عندما كان المطر ينقر على شبابيك بيتنا العتيق و المزراب يدلف ماءاً فرحاً ليغسل حوش بيتنا كانت المدفأة تدمدم لهباً و حرارة و قشور البرتقال تملأ الغرفة عطراً قادماً من زمنٍ مضى …. عندها كنا نهزم وحشة الليل بالإصغاء لحكايات أهلنا عن وطنٍ جميل غادروه عنوة ذات حقد …. عن بلاد ضمت أحلام أهلنا ثم بددتها رياح الحقد الصفراء اتقتلعهم من جذورهم هاربين من الموت تاركين خلفهم أشلاء أهلهم و بقايا ذكرياتهم معلقة على جدران بيوتهم البسيطة و الانيقة في آنٍ معاً .
في عيون أهلنا و هم يروون لنا حكايات و حكايات عن مجزرة و دماء استبيحت كان يلمع بريق دمعة حزينة و لكن صوتهم لم يكن يتهدج أو يتلكأ ليفصح عن قوة الحياة داخل الأرمني التي هزمت الموت الحاقد .
و بعد سنوات كانت الكلمات البسيطة و العميقة تلك تستقر في ثنايا الذاكرة و تتعربش على جدران الروح و تستفز العقل ليبحث و ينبش في دفاتر الماضي الحزين …. و أيضاً تحث الخطى لتزور ارض الأجداد و لتسلك طريق الحنين لتلك الدماء البريئة التي اهرقت على مذبح الحقد .
و بعد سنوات كان عليّ ان ادرك ان صرخة الألم في اغنية هاروت باموبجيان ” اور يير اسفاتز ” اين كنت يا الله يوم ذُبحنا ؟؟ لم تكن تحمل كفراً بل كان الكفر بعينه ما فعله الاتراك الذين حتى يومنا هذا يسمون الأرمني بـالـ كاورر أي الكافر ؟؟!!!! .
و كان عليّ أن اعرف ان كل هذا الشجن الذي ينهمر من الة (( الدودك )) الموسيقية الأرمنية ليس سوى اختصار لكل الألم و الحزن الأرمني و صفعة تلطم كل من يشيح ببصره عن دماء الشهداء الأرمن ….
و كان عليّ ايضاً أن اراقب والدي و هو يقتني بشغف كل ما كان يرد من أرمينيا للقامشلي من بضائع بطريقة تشي بحنين مزمن و يفخر بانه قد علق لوحة نحاسية للبطل الأرمني فارطان ماميكونيان في بيتنا ،و يروي بكثير من الألم ساعات السفر الطويلة التي كان يقل فيها الأرمن المهاجرين بباصه الى اللاذقية في موجة هجرتهم الثانية لارمينيا عام 1966 بعد أن سبقتها الهجرة الأولى عام 1946 .
و كان عليّ ان احترم نبل دموع صديقي البدوي الأسمر و هو يروي حكاية جدته الأرمنية هايكانوش التي آوتها عائلة من بدو الجزيرة السورية و هي طفلة هاربة بعد ان ذبح كل أهلها امام عينيها البريئتين ،و رغم انها أصبحت زوجة و اماً و جدة في عائلة بدوية الا انها كان تطلب من حفيدا ان يذهب بها الى كنيسة الأرمن بالقامشلي مرتين في العام لتقف من بعيد تبكي أهلها و تصغي لاحتفالات 24 نيسان ذكرى المجزرة و للحزن الذي يغلف أجراس الكنيسة في يوم الجمعة العظيمة .
و كان عليّ أخيراً ان امتطي اجنحة الحنين و ارشف من ذكريات والدي و ازور مسقط رأسه حصن كيف حيث تم مجزرة إبادة المدينة عن بكرة ابيها و كتبت بعدها قصة في الطريق الى الحنين و من ثم كتاب أبواب الحنين …..
الان ….
الأرمني الذي تطارده دماء شهداء اجداده و لكنه يغفو مطمئنا لان سوغومون تيرليان انتقم للدماء المستباحة بقتل طلعت باشا في برلين بألمانيا ولان بيدروس در بوغوصيان وستيبان دزاغجيان،قتلا جمال باشا في منفاه بجورجيا ،و لان أنور باشا الضلع الثالث في مثلث الشر و الحقد التركي قتل في بخارى بمعارك ضد الجيش البلشفي .
الأرمني يعشق عمله و يتقنه لدرجة الحذاقة …. مهما كانت مهنته لانه تعلم ان يكون مخلصاً لمهنته و بارعاً في ادق تفاصيلها …. صناعي لا يشق له غبار … طبيب متميز … مصور مؤتمن على ضحكات الناس و اسرارهم …. طباخ ماهر تأكل البسطرمة و السجق حارقين من يديه و تطلب المزيد … ترتدي من بين انامله بدلة انيقة و تسرحِ شعركِ تسريحة مغناج ….
الأرمني يحمل لمجتمعه مدارس و كنائس و كشافة …. و لكنة محببة تميز نطقه للغة العربية … و هاجس الدماء التي سالت لاجداده ليذكر الجميع بها بلا كلل او ملل مؤكداً أنه شعب يستحق الحياة ….
على ملامح الأرمني ترتسم ملامح معدنه الأصيل و عند عتبة بيته يبقى هاجس المجزرة يؤرقه حتى تستعيد العدالة و الحقيقة اشراقتها من جديد لتهمس في اذن مليون و نصف مليون شهيد ارمني … اغفوا الان بهدوء .
المصدر: Allnewsjo.com