أنظار العالم اتجهت في العقدين الأخيرين بكثافة وتركيز نحو الجزء الأوسط من خريطة العالم؛ أي الشرق الأوسط، الأمر الذي ساهم في حرف بوصلة الإعلام والمراقبين والمحللين عن الاهتمام بمنطقة أوروآسيا التي اعتبرها في السابق العالم الجغرافي وأحد مؤسسي علم الجيوبوليتيك، هالفورد ماكندر، “قلب الأرض” أو “قلب المنطقة”، عندما تحدث عن نظريته الأقدم في علم الجيوبوليتيك.
هذا التغييب الذي تعرضت له دول القوقاز وما حولها يجعل من الطبيعي ألّا يعرف المراقبون اليوم ماذا جرى في أذربيجان وأرمينيا بالضبط في الأيام القليلة الماضية؛ ومن هو الطرف الذي بدأ القصف الذي تحوّل لاشتباك عنيف بين الجيش الأذري والقوات المسلحة الآرتساخية في كاراباخ، الذي تدعي أذربيجان أنه محتل من قبل أرمينيا.
واعتبر هذا الاشتباك الأعنفَ منذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب بين أذربيجان وأرمينيا عام 1994. حصل ذلك وسط نزاعات متشابكة نشبت بين جهات عدة في تلك المنطقة عقب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، الذي أدى إلى ظهور أقاليم جديدة ورسم جديد للحدود، مع تشكل تحالفات متنوعة تضمن تغذية الصراعات الموجودة.
وإذا عدنا لجذور الصراع الحالي نجدها تعود لأكثر من ربع قرن، فالصراع بجانب منه يعود لصدع عميق بين الأرمن والأذريين، وقد تشكل هذا الصدع بجزء منه نتيجة للانهيار العشوائي الذي اتسم به إلى حد كبير الاتحاد السوفييتي السابق.
يذكر أن الاشتباكات الأخيرة ليست الأولى خلال العقدين الأخيرين، حيث يتجدد القتال من وقت إلى آخر نظراً لأن وقف إطلاق النار لم يتبعه اتفاقية سلام دائمة، لكن المعارك المتفرقة لم تصل إلى حد جذب انتباه المجتمع الدولي والإعلام العالمي المشغول بالصراعات في أقاليم أخرى، إلا أن الصراع الأخير لاقى انتباهاً لعدة أسباب.
فبحسب المعلومات التي تناقلتها الصحافة فقت خسر الأذريون العشرات من الجنود والأليات والدرعات كما قامت أرمينيا باسقاط عدة طائرات من دور طيار بعضها اسرائيلية الصنع.
إضافة إلى ذلك، استرعت الاحداث اهتمام المجتمع الدولي وأصدرت بشأنه تصريحات تشير إلى طبيعة التحالفات الإقليمية الموجودة بالنسبة لتلك المنطقة، فقد صرّح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن تركيا تقدم دعمها الكامل للحكومة الأذرية واعتبر قتلى الجيش شهداء، وأكدت العلاقة القوية بين تركيا وأذربيجان والوقوف لجانبها بصراعها ضد أرمينيا “حتى النهاية”.
من جانب آخر، على الرغم من قيام روسيا بدور الوسيط ودعوة الطرفين لـ”ضبط النفس” والتعبير عن الأسف؛ بسبب تدهور الوضع وتحوله لمواجهة مسلحة، إلا أنها كانت حليفاً طبيعياً ودائماً لأرمينيا، والدليل على ذلك وجود قواعد عسكرية روسية فيها.
وعلى الرغم من دعوات التهدئة، فإن الأطراف غير معنية بالتوصل لمصالحة أو تسوية فعلية، فكلّ من الجانبين لديه مصالح في تغذية الصراع، وتعتبر الفترة الحالية ملائمة لتأجيج الصراع؛ فمن ناحية يحكم أذربيجان نظام إلهام علييف المستفحل في الفساد، والذي لم يمر وقت طويل على بروز اسمه في وثائق “بنما” التي دلت على إخفائه للعديد من نشاطاته المالية عن طريق الملاذات الضريبية.
ومن ناحية أرمينيا، يحكمها سيرج ساركيسيان الذي أسس مهنته السياسية بالاعتماد على وجود وتغذية الصراع في كاراياخ، ودأب على إبقاء احتمال نشوب حرب جديدة تثبيتاً لحكمه، ومع اقتراب انتهاء ولايته الأخيرة المسموح بها في الدستور قد يكون الوقت مناسباً لترك “بصمة” وطريق ممهد للرئيس الذي سيليه.
– إسرائيل حاضرة في أذربيجان بقوة
لأذربيجان العديد من المميزات الاستراتيجية التي تجعلها تتفوق على أرمينيا، أهمها أمران؛ أولاً هي تطوّق الإقليم الموالي لأرمينيا من كل الجوانب، كما أن مدخول جيشها أكثر من مدخول الجيش الأرمسني نظراً لأموال النفظ المصدرة التي يتم تخصيص يعضها للميزانية العسكرية، على عكس أرمينيا الصغيرة مساحة، لكنها بالمقابل تتلقى دعماً عسكرياً روسياً كبيراً.
في هذا السياق يذكر أن موسكو تقترح إرسال قوات “لحفظ السلام” إلى كاراباخ، وقد حذرت بشكل واضح أذربيجان من محاولة استعادة السيطرة على الإقليم، وهنا يذكر أن تقديم الدعم العسكري هو أحد طرق روسيا الأبرز للحفاظ على سيطرتها على دول الاتحاد السوفييتي السابق، واستخدامه وسيلة ضغط لمنع دول المنطقة من التقرب من الغرب على حساب روسيا.
وتعتبر أذربيجان مطمعاً لكثير من الدول التي تسعى لأخذ نصيبها من قطاع صناعة الطاقة فيها، ونظراً لانخفاض أسعار النفط والانتقادات اللاذعة لانتهاكات الحكومة الأذرية لحقوق الإنسان فقد بردت العلاقة بينها وبين الغرب، مقابل محاولات ملحوظة في العام الأخير للتقرب من موسكو، وهذا ما قد يفسر محاولة موسكو لإطفاء المعركة الأخيرة.
وليست روسيا وتركيا الدولتان الوحيدتان اللتان تسعيان للاستفادة من مكانة أذربيجان، فدولة إسرائيل كذلك على الرغم من بعدها الجغرافي موجودة في الساحة الأذرية؛ فبحسب صحيفة “هآرتس”، تعتبر إسرائيل لاعباً في معركة القوى هناك بعد أن أصبحت مصدر النفط الأساسي للاحتلال الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، بعد إنشاء أنبوب نفط يمر من جورجيا وتركيا.
بالمقابل، بحسب الصحيفة، أصبحت أذربيجان زبوناً أساسياً للسلاح الإسرائيلي، فقد اشترت طائرات دون طيار ونظم دفاع جوي، فأهميتها بحسب دبلوماسيين إسرائيليين تكمن في كونها “شريكاً استراتيجياً”، قد ازداد في السنوات الأخيرة خاصة بعد تدهور العلاقات مع تركيا، كما أنه بنظر الإسرائيليين تعتبر أذربيجان حليفة محتملة ضد إيران، فعلى الرغم من أغلبيتها الشيعية إلا أن نظاماً علمانياً يحكمها ممّا يجعلها “جارة عدو” لإيران، وهو ما تعتبره إسرائيل باباً خلفياً لها.
وتضيف الصحيفة أن العلاقة مع إسرائيل ليست مخفية من جانب أذربيجان، فقد صرح مسؤولون عن رغبتهم بأن يتم استخدام انابيب عن طريق تركيا لنقل الغاز الطبيعي الإسرائيلي. وهنا تلفت الصحيفة النظر أن العلاقات القوية بين أذربيجان وتركيا منعت الاحتلال الإسرائيلي من الإعلان رسمياً عن اعترافه بمذبحة الأرمن، مراعاة لموقف أذربيجان من ذلك، هذا إلى جانب مصلحة إسرائيل بتغذية الصراع مع أرمينيا لتستمر بتزويد أذربيجان بالسلاح.
هذا الدعم العسكري لم يخفَ على أرمينيا ولم يتركها تقف مكتوفة الأيدي. فبحسب ما ذكرت صحيفة “هآرتس” العبرية مؤخراً فإن سفير أرمينيا في دولة الاحتلال الإسرائيلي تقدم بمذكرة اعتراض وشكوى حادة اللهجة على الدعم العسكري الذي تقدمه إسرائيل للجيش الأذاري. وذكر في المذكرة أن الجيش الآذري في المواجهات الأخيرة استخدم طائرة إسرائيلية بدون طيار تعرف باسم “الطائرة الانتحارية” إذ تفجر نفسها عند الوصول للهدف، الأمر الذي تسبب –بحسب السفير-بمقتل 7 متطوعين أرمن. إلا أن وزارة خارجية الاحتلال رفضت طلب الصحافة الإسرائيلية بالتعليق على المذكرة، كما رفضت التعبير عن موقفها تجاه الصراع بين أرمينيا وأذربيجان.
المصدر: الصحافة الخليجية + وكالات