10507.jpg

الأرمن والشام! .. بقلم: إسماعيل مروة

كان أهلنا قبل عقود يوصوننا أن نقصد محلات الأرمن لشراء حاجياتنا، فهم أناس متقنون لمهنهم، وقادرون على تقديم أفضل الأشياء، وبأسعار مقبولة غير خاضعة لأي نوع من المساومة، وفوق ذلك فإنهم يلتزمون أدبياً بالحاجيات التي يبيعونها، وزد على ذلك لمسة الذوق العالية التي تختلف عن السائد في الأغراض التي يصنعونها. وأعترف بأنني لم أكن في بداية الأمر مقتنعاً بهذا التوجيه، فأغلب الذين عرفتهم منهم لا يثرثرون، ولا يجاملون، بل يلتزم أحدهم الصمت حيالك، ولا يقدم لك النصح، ولا يجامل في السعر، ولا يبدي اهتماماً بك ظاهرياً، وبقيت كذلك سنوات حتى أيقنت أن نصائح الوالد صحيحة، فالأشياء التي تشتريها من الإخوة الأرمن ذات جودة مقبولة إن لم تكن عالية، وسعره مختلف عمّا في السوق… والعم انترانيت واحد من هؤلاء الذين أتعامل معهم منذ عقود، وأحمل ما أشتريه منه دون تفحص، لأنني على ثقة بما يقدمه، وفي أكثر من مرة، أعود إليه لخلل ما، فلا يناقش مطلقاً، وربما أعاد الأمر بعد استخدامه أو أصلحه على حسابه الخاص… لكن ما لم أكن أحبه أن العم انترانيت بقي على تحفظه وعدم رغبته بالحديث كثيراً، وفي مرات عديدة أتحرش به، فلا أجد منه إلا الابتسامة والصمت… لكن مشاركة ولده له في العمل غيّر الأمر بعض الشيء، فقد صار الشاب محدثاً ومناقشاً وأكثر اجتماعية…

دون مقدمات صار العم (انترانيت) وابنه الشاب يتجاذبان أطراف الحديث معي، ولا أزال أذكر كيف ناقشني هذا العم في تفاصيل ما أكتبه وأتحدث به عبر منابر عدة، ولكنه احتفظ بلكنته المحببة في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر، مع أنه لا تخلو طاولته من الصحف كلها التي تصدر في سورية، يقرؤها بالعربية، ورأيته يشطب في جداول الكلمات المتقاطعة…

لا يمر أسبوع دون أن أراه وأتحدث معه، وفي غمرة ما تعيشه سورية من أزمة عاصفة، وفي ظل واقع اقتصادي قاس. قصدته وأخذت من بضاعته، وحين راجعته فيها، أصلحها وأعادها على أفضل حال، وألح في ألا أتنازل عن حقي في جودة البضاعة، وكلما سألته كانت إجابته دوماً: الله كريم مستورة.. لا حركة ولا زبائن، لكن فنجان قهوته لا يغادر مكانه، وأناقته لا يتنازل عنها وهو الخواجة الأنيق، عدة عمله بيديه، ولكنه يحتفظ بأناقته ونظافته غاية الاحتفاظ، بالأمس زرته، فأجلسني للحديث، وجاءني في الوقت نفسه مكالمة من صديق عزيز غادر سورية مع الأزمة، يتحدث عن شوقه للشام، وحبه لها، ويدعو لها بالخلاص مما هي فيه، كنت أتحدث مع صديقي والعم يهز رأسه ويبتسم بود، وحين انتهيت من مكالمتي، طلب مني الجلوس… لمعت الدمعتان في عينيه وقال لي: لو كان يحب الشام لم يتركها.. الذي يحب شيئاً لا يتركه، فبادرته: وأنت لمَ لم تغادر إلى أرمينيا أو سواها؟

أجانبي العم انترانيت: يمكن أن أذهب إلى أرمينيا، أو إلى أميركا، فأسرتي هناك كبيرة، سافرت في زيارة، حاولت التأقلم، لم أستطع، أمي ماتت هناك، دفنت في أميركا، أما أنا فقلت لهم: أنا أرمني، هويتي سوري، سأموت في الشام لأدفن جانب أبي الأرمني المدفون في الشام، حتى في أرمينيا لا أعيش، فأنا ولدت هنا، وأسرتي هنا، ولا أستطيع أن أغادر حارتي، ليس الشام فقط، بل حارتي، عندما أغادرها أصبح غريباً، عندما كنا غرباء استقبلتنا الشام، الآن وهي تشعر بالغربة بدي روح؟ وين ما كان رح يموت، ليش روح على مكان تاني؟ في لبنان لنا أسرة وأقارب وفي كل مكان، لكن الذي أحبه هو الشام، الله يفرّج علينا وعلى الشام… إذا رحت واتحسنت الأمور إن شاء الله كيف أنا برجع؟

يرد العم الكرم بالكرم، والوفاء بالوفاء، عندها عرفت لماذا لا مجال للثرثرة عند الأرمن، فعواطفهم صادقة وعملية، وأحدهم لا يحيد عنها مطلقاً، وهم لا يوزعون الحب والعواطف بشكل مجاني، وربما كان هذا وراء احتفاظهم بخصوصيتهم المجتمعية والقيمية رغم السنوات الطويلة التي جعلتهم من النسيج السوري، لكن النسيج المختلف الذي يعنيه أن يتقن عمله ويكسب ثقتك وحسب ولا يريد أن يكسبك بالحديث المعسول فقط.

وحتى لا أكون بعيداً عن الواقع، لا بد من الإشارة إلى أن الأرمني إن أحبك ولمس إخلاصك تحولت عنده إلى مركز اهتمام، وتصبح واحداً من أسرته الأرمنية الكبيرة، وهو يحمل ما يراه جميلاً لك ولا يتركه لحظة، وأذكر أنه لمجرد أن تحدثت عن شخصيات سورية تركت بصمتها في الحياة، وهي أرمنية، مثل أديب إسحق الأديب الموسوعي، وربا الجمال شهاب الغناء الذي لم تطل إقامته بيننا، فقد حظيت من الأرمن بتقدير خاص وانعقدت صداقات عزيزة قادت إلى محاضرة في الجمعية الأرمنية في ذكرى الإبادة الأرمنية العام الماضي، وصادف لدي ظرف قاس وخاص، لم تتوقف أسئلتهم عني وعن الأسرة والظروف لدرجة تمنيت معها لو لم يعلموا من شدة حرجي من هواتفهم وأسئلتهم ومتابعتهم، وهذا لم يحدث من الذين أظنهم مقربين، بل إن عدداً منهم عرض علي الإقامة لديه، فهل هناك أرقى وأصدق من هذه العواطف؟

عرفت منهم الكثيرين، ومن مختلف الاحتصاصات، فالدكتور المتفوق ليون الطبيب الذي يعتني بك أكثر منك، والدكتور سركيس بودتزسيان، وهو الباحث والمؤرخ، إن سمع بكتاب يهمك، تراه يأتي به دون أن تطلبه وشعاره (في سبيل الاكتواء بنار المعرفة ومحاكاة مأثرة الجاحظ الخالدة).

كثيرون هم الذين أعرفهم من الأرمن، ومن مهن عديدة ومختلفة، وكلما أردت الحديث عن أحدهم لا أجد الأمر ملحاً، وأعتبر هذا الأمر من القضايا الإنسانية الذاتية، لكن حديث العم (إنترانيت) بالأمس أدخل رأسي في الكيس الأسود لآلة التصوير البدائية التي برع فيها الأرمن لدرجة صارت تدعى تصوير الأرمن والعجائز يقولون: المصور الأرمني، والصور الأرمنية، إلى درجة خصوا بها الأرمن، دخل رأسي في الكيس الأسود على ضفة بردى قبل أكثر من أربعين عاماً لألتقط الصورة التي أقدمها للمدرسة لأبدأ أولى خطواتي، وعند تظهير الصورة أو تحميضها أو غسلها تظهر صورة بالأسود والأبيض، ناصعة غاية النصاعة، ويظهر فيها العم إنترانيت ورحلة طويلة طويلة لأرمني أحب أرضه، تعذب لأجلها، فارقها وتوجه صوب الشام الأمان، لا يرى الأمان في غير شام وشاماتها، ولا يريد أن يستمر في غربته الدهر كله!

بودي أن أنقل مشاعر العم ودمعاته وهو يردد معي: أريد أن أموت على رصيف الشام لأدفن إلى جوار أبي مع هويتي السورية!

scroll to top