الواقعة التي نرصدها ليست مجرد قرار أنساني أصدره الزعيم المصري سعد زغلول باشا، بل كانت أكثر من ذلك بكثير في ظل الظروف التاريخية المحيطة بمصر والعالم آنذاك .. في ذاك الزمان، لم يكن هناك تلفزيون ينقل الأحداث في بث حي، ولم تكن هناك شبكة إتصالات لاسلكية عالية الكفاءة، تتابع الوقائع لحظة بلحظة..
لم يكن هناك إلا الصحف، التي تنشر مايرد اليها بعد الواقعة بأيام.. ولم يكن هناك منظمات ترعي الناس في المحن والأزمات.. أو منظمات تحض علي رعاية بني البشر الذين يتعرضون للبلاء.. لم يكن هناك منظمات حقوق أنسان، أو منظمات للطفولة والأمومة. المنظمة الوحيدة كانت الصليب الأحمر بإمكانيات محدودة للغاية.
ماذا حدث في يناير ١٩٢٤؟
علم سعد باشا بالمذابح التي تقودها الدولة التركية ضد الأمن والتي اودت بحياة مليون ونصف مليون منهم وسمع بتجمع آلاف الأيتام في معسكرات للإيواء بالدول المجاورة حيث فتحت الكنائس الأوروبية والشرقية أبوابها لإيواء النازحين.
كما إتجه آلاف الأرمن صوب مصر: الأم الحنون في ذلك الوقت. وعلم سعد باشا أن هناك آلاف من الأيتام وصلوا الي مصر، وأن ورائهم الاف آخرين، فقرر العفو عن النازحين الذين دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية وقرر أيضا السماح بنقل ١١٠٨ يتيم ويتيمه أرمنيه للعيش في مصر.. بالتحديد ٨٠٦ من اليتيمات و٣٠٠ من الأيتام .
وخرج من القاهرة أقوي إحتجاج ديني علي المذابح من قلب أزهرها الشريف، وعلى لسان شيخه الجليل سليم البشرى، الذى أصدر فتوى بحرمة الإبادة والتحذير من اقترافها على نحو ما نشرته جريدة المؤيد يوم 28 أبريل/نيسان 1909 نقلا عن الشيخ البشرى: «اطلعنا فى الصحف المحلية على أخبار محزنة وإشاعات سيئة عن مسلمى بعض ولايات الأناضول من الممالك العثمانية، وهى أن بعضهم يعتدون على بعض المسيحيين فيقتلونهم بغياً وعدوانا، فكدنا لا نصدق ما وقع إلينا من هذه الشائعات، ورجونا أن تكون باطلة، لأن الإسلام ينهى عن كل عدوان ويحرّم البغى وسفك الدماء، والإضرار بالناس كافة، المسلم والمسيحى واليهودى فى ذلك سواء…» .
ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى والأرمن يحاولون جمع الوثائق والأدلة لإثبات الخطة العثمانية الشيطانية لإبادة شعبهم وسلب أراضيهم وممتلكاتهم ثم طرد من تبقى منهم بعيدا فى الشتات للغرق فى جوف البحر الأسود. ومن بقى حياً يواجه ظروفا لا يتحملها بشر بلا زاد ولا ماء تحت وطأة التعذيب والدفن الجماعى فى بطن الصحراء.
ولم يشفع للأرمن إخلاصهم فى خدمة الإمبراطورية العثمانية، وقد حققوا في مجال الاعتراف بمأساتهم كثيرا من التقدم، ففى عام 1974 اعترفت اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة بأن «مذابح الأرمن كانت أول عملية إبادة في القرن العشرين» .
ومن يومها تنضم دولا جديدة لتعترف رسميا بالإبادة التى تعرض لها الأرمن، ولتربح القضية الأرمنية داعمين جدد، آخرهم ألمانيا من بعد فرنسا والعشرات من الدول الأخرى بما فيها ٤٦ ولاية أمريكية، حيث الجرح لم يزل فائرًا، ولم تزل بحور الدموع تسيل على جدران التاريخ، ولم تزل رائحة الدماء تهب مع الذكريات، ولم يزل صوت الأنين يعشش فى أضغاث الكوابيس الموروثة أباً عن جد، بما يثبت أن الدم أقوى من السيف، وأن الضحية أقوى من الجلاد.. وأنه لا فرق بين مجزرة ومجزرة، وبين مأساة وطن سليب وآخر سقط عبر المفاوضات والشجب، والأمر يتساوى بين مجازر العثمانيين للأرمن ومجازر التتار القدماء والجدد ضد العرب.