بعد فقدان أرمينيا الغربية نهائياً والمأساة التي تعرض لها سكانها، ظلت أرمينيا الشرقية بالنسبة للأرمن البقعة الوحيدة للانطلاق إلى الحياة والعيش بكرامة على أراضي الأجداد، وهذه العزيمة والإرادة الصلبة، دفعتهم للبقاء، وقاموا بتوحيد صفوفهم والتصدي في وجه العدو الطوراني، وخوض معركة الحياة أو الزوال.
وبعد إعلان التعبئة العامة جرى تنظيم المقاومة المدنية وتعزيز جبهة القتال وتأمين طرق التموين والعمل المشترك بكل الوسائل المتاحة، وشارك الشعب الأرمني بشتى فئاته جنباً إلى جنب الجيش بقيادة أبطال المقاومة في المعارك ضد القوات التركية من دون استثناء.
إن أرمينيا المحاصرة، التي كانت تلثم جراح الإبادة وتعاني الجوع والفقر ومشاكل النازحين والأيتام من أرمينيا الغربية وتعيش مرحلة عصيبة للغاية، هبت كرجل واحد ضد الجيوش التركية، وأوقفت في أواخر أيار عام 1918، بعد معارك دامية، تقدمها في قركيليسه وباش أباران، وخاصة في سارداراباط الواقعة على سهل آراراط، وبذا زال خطر إفناء الشعب الأرمني في الشطر الشرقي من أرمينيا.
بشجاعتهم وإرادتهم الصامدة، أظهروا جنباً إلى جنب مع المقاومة الشعبية، بسالة تفوق التعريف بعدة شخصيات، نذكر منهم على سبيل المثال: آرام مانوكيان، قائد الجيوش الأرمنية نظاربيكيان، سيليكيان، درو وبيك بيروميان وغيرهم.
في 26 أيار 1918 أعلن عن حل السلطة التشريعية (السييم) التابعة لـ«مفوضية القوقاس» التي كانت تضم أقاليم ماوراء القوقاس، وفي اليوم نفسه أعلنت عن استقلالها جيورجيا وأذربيجان في 27 أيار، وفي 28 أيار 1918 أعلن المجلس الوطني الأرمني قراراً باستقلال أرمينيا، مستغلة الوضع الجديد الناجم عن الحرب التي خاضتها القوات الأرمنية وحدها ضد تركيا.
وهكذا تأسست الجمهورية الأرمنية الأولى بقيادة حزب الطاشناق التي دامت نحو أكثر من عامين (1918-1920)، وبالرغم من الأوضاع الإقليمية القاسية، كان الاستقلال حدثاً مصيرياً مهماً في تاريخ الشعب الأرمني، لإقامة الدولة الأرمنية على مساحة صغيرة بعد فقدانها لعدة قرون نتيجة الاحتلال التركي، وتقسيم أرمينيا بين القيصرية الروسية والإمبراطورية العثمانية.
إن استقلال أرمينيا الشرقية أسفر عن اتفاقية باطومي بين حكومة أرمينيا وتركيا في 4 حزيران عام 1918، ووفق المادة الثانية من الاتفاقية المبرمة بين الطرفين، جرى ترسيم حدود أرمينيا على نحو مساحة 10 آلاف كم2 تحتوي ولاية يريفان والمناطق المجاورة، وعدا أرمينيا الغربية انضمت إلى تركيا مناطق قارص وأرداهان وسورمالو وشارور وإقليم ناخيجيفان.
بغض النظر أن الاتفاقية فرضت من تركيا على القيادة الأرمنية الجديدة بشروط لا تتماشى مع مصالح وأمنيات الشعب الأرمني، وانتهكت حقوقه على جزء بسيط على أراضيه التاريخية، لكن في الوقت نفسه، منحت الفرصة للجمهورية الفتية خلال فترة وجيزة لتشكيل المؤسسات الحكومية والاهتمام بشؤون النازحين وتنظيم الجيش وفتح دور التعليم والمستشفيات وبناء الطرق وإرساء التنمية الاقتصادية وإقامة علاقات دبلوماسية مع عدة دول وغيرها، وبحلول عام 1919 بدأت المساعدات الأولى تصل من المؤسسة الأميركية للرعاية في الشرق الأدنى إلى أرمينيا، ثم أخذ رواد البناء والإعمار يتوافدون إليها من الشتات الأرمني.
بعد انهزام تركيا الاتحادية في الحرب العالمية الأولى، تم التوقيع في 30 تشرين الثاني عام 1918 على معاهدة «مودروس» بين «الائتلاف الثلاثي» وتركيا، وبذلك ولدت أرمينيا الموحدة وسط مطالبة الحلفاء، وبعد عقد المعاهدة انسحبت الجيوش التركية من القوقاس وكيليكيا والبلدان العربية وجمهورية أرمينيا وقارص، وبذا توسعت مساحة أرمينيا وبلغت نحو 55 ألف كم2 حسب الحدود لعام 1914، أي جميع أراضي أرمينيا الروسية.
تحت ضغط الدول الحليفة قررت الحكومة التركية الجديدة تقديم دعوة ضد المسؤولين الاتحاديين الذين تحملوا دخول تركيا في الحرب ومسؤولية الترحيل القسري وإبادة الأرمن، وفي كانون الأول تم تشكيل عشر لجان قضائية على مستوى البلاد لجمع براهين جنائية، وبعدئذٍ شكلت في كانون الثاني 1919 محاكم عسكرية استثنائية بدأت جلساتها من شهر نيسان من العام نفسه لغاية كانون الثاني 1920، واتخذت قرارات بحق قادة الأتراك الشباب وأعضاء اللجنة المركزية لجمعية «الاتحاد والترقي» والتشكيلات الخاصة وغيرها من المسؤولين باتهامات ترحيل الأرمن وتفتيتهم، وحكم 11 شخصاً منهم غيابياً بالإعدام، وسجن 75 شخصاً لسنوات مختلفة، ومن المؤسف أن المحكمة العسكرية ما نفذت الحكم بحق هؤلاء المجرمين، عدا بعض قادة الاتحاديين منهم، الذين فتكوا في الخارج بأيدي الفدائيين الأرمن.
بذل قادة الجمهورية الأرمنية خلال عامين جهوداً حثيثةً لحل القضية الأرمنية، وتوحيد أرمينيا الغربية والشرقية ضمن دولة مستقلة، ونوقشت القضية الأرمنية في مؤتمر السلام في باريس (كانون الأول 1919- كانون الأول 1920) الذي انعقد بمبادرة الدول المنتصرة في الحرب، وبالرغم من عدم تقديم دعوة للجمهورية الأرمنية لحضور المؤتمر، شارك في الوقت نفسه في شباط عام 1919 في أعماله وفدان أرمنيان:
1- الوفد الوطني – برئاسة مؤسس الجمعية الخيرية الأرمنية بوغوص نوبار باشا.
2- وفد جمهورية أرمينيا – برئاسة رئيس المجلس الوطني الأرمني ورئيس مجلس جمهورية أرمينيا، الأديب آفيديس آهارونيان.
واقترح وزير خارجية فرنسا على ممثلي الأرمن بعد تقديم الوفدين مطالب الأرمن خلال المؤتمر، تحضير مذكرة بهذا الصدد، ونصت المذكرة على اعتراف بحقوق الأرمن على أراضيهم المسلوبة، وتوحيد الشطرين ضمن دولة واحدة مستقلة واستلام تعويضات من الحكومة التركية وعودة المهجرين قسرياً إلى أوطانهم، ومحاكمة المسؤولين عن الإبادة وغيرها من بنود تخص مسؤوليات الدول العظمى بشأن تنفيذ الوثيقة.
من المؤسف ما لقيته هذه المذكرة من ردود فعل، لأن مسائل ألمانيا المرتبطة مع تركيا، كانت تهم دول التحالف أكثر من القضية الأرمنية وتشكيل دولة أرمنية موحدة، وفي آخر المطاف اعترف المؤتمر في 19 شباط عام 1920 عملياً بجمهورية أرمينيا، وشارك المبعوثان الأرمنيان بوغوص نوبار باشا وآفيديس آهارونيان في 19 نيسان 1920 في مدينة سان ريمو (إيطاليا) في اجتماع المجلس الأعلى لدول الائتلاف لمناقشة مشروع معاهدة الصلح مع تركيا، الذي أسفر عن معاهدة «سيفر»، التي رُفضت من حكومة سلطنة تركيا، وقدم اجتماع «سان ريمو» طلباً إلى رئيس الولايات المتحدة الأميركية ودرو ويلسون لوضع أرمينيا تحت الانتداب الأميركي، غير أن مجلس الشيوخ رفض الموافقة عليه.
وأبرمت الدول المتحالفة والمنتصرة في الحرب العالمية الأولى بمشاركة ممثل أرمينيا في 10 آب عام 1920 في مدينة سيفر (فرنسا) معاهدة الصلح مع تركيا، ووقع الاتفاقية من جانب جمهورية أرمينيا آفيديس آهارونيان، وعدا ذلك وقع آهارونيان وممثل المهجر الأرمني ورئيس الوفد الوطني بوغوص نوبار باشا مع الدول الحلفاء اتفاقية إضافية تنص على حقوق الأقليات والعلاقات الدبلوماسية والتجارية، وكانت هذه الاتفاقية نتيجة العمل الدؤوب للأرمن خلال عقود طويلة ومفاوضاتهم مع الدول العظمى وتضحياتهم الجسيمة، ووفق الاتفاقية تم الاعتراف بأرمينيا قانونياً، والتي احتوت خمس مواد عن تطبيع العلاقات مع تركيا، ونذكر على سبيل المثال مادتين رئيستين من الاتفاقية:
المادة 88- إن تركيا انسجاماً منها مع القرار الذي اتخذته الدول الحليفة، تعلن اعترافها بأرمينيا كدولة حرة مستقلة.
المادة 89- إن تركيا وأرمينيا، شأنهما كشأن الأطراف العليا المتعاقدة، توافقان على إحالة قضية تعيين الحدود بين تركيا وأرمينيا في ولايات أرضروم، طرابزون، وان، وبتليس، إلى تحكيم رئيس الولايات المتحدة الأميركية، كما توافقان على قبول القرارات والإجراءات التي سيوصي بها فيما يتعلق بإيجاد منفذ لأرمينيا على البحر، وبتجريد المناطق المتاخمة من السلاح.
كما نصت الاتفاقية على مادة أخرى تنص على «عقوبات سوف تتخذ بحق الأشخاص المتهمين بارتكاب أعمال منافية لقوانين الحرب وتقاليدها»، ووفق اتفاقية «سيفر» تنازلت الدولة التركية بمقتضاها عن جميع البلاد العربية، التي كانت في آسيا وهي: العراق، سورية، لبنان، فلسطين، السعودية واليمن.
لغاية توقيع معاهدة «سيفر» للصلح، قامت اللجنة المشكلة من الرئيس الأميركي ويلسون، بدراسة المواقع، الاقتصاد، المواصلات، الثروات المائية، الطرق التجارية وغيرها في أرمينيا الغربية، وقدمت اقتراحاتها لترسيم الحدود في أيلول عام 1920 للرئيس الأميركي، والذي نقل قراره إلى الدول الأوروبية في تشرين الثاني من العام نفسه، ووفق برنامج ويلسون، بلغت مساحة أرمينيا الغربية 100 ألف كم2، فبتوحيد هذه المناطق مع جمهورية أرمينيا، كانت ستبلغ مساحة الدولة الأرمنية نحو 160 ألف كم2، ولكن من المؤسف أنه لم يتم تصديق اتفاقية «سيفر» من السلطنة العثمانية ولا من وريثتها حكومة مصطفى كمال أتاتورك أيضاً.
بعد معاهدة الصلح في «سيفر» سادت أرمينيا، بدءاً من أيار وضعاً جديداً نتيجة النشاط في صفوف الشيوعيين، مؤشراً على رغبة روسيا السوفييتية لبسط سيطرتها على بلدان ما وراء القوقاس، وفي الوقت نفسه حاولت روسيا السوفييتية استخدام الحركة الكمالية القومية ضد مطامع دول الائتلاف في القوقاس، التي كانت تطمح بدورها بالتصدي للتمدد الشيوعي، كما كانت روسيا ترغب في التصرف بالقوقاس حسب رؤيتها وضمان الاستقرار بوساطتها في المنطقة، والوصول إلى ترسيم حدود ثابتة بين أرمينيا وتركيا.
قدمت روسيا السوفييتية في صيف عام 1920 مساعدات عسكرية ومالية لتركيا، التي استخدمت ضد اليونان في الغرب وأرمينيا في الشرق، وكانت الحكومة التركية تطمح بتحركاتها العسكرية إفشال معاهدة «سيفر» وتحريم الأرمن من إمكانية تأسيس دولة موحدة، وبدورها كانت أرمينيا تؤمن بأن الدول العظمى: الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا ستقوم بتطبيق بنود معاهدة «سيفر» وتصد هجمات تركيا، وبهذه المناسبة قدمت حكومة أرمينيا طلباً إلى عصبة الأمم، ترجو اتخاذ آليات ضد الهجمة التركية، لكن من دون جدوى.
استغلت تركيا الوضع الإقليمي المتوتر وخاصة النزاع بين دول الائتلاف وروسيا السوفييتية، التي كانت تطمح كل منها باستخدام تركيا لمصالحها، وبدأت بالتحرك العسكري ضد أرمينيا، وبتاريخ 22 أيلول عام 1920 شن الجيش التركي بقيادة كاظم قرابيكير هجوماً مفاجئاً على أرمينيا، وبعد معارك ضارية بين الطرفين، تمكن الجيش التركي من إعادة احتلال قارص في 22 تشرين الأول، وتلتها الكسندرابول في 7 تشرين الثاني، واضطر الجيش الأرمني إلى التراجع رويداً رويداً، وانتقلت المعركة إلى ضواحي العاصمة يريفان، واستمرت بضعة أسابيع، وهكذا اضطرت حكومة جمهورية أرمينيا في ظروف صعبة جداً إلى توقيع اتفاقية صلح مع تركيا في 2 كانون الأول عام 1920 في الكسندرابول، وبموجبها انضمت مناطق قارص وأرداهان وإكدير من جديد إلى تركيا، أما مقاطعة ناخيجيفان فوضعت تحت سيطرة آذربيجان، وفرضت الاتفاقية شروطاً قاسية على أرمينيا، من بينها التزامها بالتراجع من اتفاقية «سيفر»، كما رفضت مسؤولية تركيا عن الإبادة الأرمنية وتعويض الخسائر المادية، التي بلغت حسب معطيات مؤتمر باريس للصلح نحو 19 مليار فرنك.
في اليوم نفسه جرى التوقيع على اتفاقية أرمنية روسية وتشكلت حكومة انتقالية من الطاشناق والشيوعيين، وهكذا أصبحت أرمينيا، بعد ما تقلصت مساحتها إلى نحو 30 ألف كم2، جمهورية سوفييتية بدءاً من 29 تشرين الثاني عام 1920، وبذا حُرمت الجمهورية الأولى من السلطة بعد دخول أرمينيا المنظومة الشيوعية.