أرمينيا هي دولة صغيرة المساحة تقع في جنوب غربي آسيا، ويبلغ عدد سكانها نحو ثلاثة ملايين نسمة فقط. ورغم ذلك، لها مكانة كبيرة في التاريخ الروحي للمسيحية، إذ يرى غالبية المؤرخين أنها تبنت المسيحية كديانة رسمية عام 301 ميلادية، لتصبح بذلك أول دولة في العالم تُقْدِمُ على تلك الخطوة.
والآن، يعتنق المسيحية 95 في المئة من سكان أرمينيا، ويمكن تتبع تاريخ هذا البلد مع التدين عبر العديد من المواقع والآثار القديمة الموجودة على أراضيه.
الزعيم الروحي:
وفقاً للأسطورة السائدة، كان غريغوريوس المنوِّر هو أول أسقف لكنيسة الأرمن الأرثوذكس، وهو نجل رجل نبيل يُدعى آناق، والذي اغتال ملك أرمينيا خوسروف الثاني، وأعدِمَ بسبب ذلك. لكن غريغوريوس نجح في الهروب إلى منطقة الكبادوك أو كبادوكيا، حيث رُبي على يد الأسقف القديس فرميليان.
وبعد أن بلغ أشده، عاد إلى مسقط رأسه، آملا في أن يُقنع الملك – ومن ثم رعيته – باعتناق المسيحية. لكن عندما عِلم ملك أرمينيا وقتذاك، تيريديتس الثالث – وهو نجل الملك القتيل – بعودة غريغوريوس؛ زج به في السجن وسعى لإجباره ليرتد عن المسيحية، لكنه رفض.
وبعد نحو 13 عاما من البقاء خلف القضبان؛ نجح غريغوريوس في إقناع الملك بمدى قوة الإيمان، ما أدى لاعتناق الملك للمسيحية. وفي عام 301 ميلادية، أعلن الملك تيريديتس الثالث المسيحية دينا رسميا لأرمينيا.
آثار الماضي:
تقبع قلعة كارني على حافة جرف صخري قرب قرية تحمل الاسم نفسه في إقليم كوتايك بوسط أرمينيا. وقد شُيّدت القلعة في القرن الأول للميلاد على يد الملك تيريديتس الأول. ويسبق بناء المعبد الموجود بداخلها انتشار المسيحية في أرمينيا. ويُقال إنه كان مُشيّدا من أجل إله الشمس، بحسب الأساطير الأرمينية.
وبينما دُمِر الكثير من المعابد الوثنية بعد إعلان المسيحية ديانة رسمية لأرمينيا، كان المعبد الواقع في قلعة كارني من بين الأماكن القليلة التي نجت من هذا المصير. وفي الوقت الحالي، يشكل المعبد رمزا لحركة يُطلق عليها اسم “الوثنية الجديدة” في أرمينيا، والتي تمزج بين المعتقدات والديانات السابقة للمسيحية وتعاليم وشعائر وطقوس الدين المسيحي.
ويصل عدد زوار هذا المعبد سنويا إلى أكثر من 136 ألف زائر، ما يجعله أحد المزارات السياحية الأكثر شعبية في أرمينيا.
كنيسة القديسة كايانه:
تُعرف مدينة فاغارشابات الأرمينية، الواقعة إلى الغرب من العاصمة يريفان، بأنها العاصمة الروحية للبلاد. وهناك تقع كنيسة القديسة جيانا، التي شُيّدت عام 630، وتُدرج حاليا على قائمة منظمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي.
وقد أُقيمت الكنيسة في الموقع الذي أُعْدِمتْ فيه سيدة تُدعى أبيس جايانا، بأمرٍ من الملك تيريديتس الثالث لاعتناقها المسيحية، وذلك في الفترة السابقة لتحول الملك نفسه إلى هذا الدين. وقد طُوّبت هذه السيدة قديسةً من جانب الكنيسة الأرمينية، ويقع قبرها تحت الكنيسة التي تحمل اسمها.
زنزانة سابقة:
يقع دير “خور فيراب” في وادي آرارات بجنوب شرقي أرمينيا، وذلك في المكان الذي سجن فيه الملك تيريديتس الثالث غريغوريوس المنَوِّر لدى عودته إلى وطنه. وقد شُيّدت صومعة الرهبان هذه للمرة الأولى عام 642 فوق الزنزانة تكريما لـ”غريغوريوس”، قبل أن تُضاف إليها صومعةٌ أكبر وديرٌ في عام 1662.
ويشكل الدير الآن أحد أكثر المواقع التي يقصدها الزوار في أرمينيا. كما تشكل صومعته مقصدا للكثيرين ممن يريدون إتمام الزواج أو التعميد فيها.
كهف المصلين (دير كيغارت):
يقع دير كيغارت إلى الشمال الشرقي من كارني، وهو مدرجٌ أيضا على قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي. وقد أُسس أقدم مباني الدير في القرن الرابع الميلادي على يد غريغوريوس المنَوِّر، عندما تحولت أرمينيا إلى المسيحية. ولكن هناك مباني أخرى في مجمع الدير، تعود إلى القرن الثالث عشر.
وقد تم توسيع بعض قاعات ذلك الدير، الذي كان يُعرف سابقا باسم “أيريفانك” أو “الدير الكهف”، لتمتد إلى الجبل المجاور، ما أعطاها شكلا أشبه بالكهوف.
وتقول الأسطورة السائدة حول هذا الدير إنه سُميّ “كيغارت”، وهي كلمة تعني “الحربة” باللغة الأرمينية، وذلك بعدما جُلبت إليه حربةٌ يُقال إنها استخدمت في تثبيت المسيح على الصليب. ويُقال إن هذه الحربة حُفظت في كيغارت لمدة 500 سنة قبل أن تُؤخذ إلى كاتدرائية إتشميادزين في فاغارشابات، حيث لا تزال معروضة حتى اليوم.
مباركة الجنود المتجهين للقتال (كنيسة زفارتنوتس):
تقع كنيسة زوراتس ببلدة ياغيجيس في إقليم فايوتس جور جنوبي أرمينيا. وشُيّدت هذه الكنيسة في القرن الرابع عشر عندما كانت البلاد تخضع لسيطرة المغول، وتخوض حربا ضد المماليك القادمين مما يُعرف حاليا بسوريا.
ولا تتألف الكنيسة سوى من مذبح مُقام على مستوى مرتفع من أرضيتها. بينما تقع على الجانبين غرفتان للاجتماعات، تُعرف كلٌ منهما باسم “مجلس الكنيسة”. ونظرا لارتفاع مستوى المذبح عن الأرض، يعتقد المؤرخون أن الكنيسة كانت تُستخدم لمنح البركة للجنود الأرمينيين وهم على صهوات خيولهم، قبل توجههم للقتال.
مقبرة الخلاص:
أحجار “الخاتشكار” أو أحجار “الصليب الأرمني”، هي منحوتات تصوّر صلبانا مُحاطة بزخارف بعضها نباتية، وتبدو في الأساس رمزا لخلاص الروح، سواء كان صاحبها حيا أو ميتا. وقد ظهرت هذه المنحوتات إلى الوجود للمرة الأولى في القرن التاسع تقريبا، وكانت تُنصب في أغلب الأحيان في المعابد الوثنية التي تحولت إلى كنائس، كرمز للإيمان بالدين الجديد.
أما الآن فتُدرج هذه المنحوتات على قائمة منظمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي. وتحتوي مقبرة نورايتس، الواقعة في إقليم غيغاركونيك، على أكبر مجموعة من أحجار “الخاتشكار” تُوجد حاليا في أرمينيا، إذ تضم أكثر من 800 من هذه الأحجار، ولكل منها تصميمٌ يختلف عن الآخر.
علاوة على ذلك، تشكل المنحوتات الموجودة في تلك المقبرة أحد أقدم النماذج المتبقية لهذا الضرب من النحت، إذ يعود بعضها إلى القرن العاشر.
مقابر قديمة:
في إقليم سيونيك الواقع إلى الجنوب من العاصمة الأرمينية يريفان، يوجد موقع كاراهونتش، الذي يضارع في عراقته وفي مظهره موقع ستونهينج الموجود في إنجلترا. ويمتد كاراهونتش على مساحة تصل إلى نحو 70 ألف ميل مربع (أكثر من 112 كيلومتر مربع)، ويتألف من مقابر وصخور مرصوصة على شكل دائرة في منتصفه، بجانب صف من الصخور الضخمة التي قد تعود إلى ما قبل سبعة آلاف عام.
ويعتقد المؤرخون أن هذا الموقع شكّل في عصور ما قبل التاريخ ساحة لدفن الموتى، إذ كان شائعا خلال العصر البرونزي أن يُوارى هؤلاء الثرى في حجرات دفن تُغطى ببلاطات من الحجر.
من جهة أخرى، يصل قطر الدائرة التي تشكلها الأحجار الضخمة الموجودة في هذا المكان إلى 45 مترا. ويبلغ ارتفاع الصخور هناك مترين و80 سنتيمترا، ويصل وزنها إلى عشرة أطنان. وحُفرت ثقوب دائرية صغيرة في ثلث الأحجار الـ 223 الموجودة في ذلك الموقع.
ويعتقد بعض العلماء أن هذه الثقوب ربما تكون قد حُفِرت لمراقبة الأفلاك ورصدها، وهو ما سيجعل كاراهونتش – على الأرجح – أقدم مرصد فلكي في العالم.
المصدر: BBC Travel