لم يكن للقاعة الممتلئة في «مكتبة الأسد الوطنية» في دمشق أن تشهد حدثاً مماثلاً، لو كانت العلاقات التركية ــ السورية على ما كانت عليه في العقد الأول من هذا القرن.
لكن الحرب بين البلدين، كما يسميها صراحة مسؤولون سوريون كثيرون في الكواليس، والحرب بالوكالة التي تخوضها تركيا ضد الدولة السورية ونظامها السياسي، كما هو معلن، شجعت الجانب السوري على التخلي عن محظورات كثيرة، فرضتها العلاقة الإستراتيجية السابقة بين البلدين، ومن بينها الدعاية السياسية والإنسانية، إن صح التعبير، لذكرى مجازر الأرمن، والتي تحل ذكراها المئوية في نيسان من العام الحالي..
ووقع السفير الأرمني في سوريا آرشاك بولاديان، أمس الأول، كتاباً بعنوان «شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية» ألّفته مجموعة من الباحثين.
ووصفت وكالة الأنباء السورية ــ «سانا»، التي نشرت تقريرا عن الاحتفال على صدر صفحتها الالكترونية، الكتاب بأنه «يبرز وثائق عن الفظائع التي ارتكبها قادة (حزب تركيا الفتاة) ضد الشعب الأرمني في كنف الإمبراطورية العثمانية، والتي تجاوزت ضحاياها المليون ونصف المليون من الأرمن الأبرياء».
كما عرض خلال الحفل فيلم وثائقي بعنوان «مجزرة العثمانيين العظمى»، وهو من إعداد وإنتاج التلفزيون العربي السوري، وقد تضمن «ما قامت به الإمبراطورية العثمانية من محاولة إبادة الشعب الأرمني في العام 1915، وذلك تنفيذا لتعليمات المسؤولين الأتراك في ذلك الوقت الذين دعوا لقتل الأرمن وإبادتهم وعدم الشفقة بهم»، وفق «سانا» ايضاً.
وامتدت مجازر الأرمن، التي صنفت تاريخياً باعتبارها «إبادة جماعية» بين العامين 1894 و1923، وكانت سبباً في هجرات كبيرة للأمة الأرمنية إلى بلاد قريبة، مثل سوريا، وأخرى بعيدة، مثل الولايات المتحدة.
واهتم عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد بالعلاقات الأرمنية ـــ السورية، من منطلق سياسي، شجعت عليه حالة العداء مع تركيا من جهة، ومنطلق ديموغرافي، بسبب قوة الشريحة الأرمنية اقتصادياً ومالياً في البلاد، حيث كان تعدادها يقارب ربع مليون نسمة.
وزرع الأسد الراحل شجرة أمام النصب التذكاري لـ «شهداء الأرمن» قرب العاصمة يريفان، خلال زيارة قام بها لأرمينيا في العام 1979، علماً بأن روايات عدّة تشير إلى أن النصب الذي يشرف من هضبة على أضواء العاصمة، بني بمبادرة من «أرمن سوريين» مقتدرين.
لكن تحسن العلاقات التركية ــ السورية لاحقاً، في عهد الرئيس بشار الأسد، فرض تراجعاً عن تبني قضية الأرمن، والتي كانت القيادة السورية تفضل الحديث عنها باعتبارها قضية «جدل تاريخي»، وإن حملت طابعاً إنسانياً، وأنه يمكن للطرفين، التركي والأرمني، التوصل إلى حل بشأنها بالحوار، حتى أن مسؤولين سوريين ألمحوا خلال زيارة الأسد إلى يريفان في العام 2009 إلى إمكانية أن تلعب العلاقات السورية ــ التركية دوراً في تقريب وجهات النظر بين يريفان وأنقرة، استناداً الى العلاقة التاريخية بين يريفان ودمشق من جهة، والثقة المتزايدة بين تركيا وسوريا من جهة أخرى.
وتزامنت الزيارة حينها، مع أنباء عن قرب حصول لقاء بين وزيري خارجية البلدين في ذلك الوقت ادوارد نالبانديان وأحمد داود أوغلو، الأمر الذي دفع الأسد إلى تجاهل إلحاح الجانب الأرمني على زيارة الصرح التذكاري لـ «شهداء الأرمن»، تجنبا لعرقلة هذه المساعي، وإزعاج الحليف التركي.
إلا أن العلاقة سرعان ما توترت بين أرمينيا وتركيا، وقد ألقت بظلالها على زيارة قام بها الرئيس الأرمني سيرج سركيسيان إلى دمشق في العام 2010، حيث تكرر الحديث عن إمكانية أن تلعب سوريا دوراً في استعادة أجواء الثقة بين البلدين.
وكانت سوريا حينها في موقعها «كمحايد إيجابي»، وقد كرر الأسد، خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الأرمني، القول إن «علينا، كدولة ترتبط بعلاقات طيبة بالبلدين، أن نحاول حلها بشكل أو بآخر. وأعتقد أن الرئيس سركيسيان، والمسؤولين الأرمن يثقون ثقة كبيرة في نياتنا تجاههم. ولذلك سوف نتحرك مباشرة بهذا الاتجاه بعدما لمسنا تشجيعا من الرئيس سركيسيان».
إلا أنه بعد عام تماماً من هذا التاريخ، بدأت العلاقات السورية ــ التركية بالانحدار بشكل سريع. وفي الوقت الذي كان داود أوغلو يزور دمشق، بين وقت وآخر، مقدماً «اقتراحات لاحتواء الأزمة» الناشئة في درعا ــ ولكن المشرعة الأبواب على كامل سوريا ــ كان رئيس وزراء تركيا وقتها رجب طيب اردوغان يشير في خطبه إلى «مجازر حماه» وينتقد حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد، وصولا إلى توجيه انتقادات طالت الجانب الشخصي من علاقة الزعيمين.
وجاء العدوان الذي شنته «جبهة النصرة « على كسب في آذار العام 2014، ليضيف بعداً جديداً على هذه العلاقة الثلاثية.
وبالرغم من أن سركيسيان طلب من «الجالية الأرمنية « في سوريا أن «تقف على الحياد في الصراع الدائر» في بيان صدر في نيسان العام 2014، تزامنا مع الاعتداء الذي قامت به «جبهة النصرة» نزولا من الحدود التركية باتجاه كسب، الا انه اضطر بعد ذلك بأيام، ومع تقدم الجيش نحو المدينة، واحتواء اللاجئين والهاربين من الحرب، إلى أن يوجه شكراً إلى «السلطات السورية على الخطوات التي تتخذها لحماية الأرمن في كسب الذين اضطروا لمغادرة وطنهم مرتين»، وذلك وفقا لما نقلته صحيفة «الوطن» في نيسان من العام 2014، اي بعد شهر من العدوان، وقبل شهر آخر من استعادتها من قبل الجيش السوري.
بالطبع، اكتسبت العلاقات طابعاً متجدداً من «المزاج المشترك» اتجاه «العدو التركي». وفيما يستثمر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كل قدرات تركيا وتحالفاتها بهدف قلب النظام الحاكم في سوريا، يرسل سركيسيان برقيات التهنئة، وآخرها إلى نظيره السوري لمناسبة «فوزه بالانتخابات الرئاسية»، وأعرب فيها «عن أمله بتمكن سوريا من استعادة الأمن والاستقرار في سبيل رخاء وازدهار الشعب السوري».
بقلم: زياد حيدر / نقلا عن صحيفة السفير