لم يسبق ان تم تخصيص غابة كبيرة بإسم الشهداء في أي دولة حول العالم، وتم تأهيلها وفتحت فيها الشوارع المرصوفة بالحجر الأسود وسط الحراجيات والصنوبريات ومناهل المياه العذبة على الطريقة الارمنية وبني في وسطها مسلة ونصب تذكاري للشهداء، لا بد ان العَظَمة والروعة التي احيط بها المكان تتناسب مع الحدث الجلل وهو اعنف ابادة جماعية وحشية شهدها مطلع القرن العشرين ونفذها الأتراك بحق الشعب الارمني وادت الى قتل مليون ونصف ارمني وتشريد وتهجير البقية الباقية وطردهم من موطنهم التاريخي.
بني هذا المجمع في العام 1965 الذكرى الخمسين للإبادة على تلة تزيزيرناكابيرت في العاصمة الأرمنية يريفان.
يتحوّل هذا المجمع الى محج في يوم 24 ابريل نيسان من كل عام، يوم ذكرى الابادة الجماعية وتختنق الشوارع المحيطة به بمئات الآلاف من الزائرين ومعظمهم من ارمن الشتات جاؤوا من كل دول العالم حيث يشهد مطار زفارتنوتس في يريفان خلال الأربعة ايام التي تسبق المناسبة حركة هبوط تفوق في عددها حركات الهبوط المجتمعة على مدار العام.
ويتقدم الحشود السيد رئيس الجمهورية وهو اليوم سيادة الرئيس سيرج ساركيسيان والسيد رئيس الوزراء والسادة الوزراء واعضاء مجلس الشعب ورؤساء البعثات الدبلوماسية وممثليها في جمهورية ارمينيا..يحاكون مسيرة الموت التي سارها ابناء الشعب الارمني من مدنهم وقراهم في ارمينيا الغربية المحتلة والى صحارى سوريا في دير الزور والرقة والبصرى في العراق.
وقد زار هذا النصب منذ افتتاحه مئات الشخصيات المشهورة عالميا من رؤساء جمهوريات وسياسيين وفنانيين ونواب وأعضاء كونغرس وغيرهم كثر، وفي هذه المسيرة الحاشدة يحمل كل مشارك وردة واحدة يصل بها الى محيط الدائرة حول الشعلة المقدسة التي لا تنطفئ ابداً ويضعها هناك.
وصف النصب:
المسلّة ترتفع الى علو 44 مترا في إشارة إلى نهضة الأرمن الوطنية التي بدأت في العام 1921، بينما تتوضع شعلة الخلود على عمق متر ونصف المتر وتبقى مشتعلة طوال العام تخليدا لذكرى مليون ونصف المليون شهيد قتلوا على أيدي السلطات العثمانية في مطلع القرن الماضي وطرد الباقي من الأراضي التاريخية للأرمن وهي 12 محافظة اساسية كان يعيش فيها الارمن في ارمينيا الغربية المحتلة ويتم تمثيلها في النصب في الواح جناحية جدارية ضخمة ممتدة نحو السماء، واحدة لكل محافظة، وجميعها تحيط بشعلة الخلود الأبدية بشكل دائري.
أما على الطريق وباتجاه النصب تم تدشين جدار بطول 100 متر يحوي جميع أسماء القرى والمدن التي شهدت الإبادات الجماعية بحق الأرمن.
في هذا المجمع تم إقامة حديقة كبيرة يقوم المشاهير بغرس الأشجار فيها وتحمل الشجرة اسمهم للتذكير بحضورهم وزيارتهم لنصب الشهداء.
أما متحف الإبادة الجماعية الأرمنية فقد تم إفتتاحه بالقرب من نصب الإبادة سنة 1995 في الذكرى الثمانين للإبادة الكبرى.
في العام 1915 قلب الأتراك ظهر المجنّ للأرمن الذين تحولوا بنظر الاتراك من الأمة الصادقة الوفية الى الأمة الكافرة وتم لايحاء الى الاتراك أن ابادة الارمن واجب وطني وديني فكيف حدث ذلك؟
وفي 24 أبريل / نيسان 1915 تفجر الحقد الأعمى عن طريق جمع النخبة من الشعب الارمني أطباء ومهندسين واعضاء مجلس مبعوثان ومحامين وكتاب وشعراء وقادة احزاب واساتذة جامعات ورجال دين تم ابعادهم وقتلهم على الطريق عن طريق سحق رؤوسهم بالحجارة، وبعد ذلك بدأت سوقيات التهجير والابادة.
في 24 أبريل / نيسان 1915 تفجر الحقد الأعمى الذي سبقته محاولات لاستمالة أرمن شرق تركيا، حيث طُلب منهم القيام بأعمال في خدمة المجهود الحربي، ولكنها أعمال لا يمكن لمن في وضعهم القيام بها، لأنها تقع في دائرة الأوهام لاستحالة تنفيذها، والقصة أنه كان في جيوش القيصر الذي أزمع على مهاجمة السلطنة بعض مواطنيه الأرمن وهم ما دُعي بالأرمن الروس، وكان هؤلاء يشتركون مع أرمن تركيا بوحدة الأصل والدين واللغة، وقد طَلب ممثلوا الدولة وهم ممثلوا حزب الاتحاد والترقي في الولايات الشرقية، طلبوا من قادة الأحزاب الأرمنية أن يوعزوا إلى الأرمن الروس المنضوون تحت قيادة قيصر روسيا، بأن يتركوا قيصرهم وينقلبوا عليه، وينضموا إلى أرمن تركيا وإلى الأتراك لمحاربة روسيا بمعنى خيانة قيصرهم، وطلبوا وعداً بأن يضمن رؤساء أحزاب الأرمن في تركيا نجاح هذا الأمر، وعُقدت من أجل ذلك مؤتمرات حزبية وجاءت وفود وذهبت وفود وطالبت بعهود وكان جواب رؤساء الأحزاب في أرمينيا التركية بأننا كمواطنون أرمن في السلطنة فنحن نضمن أنفسنا ونضمن ولاء مواطنينا الأرمن لتركيا وعلم السلطنة ونضمن ولاء أبناؤنا الذين يخدمون العلم مع اخوتهم الاتراك في الجيش التركي، ولكننا لا نضمن ولاء الأرمن المنضوون تحت علم قيصر روسيا وليست لدينا أي سلطة عليهم، ولا يمكننا إعطاء أي عهد أو مقولة شرف بالنيابة عن غيرنا.
والويل والثبور وعظائم الأمور لكم ولجنسكم أيها الأرمن، وتم تعليم كل أتراك تركيا حتى المواليد الجدد، تم تعليمهم ترديد عبارة (الأرمن كاوور أي كفَّار وخاين أي خونة).
وذهب أنور باشا للحرب في صاري قاميش وكان الجيش التركي في ثيابه الرثة وأقدامه العارية فوق الثلج وقد تم صنع زحافات خشبية بدائية أرهقت الجيش وأعاقت حركته، في حين كان في جيش القيصر الكوزاك، المحاربين العتاة وأغلبهم يجيد الطيران بالزحافات ويطلق النار أثناء الطيران، وعلقت مدافع الجيش العثماني في الثلج وتجمد الجنود من البرد وتحولوا إلى أهداف متجمدة وأغلبهم لا يملك ملابس مناسبة وعدوهم يختال بمعاطف الفرو المخصصة لمثل هذه الحالة، فتم الإجهاز على معظم الجيش التركي الذي منيَّ بهزيمة فادحة، وكان القيصر بصدد إقامة حفلة شواء عامرة، احتفالاً بالنصر المبين، وكان قد أقسم على أن يكون أنور باشا قائد الجيش التركي ووزير الحربية على سيخ واحد مع أول غزال في حفلة الشواء هذه، وقد كان أنور باشا على قاب قوسين من الأسر، فتقدمت جماعة من الجنود الأرمن الأشاوس وكسروا حلقة الحصار وحملَّ أحدهم أنور باشا على ظهره وهرب به إلى الخطوط الخلفية وتولى الآخرون من الأرمن مهمة التغطية.
وانتشر خبر الهزيمة في صاري قاميش، وأعترف أنور باشا ببطولة منقذيه وقال أن شرفه العسكري يحتّم عليه الإقرار بذلك، ومع ذلك فلقد حمَّل الاتحاديون الأرمن أسباب الخسارة في صاري قاميش وكانت هناك جملة واحدة قابلة للفهم وهي: (الأرمن كاوور أي كفَّار وخاين أي خونة)، وكل ما عداها لا يُستمع إليه ويعتبر غير مفهوماً على الإطلاق.
وتم تحويل كتائب الجيوش المقاتلة من الأرمن في الجيش التركي إلى كتائب سخرة وتم تجريد الجميع من سلاحهم وتفريقهم إلى جماعات اقتيدت إلى جهات مجهولة وأمر أفرادها بحفر قبورهم وتم قتلهم جميعاً وإلقائهم في الحفر وتركوا في قبور جماعية مفتوحة وصاروا طعاماً للضواري وطيور السماء.
ولأن تركيا كانت في حالة النفير العام فلقد تم اقتياد جميع الذكور من عمر الثمانية عشر وحتى الخمسون بما فيهم دافعي البدل، وبالتالي فلقد فرغت كل المدن والضيع الأرمنية من ساكنيها، ولم يبق فيها إلاَّ الأطفال والأولاد والنساء والشيوخ والمرضى والعجائز، وتم إعلان الجهاد و استنفار الأكراد فشكلوا عصابات مسلحة فأغاروا على المدن والضيع فقتلوا ونهبوا وانتهكوا الأعراض وبدأت طوابير الترحيل والإبادة باتجاه ولاية سوريا وصحراء دير الزور، وكمن الأكراد للسوقيات خارج المدن واتفقوا مع حرس السوقيات على شراء كل سوقية على حدا، وعند وصول السوقية إلى مكان متفق عليه، يهرب الدرك، ويهجم الأكراد على أفراد السوقية فيقتلونهم جميعاً لتبدأ رحلة السكاكين في معدة وأمعاء القتلى بحثاً عن الذهب، فلقد كانت النساء الأرمنيات يبتلعن بعض الليرات الذهبية ليستعن بها على شراء الماء والطعام، أما الفتيات الجميلات فكن يُسقن إلى السبي فيجرب بهنَّ كل ما يمكن تجربته ليتم قتلهنَّ فيما بعد، ونجح العرب الرحل في تخليص بعض الأرمن من الموت فعقدوا على من بقي من النساء وتزوجوا بهنَّ، وأخذوا الأطفال وتولوا إنقاذهم وإطعامهم، وفي الولايات التركية استطاع بعض رجال الدين الأميركان من البروتيسانت استطاعوا جمع الأيتام ونقلوهم إلى لبنان وأخذوا بعضهم إلى الولايات المتحدة، ونجحوا في استعادة الكثيرين من بنات الأرمن من دور الأيتام التركية، وجاء السقوط المروع للسلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ليساعد الحلفاء في فرض شروطهم وإيقاف التنكيل بالأرمن وإنقاذ من بقي منهم على قيد الحياة وتوقفت عمليات الإبادة والتنكيل بمكرمة من الشريف حسين قائد الثورة العربية الكبرى وهي الآتية:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده
الديوان الهاشمي
من الحسين بن علي ملك البلاد العربية وشريف مكة وأميرها إلى الأمراء الأجلاء الاماجد فيصل والأمير عبد العزيز الجربا السلام ورحمة الله وبركاته أما بعد.
صدرت الأحرف من أم القرى بتاريخ 18 رجب 1336 نحمد الله الذي لا إله إلا هو إليكم ثم نصلي ونسلم على نبيه وآله وصحبه وسلم. ونخبركم بأنا والثناء له تبارك وتعإلى بصحة ضافية وافية أسبل الله علينا وإياكم سوابغ نعمه.
وإن المرغوب بتحريره المحافظة على كل من تخلف بأطرافكم وجهاتكم وبين عشائركم من الطائفة اليعقوبية الأرمنية تساعدوهم في كل أمورهم وتحافظون عليهم كما تحافظون على أنفسكم وأموالكم وأبنائكم وتسهلون كل ما يحتاجون إليه في ظعنهم وإقامتهم فإنهم أهل ذمة المسلمين والذي قال فيهم صلوات الله عليه وسلامه (من أخذ عليهم عقال بعير كنت خصمه يوم القيامة) وهذا من أهم ما نكلفكم به وننتظره من شيمكم وهممكم والله يتولانا وإياكم بتوفيقه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحسين بن علي
وكانت قصص مروعة ومحاولات مستميتة لتضميد الجراح ولمّ الشمل والبحث عن الأحياء والبحث عن الأطفال الذين ضاعوا في غياهب الصحراء أو قضوا على جنبات الأنهار دون تمكينهم من بل شفاههم بالماء لا وهم على قيد الحياة ولا بعد مفارقتهم لها، وكان هناك من الأكراد من يقف حائلاً بين العطشى وبين ماء الله يطلب ليرة ذهب مقابل رشفة ماء.
وقد دارت الدوائر على هذا الحائل الكردي فظهر حائل جديد قديم هو حائل تركي يحول ما بين الأكراد و الماء وقد أحرق الأتراك كل قرى الأكراد في تركيا مكافئة لهم على إحراق قرى الآخرين وشرد أطفالهم كما شردوا أطفال الآخرين وتحوّل أطفال الكرد إلى ماسحي أحذية على كل أرصفة آسيا الصغرى والبلاد التي تجاورها.
وانتهت الحفلة وكانت لها نتائج مروعة فلقد تم إبادة 75% من أرمن تركيا ونجى البعض بفضل العرب وهرب آخرون إلى أرمينيا، وهذا يتضح من المقارنة الآتية: لقد كانت هناك شعوب جاورت الأرمن وقت الإبادة الكبرى وكان عدد سكانها مجتمعة يقارب عدد سكان أرمن تركيا قبل الإبادة، وقد صار عددهم اليوم يناهز المائة مليون إنسان في حين بقي عدد الأرمن بعد 102 سنة من الكارثة وفي أنحاء المعمورة، أقل من عددهم الذي وصلوا إليه قبل عام الكارثة، ومن ينظر إلى هذه المقارنة بعين العقل، يدرك فداحة الأمر.
تم استباحة واغتصاب كل الأرض التاريخية التي عاش عليها الأرمن منذ آلاف السنين، والتي كانت تسمى (أرمينيا) فضاعت منهم بجبالها وأنهارها ووديانها، وضاعت سواحلهم وشطآنهم وبحيراتهم، وفقدوا آراراد بقمتيه الذين لهما رمز قدسي لدى الشعب الأرمني.
وضاعت آني عاصمة أرمينيا القديمة بأبراجها وأسوارها وبواباتها وسهولها وأنهارها وبحيراتها وخسروا فان وورود سهولها وغزلان معبد آختامار، وخسروا اسماك الطارخ التي كان يتم اصطيادها من قبل رهبان دير الصليب المقدس في جزيرة آختامار، والذين كانوا يستخدمون قوارب تسير بالتجديف للوصول مع المؤمنين لزيارة الدير، وهو الدير الوحيد الذي سَلِم من ديناميت الكماليين وتم تحويله اليوم إلى متحف.
وكان من ينظر إلى أديرة الأرمن ومعابدهم وكنائسهم ومزاراتهم يعتقد أنه لا عمل للأرمن إلاَّ إشادة الكنائس وبناء المعابد والأديرة والتفنن فيها من الخارج وتزيينها بالمنحوتات وبالرسومات البديعة من الداخل، وحتى المقابر فكان هناك ما يشبه الشاهدة توضع بشكل عمودي جهة رأس القبر وتسمى الخاتش كار أي الصليب الحجري وكان يتفنن بنحتها الفنانون فينحتون على سطحها الأملس صليب مزين بصلبان منمنمة، ولأن العمل يدوي بحت فلقد خرجت الألوف من أشكال الصلبان الغريبة المزخرفة بشكل بديع، جرى تحطيمها كلها ولا زالت أجزاء منها مزروعة في جدران منازل الأكراد أو في أسوار الإسطبلات أو عتبات البيوت في القرى، فضاع هذا الفن في غالبيته وهو أرث عالمي ثمين لم ينتبه إليه أحد وتعتبر الخسارة الناجمة عن هذا الفعل خسارة عالمية، تتعلق بحضارة الإنسان وأنشطته الحياتية على الأرض.
والسؤال الآن ماذا بعد مرور 102 عام على الابادة ؟؟؟
الجواب : الارمن حول العالم يعتبرون ان الابادة قد بدأت اليوم.
بقلم: آرا سوفاليان – 15/04/2017