع أن الحكومة وضعت كل أنواع العراقيل للسفر. كان المبشرون يجلسون ساعات في مكتبي، والدموع تنهمر بغزارة على وجوههم، وهم يقصّون عن الفظائع التي مرّوا بها. أصبح أكثر هؤلاء الناس عليلي الصحة تقريباً، بسبب الفظائع التي شاهدوها بأم أعينهم. جلبوا لي، في حالات كثيرة، رسائل وتقارير من قناصلي يؤكدون القصص المروعة، ويضيفون تفاصيل لا يمكن نشرها. إن فحوى كل هذه التقارير المباشرة، تشير بجلاء إلى أن الفسق المطلق في الطبيعة التركية الشهيرة بوحشيتها، تفوقت الآن حتى على نفسها.
كان هناك أمل واحد فقط، كما يخيّل إليّ، لإنقاذ مليونين تقريباً من البشر من المذابح، وهو القوة المعنوية للولايات المتحدة. أعلن هؤلاء المتكلمون باسم الشعب المتهم أنه ما لم يُقنع السفير الأمريكي الأتراك أن يكفّوا عن أعمالهم الوحشية تلك، فإن الشعب الأرمني سيختفي برمته من الوجود. لم يكن المبشرون الأمريكيون والكنديون هم الذين قدموا هذه الاستغاثة فقط، بل كذلك زملاء لهم من ألمان كثيرين، يرجونني بأن أتوسط. أكد كل هؤلاء الرجال والنساء الأخبار السيئة التي سمعتها، ولم يبخلوا بتوجيه الاتهام والشجب حتى إلى موقف حكوماتهم. لم يخفوا شعورهم بالذل بسبب تحالف بلادهم مع شعب يرتكب هذه الجرائم. كانوا يعرفون السياسة الألمانية بالقدر الكافي، ويعرفون أيضاً أن ألمانيا لن تتدخل أو تتوسط. لم تكن هناك فائدة من ترقب العون من القيصر. قالوا: إن على أمريكا أن توقف المذابح، وإلا فسيمضي الأتراك قدماً في تنفيذ هذه المخططات الجهنمية. لم يكن لي طبعاً عملياً الحق في التدخل طبقاً للأعراف الديبلوماسية السائدة. إن معاملة رعايا تركيا من الحكومة التركية تُعد مسألة داخلية بحتة، ما لم تؤثر بشكل مباشر في حياة ومصالح الأمريكيين، لذلك كانت هذه المسألة خارج اهتمامات الحكومة الأمريكية. عندما ذهبت لأول مرة إلى طلعت من أجل هذا الموضوع، نبهني بعبارات ليست غامضة إلى هذه الحقيقة. كانت هذه من أكثر المقابلات إثارة حتى تاريخه.
طلب مبشران مقابلتي، وقصّا عليّ التفاصيل الكاملة والمرعبة لما يحدث في مدينة قونية Konia. بعد سماعي لقصصهما لم أستطع أن أكبح شعوري، ذهبت رأساً إلى الباب العالي. رأيت في الحال أن طلعت كان في أشد حالات غضبه. خلال أشهر قليلة كان يحاول تحرير أقرب صديقين له، هما أيوب صبري وذو النون اللذان سُجنا من الإنكليز في جزيرة مالطة. كان فشله في هذا الأمر يسبب له الثورة والغضب الشديدين. كان يتكلم عن ذلك دائماً ويقدم اقتراحات جديدة في كل مرة لإرجاع صديقيه إلى تركيا. كان طلعت يلجأ إليَّ دائماً لمساعدته. أصبح الزعيم التركي عصبياً، لدرجة أننا كنا نسمي هذه الحالة النفسية لطلعت “مزاج أيوب صبري” ، حاول مرة أخرى أن يحرر المعتقلين، وفشل هذه المرة أيضاً. كان يحاول كالعادة أن يحافظ على هدوئه الخارجي، وأن يكون لطيفاً معي، ولكن جُمله القصيرة وحديثه السريع وصلابته وقسوته ومعصميه الغليظين اللذين وضعهما على الطاولة، أشعرتني أن اللحظة غير مناسبة لإثارته وحثّه على فعل الخير والندامة. لذلك كلمته أولاً عن مبشر كندي هو الدكتور ماك نوتون (Dr. Mc Naughton) الذي يعامل بقسوة في آسيا الصغرى.
“الرجل عميل إنكليزي” ردّ عليّ طلعت “ونحن نملك الأدلة”.
قلت “دعني أرَ ذلك”.
“لن نعمل أي شيء لأي إنكليزي أو كندي إلا بعد إطلاق سراح أيوب وذو النون”.
“وعدتني أن تعامل كل إنكليزي موظف عند الأمريكيين كأمريكي”.
“هذا ممكن” أجاب الوزير “لكن لم يخلق الوعد ليكون أبدياً إنني أسحب الآن وعدي، لأنه يوجد حدّ زمني لأي وعد”.
لكن إذا كان الوعد غير مُلزِمٍ، إذاً ما الحل؟” سألته.
“الضمانة” أجاب طلعت بسرعة.
هذا المسؤول التركي كانت له اهتمامات معقدة صعبة الحل، أما المسائل التي سأناقشها معه، فكانت أكثر عملية في ذلك الوقت، لذلك بدأت الكلام عن وضع الأرمن في مدينة قونية. بالكاد كنت قد بدأت الكلام حينما أصبح موقف طلعت أكثر شراسة، ولمعت عيناه ببريق قوي ومال نحوي، وأطبق فكّيه بقوة وقال:
“هل هم أمريكيون؟”.
لم يكن السؤال ديبلوماسياً، وطريقته في الكلام تشير إلى أن الأمر ليس من اختصاصي، بعد لحظة عبّر طلعت عن هذا بكلمات أكثر.
يجب علينا ألا نثق بالأرمن، وعلاوة على ذلك إن ما نفعله بهم، لا يعني الولايات المتحدة.
أجبت أنني أعتبر نفسي صديقاً للأرمن، وإنني صُعِقْتُ بالطريقة التي يعاملون بها. لكنه هزّ كتفيه ورفض التباحث بالأمر. رأيت آنذاك أنني لن أنال منه شيئاً بالضغط عليه، ولذلك كلمته عن مواطن بريطاني، لا يعامل بشكل لائق.
“هو إنكليزي أليس كذلك؟” أجاب طلعت “لذلك سأعمل معه ما أشاء”.
“كُله إن أردت” أجبته.
“لا” قال طلعت “يمكن أن يسبب لي عسر هضم”.
كان في حالة طيش وتهوّر بكل ما في الكلمة من معنى، “ليعاقب الله إنكلترا” قالها بلغة ألمانية لا يفقه غير بضع كلمات منها؟ “أما بالنسبة لأصدقائك الأرمن، إننا لا نُعيرُ أي أهمية للمستقبل. نحن نعيش في الحاضر فقط. أما بالنسبة للإنكليز، فأتمنى أن تبرق لواشنطن، أننا لن نفعل شيئاً من أجلهم حتى يخلوا سبيل أيوب صبري وذو النون” ثم مال إلى الأمام وضغط بيديه على قلبه، وقال “إنه…أخي” الكلمات الإنكليزية القليلة التي كان يعرفها في الحقيقة. مع ذلك توسطت مرة ثانية من أجل الدكتور ماك نوتون.
“هو ليس أمريكياً” قال طلعت “إنه كندي”.
“هذا الشيء نفسه تقريباً” قلت له.
“حسناً” أجاب طلعت “إذا تركته طليقاً فهل تعدني أن تضم أمريكا كندا إليها؟”.
“أعدك” قلت، وضحكنا معاً على هذه النكتة الصغيرة.
“كل مرة تأتي إليّ” قال طلعت: “تسرق مني شيئاً في النهاية، حسناً يمكنك أن تأخذ ماك نوتون”.
بالطبع لم تكن هذه المقابلة بداية مشجعة بالنسبة لموضوع الأرمن. لكن لم يكن طلعت دائماً في “مزاج أيوب صبري”. إنه كان ينتقل بسرعة وسهولة كالأطفال من انفعال إلى آخر. كنت أراه يوماَ صلباً وصاخباً لا يتراجع، ويتكيّف بسهولة في اليوم الآخر. لذلك فمن الأفضل أن أنتظر لبرهات أكثر ملاءمة قبل الاقتراب منه بشأن الموضوع الذي أثار كل البربرية في طبيعته.
سنحت مثل هذه الفرصة بسرعة. في أحد الأيام بعد عرض ومناقشة الأحداث التي أتى ذكرها سابقاً، عرّجت على طلعت ثانية. أول شيء فعله، أنه فتح الدرج، وأخرج منه حزمة من البرقيات الصفراء.
“لماذا لا تعطينا هذا المال؟” قال طلعت مكشراً.
“أي مال؟” قلت.
“هذه برقية لك من أمريكا، يرسلون مالاً كثيراً من أجل الأرمن، يجب ألا تستعملها بتلك الطريقة، أعطها لنا، لأننا بحاجة ماسة إليها مثلهم”.
“لم أستلم مثل تلك البرقية” أجبت.
“لا، ولكنك ستستلم” أجاب: “إنني أحصل على كل برقياتك أولاً كما تعلم، وبعد قراءتها أرسلها إليك”.
كانت هذه الحقيقة بعينها. في صباح كل يوم، كانت جميع البرقيات غير المُشَفَّرة في القسطنطينية تقدم لطلعت، الذي كان يقرؤها قبل أن يوافق على إرسالها إلى عناوينها. لم تكن حتى برقيات السفراء في الواقع مستثناة، مع العلم أنهم لم يتدخلوا في الرسائل المشفرة. كان باستطاعتي عادة أن أحتج ضد هذا الخرق لحقوقي، ولكن صراحة طلعت الجذّابة عن سرقة أعداد قليلة من مراسلاتي، وحتى تلويحه ببرقياتي أمام وجهي أعطتني فرصة ممتازة للتكلم عن الموضوع الممنوع. لكن في هذه المناسبة، كما في مناسبات عديدة أخرى، كان طلعت مراوغاً ومتملّصاً وغير واضح، وأظهر عداءً كبيراً وسافراً لاهتمام الشعب الأمريكي بالشعب الأرمني. شرح مفصلاً أن الأرمن على اتصال دائم مع الروس. تركت هذه المحادثات في نهاية المطاف لديَّ القناعة التي لا لبس فيها، أن طلعت كان أحقد عدو لهذا الشعب المضطهد. “ترك عليَّ طلعت انطباعاً” هكذا كان مدوناً في بداية مفكرتي في يوم 3 آب، “إنه الشخص الذي يود دمار الأرمن المساكين”. أخبرني أن لجنة الاتحاد والترقي، درست الأمر بكل تفاصيله بعناية، والسياسة التي كانت تطبق هي السياسة التي تبنّوها رسمياً، وقال: إنه يجب عليّ ألا أتسرع في الحكم، على أن التهجير تقرر تنفيذه بعجالة. في الحقيقة إنه نتاج مشاورات طويلة ودقيقة. كان في بعض الأحيان يجيب بجديّة، وفي بعض الأوقات بعصبية وفي برهة أخرى بوقاحة لمناشداتي المتكررة لإظهار الرحمة لهؤلاء الناس.
“وفي يوم من الأيام “قال مرة” سآتي إليك، وسنبحث معك المسألة الأرمنية برمتها” ثم أجاب بصوت منخفض باللغة التركية:
“لكن ذلك لن يحدث أبداَ”.
أشرت مراراً وتكراراً إلى أن الأتراك كانوا ينظرون إلى كل مسألة على أنها مسألة شخصية. وجهة النظر هذه صعقتني، ومن ناحية ثانية كان ذلك فضحاً كاملاً لسر العقلية التركية. إن الحقيقة التي لم تَلِجْ أبداً في فكرهم وذهنهم، أن فوق كل الاعتبارات العرقية والدينية هناك أشياء مثل الإنسانية والحضارة. “إنني لا أترجاك باسم أي عرق، أو أي دين، “قلت له”: لكنني أتكلم معك كإنسان. قلتَ لي: إنكم تريدون أن تجعلوا من تركيا قطعة من العالم الحديث المتحضّر. إن الطريقة التي تعاملون بها الأرمن لن تساعدكم على تحقيق طموحاتكم، لأنها تصنّفكم بين الشعوب الرجعية والمتأخرة”.
“نحن نعامل الأمريكيين بشكل جيد أيضاً” قال طلعت: “لذلك لا أرى سبباً لتذمرك”.
“إن الأمريكيين غاضبون بسبب اضطهاداتكم للأرمن”، أجبت: “يجب أن تبنوا مبادئكم على محبة الخير العام، لا على التمييز العنصري، وإلا فإن الولايات المتحدة، لن تعتبركم صديقاً ولا مساوياً لها. يجب عليكم أن تفهموا التغييرات الكبيرة التي تحدث عند المسيحيين في كل أنحاء العالم. إنهم ينسون اختلافاتهم وتَتَّحدْ كل طائفة مع الأخرى. إنك تزدري المبشرين الأمريكيين ولكن لا تنس أن أحسن العناصر في أمريكا، تساعدهم في عملهم الديني، وفي إدارة مؤسساتهم التعليمية. ليس الأمريكيون مجرد أناس ماديين، يركضون وراء المادة دائماً، بل إنهم إنسانيون بالمعنى الواسع للكلمة، ويهتمون بنشر العدالة والحضارة في كل أنحاء العالم. ستواجه وضعاً جديداً بعد انتهاء هذه الحرب. أنت تقول إنكم إذا انتصرتم، يمكنكم أن تتحدّوا العالم، لكنكم مخطئون، لأنكم ستجابهون الرأي العام العالمي في كل مكان، وخاصة في الولايات المتحدة. لن ينسى شعبنا هذه المذابح، إنهم دائماً سيستاؤون من الدمار الشامل الذي حصل للمسيحيين في تركيا. سينظرون إلى هذه الأمور على أنها قتل متعمّد فقط، وسيدينون كل الذين كانوا المسؤولين عنه. لن يكون في إمكانك أن تقول: إنك كنت تعمل كوزير للداخلية، وليس كطلعت. إنك تتحدى كل معاني العدالة كما نفهم هذه العبارة في بلدنا”.
لم تضايقه كل هذه التعليقات بشكل غريب، ولا غيّرت من عزمه، كأنني كنت أتكلم مع حائط من حجر، ثم تحوّل من أفكاري هذه إلى موضوع محدد.
“رفض الأرمن إلقاء السلاح حينما طلبنا ذلك. قاومونا في وان وزيتون، وساعدوا الروس. هناك طريقة واحدة فقط للدفاع عن أنفسنا في المستقبل، وهي أن نهجّرهم تماماً”.
“لنفرض أن بعض الأرمن خانوكم فعلاً” قلت “هل هذا سبب لتدمير عرق بكامله؟ هل هذا عذر لتعذيب وقتل النساء والأطفال الأبرياء؟”.
“هذه الأشياء يُتَعَذرُ اجتنابها” أجاب.
لم تكن هذه العبارة واضحة تماماً لي بالقدر الذي أجاب عليه طلعت لاحقاً، حينما سأله مراسل جريدة Berliner Tageblatt السؤال نفسه. “إننا نُلام بأننا لا نفرق بين الأبرياء والمجرمين من الأرمن، لكن ذلك غير ممكن تماماً، لأن أولئك الذين هم أبرياء اليوم، يمكن أن يكونوا مجرمين غداً”.
السبب الوحيد الذي لم يسمح لطلعت أن يتباحث معي حول هذا الموضوع بحرية تامة، هو أن الموظف الذي يقوم بالترجمة كان أرمينياً. في أوائل شهر آب، أرسل لي طلعت رسولاً خاصاً، يسألني إذا كان باستطاعتي أن أراه بمفردي، مع العلم أنه سيؤمن المترجم بنفسه. كانت هذه هي المرة الأولى التي أعترف ضمنياً، أن معاملته للأرمن تهمني. جرت المقابلة بعد يومين. حدث أنني حلقت ذقني بعد آخر مرة زرت فيها طلعت. لم أكن قد دخلت غرفته بعد، حينما بدأ الوزير الضخم يتكلم بطريقته المعهودة:
“أصبحت رجلاً شاباً ثانية” قال: “أصبحت شاباً إلى حد، أنه لن أتمكن من أخذ النصائح منك بعد الآن”.
“حلقت ذقني” أجبت: “لأنه أصبح أشيب يسبب معاملتكم للأرمن”.
بعد تبادل هذه الإطراءات جلسنا للتباحث.
“طلبت منك أن تأتي اليوم” بدأ طلعت بالكلام “لأشرح موقفنا من المسألة الأرمنية برمتها. نحن نبني اعتراضاتنا ضد الأرمن على ثلاث نقاط أساسية واضحة. أولاً: إنهم أثروا على حساب الأتراك. وثانياً: قرر الأرمن أن يهيمنوا علينا، وذلك بتأسيس دولة منفصلة. وثالثاً: ساعدوا أعداءنا علينا، ساعدوا الروس في القفقاس، وفشلنا هناك بسبب تصرفاتهم تلك. لذلك جئنا إلى القرار النهائي، أنه يجب علينا أن نضعفهم قبل نهاية هذه الحرب”.
كانت لديّ ردود عديدة لكل نقطة من نقاط الاعتراض هذه. إن النقطة الأولى لطلعت، كانت القبول بشكل غير مباشر، أن الأرمن متطورون صناعياً أكثر من الأتراك الكسالى والبليدين. لذلك فإن التنافس الصناعي والمالي عن طريق المذابح، كانت فكرة جديدة مبتكرة. أما النقطة الثانية فهي تهمة أن الأرمن “يتآمرون” ضد تركيا، وأنهم يتعاطون بشكل مفضوح مع أعداء تركيا، كانت تعني فقط، وحينما نرجع إلى الأسباب الأولية والفعلية للمسألة، أن الأرمن كانوا يستغيثون بالقوى العظمى الأوروبية لحمايتهم من السرقات والاعتداءات والقتل. إن المسألة الأرمنية ككل المسائل العرقية، كانت نتيجة سوء المعاملة والجور عبر القرون الطويلة. يمكن برأيي أن يكون حلّ واحد لهذه المسألة، وهو خلق نظام مُرتّب للدولة، يُعامل فيه كل المواطنين على قدم المساواة والعدل، وكل الإساءات تُعاقب باعتبارها أعمالاً فردية لا جماعية.
ناقشنا هذه المسائل ومواضيع مماثلة أخرى لمدة طويلة. “ليس هناك فائدة من مناقشتك” أجاب طلعت: “لأننا هجّرنا ثلاثة أرباع الأرمن بالفعل، وليس هناك أحد منهم الآن في بتليس Bitlis ووان Van وأرضروم Erzerum. إن الحقد بين الأتراك والأرمن شديد، لدرجة أنه يجب علينا أن نقضي على الباقين، وإذا لم نفعل ذلك فسيخططون للثأر[3].
“إن كانت لا تؤثر فيكم الاعتبارات الإنسانية” أجبت “فكّر في الخسائر المادية. هؤلاء الناس تجاركم، وإنهم ينظمون صناعاتكم العديدة، ويدفعون الضرائب الكبيرة، ماذا سيحدث لكم تجارياً من دونهم؟”.
“لا نهتم بالخسارة التجارية أبداً” أجاب طلعت. “إننا حسبنا كل ذلك، ونعلم أن الخسارة لا تتعدى خمسة ملايين استرليني. لسنا قلقين بشأن ذلك. إنني طلبت منك أن تأتي هنا، لأعلمك أن سياستنا الأرمنية ثابتة، ولا يمكن لأي شيء أن يغيرها. لن نترك الأرمن في أي مكان من الأناضول، يمكنهم أن يعيشوا في الصحراء، وفي أي مكان آخر”.
حاولت إقناع طلعت، أن هذه المعاملة تدمّر تركيا في أعين العالم، وأن هذه البلاد لن تتمكن من إنقاذ نفسها من هذا العار. “إنكم ترتكبون خطأ فظيعاً” قلت له وكرّرت الجملة ثلاث مرات.
يمكننا أن نرتكب الأخطاء” رد عليّ طلعت “لكن” وأغلق شفتيه بقوة وهزّ رأسه “لكننا لن نندم أبداً”.
كانت لي محادثات كثيرة معه عن الأرمن لكنني لم أنجح أبداً في زحزحته ولو بدرجة قليلة. رجع دائماً إلى النقاط التي ذكرها في هذه المقابلة. كان تواقاً جداً لتلبية أي طلب لمصلحة الأمريكيين وحتى الفرنسيين والإنكليز، لكنني لم أقدر أن أحصل على أي تنازل لمصلحة الأرمن. يتراءى لي أن لديه إيماناً عميقاً تجاه هذه المسألة، وكان عداؤه وعناده ضد الأرمن، يزيد بقدر ما تزيد معاناتهم.
في يوم من الأيام عندما كنت أتحدث مع طلعت عن أرمني معين، أخبرته أنه مخطئ، إذ يعتبر هذا الإنسان عدواً للأتراك. كان في الحقيقة صديقاً لهم.
“لا يوجد أرمني “رد طلعت” يمكن أن يكون صديقنا بعد ما فعلناه بهم”.
في أحد الأيام طلب مني طلعت أغرب طلب سمعته في حياتي حتى الآن. إن شركة التأمين على الحياة في نيويورك وشركات أخرى، كانت تتعامل مع الأرمن لسنوات طويلة. إن حجم المال الكبير الذي أمّن به هؤلاء الناس على حياتهم دلالة أخرى على عاداتهم وطبعهم المقتصد. “آمل” قال طلعت “بأنك ستحصل من شركات التأمين على الحياة الأمريكية جدولاً كاملاً بحاملي بواصل التأمين الأرمن. عملياً كلهم متوفون، ولم يتركوا أحداً ليرثهم. في هذه الحالة تستولي عليها الدولة طبعاً. إن الدولة هي الوصية الآن، هل ستفعل ذلك”؟
هذا كان أكثر من أن يُطاق وكلامه هذا عكّر من مزاجي كثيراً. “لن تحصل مني أي جدول من هذا النوع” قلت له. ووقفت منتصباً وتركته.
جرت حادثة أخرى مرتبطة بالأرمن أيضاً عكّرت صفو طلعت، وأوصلته إلى واحدة من أشد حالاته النفسية ضراوة. في نهاية شهر أيلول سافرت السيدة مورغنتاو إلى أمريكا. إن مآسي وعذاب الأرمن أطبق على صدرها وعقلها. وفي الحقيقة سافرت لأنها لم تتحمل العيش في هذا البلد أكثر من ذلك. قررت أن تقوم بآخر شفاعة من أجل هذا الشعب المسكين، وعلى مسؤوليتها الخاصة. على طريق رجوعها إلى الوطن، مرّت من بلغاريا، واستلمت هناك دعوة حميمة من الملكة إليانور التي عبّرت عن سرورها لاستقبالها. ربما مَهَّدتْ لهذه الدعوة اهتمامات السيدة مورغنتاو في أعمال البرّ. كانت الملكة إليانور سامية المبادئ، ونبيلة المشاعر، تعيش حياة حزينة كئيبة وموحشة، وتمضي أكثر وقتها تحاول تحسين أوضاع الفقراء في بلغاريا. عرفت كل شيء عن أعمال البرّ في المدن الأمريكية وقبل عدة سنوات، وضعت كل خططها لزيارة الولايات المتحدة لدراسة مراكز الاستيطان هناك Colonies من المصدر رأساً. عند زيارة السيدة مورغنتاو كانت لدى الملكة ممرضتان أمريكيتان من مستوطنة مدينة نيويورك، تعرّفان مجموعة من البنات البلغاريات بطرق الصليب الأحمر الأمريكي. كان الاهتمام الرئيسي لزيارتها للملكة التوسط من أجل الأرمن. وصلت مسألة دخول بلغاريا في الحرب إلى مرحلة خطرة في ذلك الوقت. بدأت تركيا تهيئ نفسها لتقديم التنازلات لتربحها إلى صفها. لذلك كانت اللحظة ملائمة لتقديم هذا الالتماس.
قضت الملكة والسيدة مورغنتاو في الحديث نحو ساعة واحدة بشكل غير رسمي، تقص عليها زوجتي خلالها كل شيء عن الأرمن. أكثر الأشياء التي سردتها كانت جديدة كلياً للملكة. لم يكن حتى ذلك الوقت قد ظهر في الصحافة الأوروبية عن هذا الموضوع غير القليل. أعطت السيدة مورغنتاو كل الحقائق عن معاملة النساء والأطفال والشيوخ الأرمن، وطلبت منها أن تتوسط لمصلحتهم. حتى إنها ذهبت أبعد من الحد المسموح في اقتراحها قائلة: إنه سيكون فظيعاً إن أصبحت بلغاريا حليفة تركيا في الحرب.
قاست بلغاريا نفسها في الماضي من وحشيات الأتراك. تأثرت الملكة كثيراً، ووعدت أن تتحقق من الأمر وتعمل ما بوسعها.
حينما كانت زوجتي تهم بالمغادرة، رأت الدوق مكلنبورغ Duke Mechlenbourg يقف أمام الباب. كان الدوق في صوفيا لمحاولة إشراك بلغاريا في الحرب. قدمته الملكة إلى السيدة مورغنتاو. كان سموه مؤدباً، لكن سيماءه الخارجي كان فاتراً ومجروحاً. إن تصرفاته والنظرات المتجهمة التي رماها على السيدة مورغنتاو، دلّت بشكل خاص أنه سمع القسم الأكبر من المحادثة. لم يكن عجيباً طبعاً، ألا يستسيغ توسط السيدة مورغنتاو لدى الملكة، بألا تتحالف مع تركيا، بينما هو يحاول بشتى الضغوطات جلب بلغاريا إلى جانب ألمانيا.
اهتمت الملكة بالقضية الأرمنية مباشرة، وبالنتيجة قدّم السفير البلغاري في تركيا احتجاجاً ضد هذه الوحشيات. هذا الاحتجاج لم ينجز أي شيء، بل على العكس أيقظ حنق طلعت الشديد على السفير الأمريكي. عندما ذهبت بعد عدة أيام إلى الباب العالي في عمل روتيني رأيته في نفسية بشعة جداً. أجاب عن كل أسئلتي بفظاظة، وبكلمات أحادية المقطع. ومع ذلك كان ودياً بعد عدة أيام مثل كل مرة. لأن بلغاريا وقفت بجانب تركيا في الحرب.
إن موقف طلعت من الأرمن، يُلخص بتفاخره المتغطرس أمام أصدقائه: “إنني أنجزت من القضية الأرمنية خلال ثلاثة أشهر فقط ما عجز عنه عبد الحميد خلال ثلاثين سنة”.
_______________
نقلا عن موقع ملحق آزتاك العربي الذين بدورهم نقلوها عن كتاب “شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية” إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016 ، وثائق تاريخية عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانيةـ قــتــل أمــة، مذكرات، هِنري مورغنتاو، السفير الأمريكي في تركيا بين (1913-1916) عن المذابح الأرمنية في تركيا، ترجمة: الدكتور الكسندر كشيشيان، حلب – 1991، الفصل الرابع.